العشر الأواخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

العشر الأواخر من رمضان هي العشر الفضليات منه، لأنها أرجى ليالي القدر، وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يخصها بمزيد من التبتل والانقطاع لله جل وعز، كما قال أنس، رضي الله عنه: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا شهد رمضان قام ونام فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضا»، وقالت عائشة، رضي الله عنها:«كان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»، وهو كناية عن الاجتهاد في العبادة، فلا يهتم عند دخول العشر بشيء آخر غير الانقطاع لله الواحد الأحد، فيحيي ليله بالقيام، ويعتزل الناس والنساء، ويدخل معتكفه حتى ينقضي الشهر، كما روى عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر الأواخر من رمضان»، وقالت عائشة، رضي الله عنها: «إن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده»، وإنما كان صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك، وإن كان كل وقته تعبداً لله تعالى، فليس في وقته عليه الصلاة والسلام ما يعد لهواً أو عبثاً، إلا أن للاعتكاف خاصية أخرى عن سائر العبادات، ففيه تخلية النفس مع الحق سبحانه فيظل المرء متذكراً ربه متفكراً في آلائه وآياته، وهي الحال التي كان قد نشأ عليها النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتحنَّث بغار حراء، فيختلي بنفسه مع ربه يتفكر في آياته الكونية فيزداد تعظيماً له وإجلالاً، وظل كذلك ستة أشهر حتى جاءه الوحي، فكان اعتكافه صلى الله عليه وسلم تشريعاً لأمته هذه العبادة الخاصة بالمساجد، كما قال سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فالآية الكريمة تتحدث عما شرعه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لأمته من عبادة الاعتكاف وأقرته عليه، وبينت بعض أحكامه أنها لا تكون إلا في المسجد، وأنه لا يصح فيها مباشرة النساء، وقد تأسى الصحابة، رضي الله عنهم، بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأولهم أزواجه، رضي الله عنهن، كما قالت عائشة، رضي الله عنها: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، قالت: فاستأذنتُه، فأذن لي، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت، فلما رأت ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها قالت: وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية، فقال:«ما هذا؟ » قالوا: بناء عائشة، وحفصة، وزينب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:«آلبر أردن بهذا؟! ما أنا بمعتكف»، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال»، يعني قضاءً للعشر الأخيرة من رمضان التي ترك فيهن الاعتكاف من أجل توالي أمهات المؤمنين على ضرب لأخبية بالمسجد، وحتى لا يضيق المسجد على أهله، ولكنه لم يمنعهن منه، وإنما تأسين به في الترك لمَّا أدركن رغبته عليه الصلاة والسلام في عدم اعتكافهن، وهكذا يتعين على المسلمة ذات الزوج ألا تعتكف إلا بإذن زوجها، وإنما اعتكف عليه الصلاة والسلام عشراً من شوال، لأن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنه إذا شرع في نافلة تعين عليه إتمامها والثبات عليها، فإن لم يتمكن قضاها، كما كان يصلي بعد العصر أربعاً لما قضى نافلة الظهر التي شغل عنها يوماً في الإصلاح بين الناس، فقضاها بعد العصر ثم داوم عليها، وهو وقت كراهة بالنسبة لأمته.

وأما الصحابة الكرام، رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يعتكفون مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يتأسون به، كما روى أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي، ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: «كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت، فوكف المسجد في مصلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونظرتُ إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماءً ».

Email