ذكرى فتح مكة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما يهل اليومُ العشرون من شهر رمضان، لا بد أن نتذكر أثره على الأمة الإسلامية؛ لما وقع فيه من نبأ كبير، وهو ذلكم الفتح العظيم الذي تتفيأ الأمة الإسلامية ظلاله وتستنشق عبيره أبداً، فتزداد ثقة بدينها ووعد الله تعالى لها، وتعلم أن الله تعالى ناصر دينه ورسوله والمؤمنين لا محالة، إن هذا الحدث هو فتح مكة، هو الفتح الأعظم في تأريخ الإسلام؛ فإن مكة التي هي موئل الحنفية، ونبع الإسلام، وحرم الله الآمن، ومحل بيته العتيق، ظلت مدنَّسةً بالأصنام والأوثان قروناً متعاقبة منذ أن غير عمرو ابن لُحي الحنفية فأحل فيها الوثنية بنصب الأنصاب والأوثان، وقد أمر الله نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام أن يطهِّر بيته للطائفين والقائمين والركع السجود كما قال سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وهذا أمر شرعي دائم، نفَّذه إبراهيم عليه السلام، فجعل مكة دار إسلام، ونادى في الناس أن يحجوه لطهارته وخلوصه من الشرك والوثنية، لكن تعاقب الزمن وتراخي النبوة أنسى الناس عهد إبراهيم ومِلَّته الحنيفية، فبدَّلوا دينه وغيروا شريعته، ولا بد لهذا الشرك أن ينمحي؛ لأن الأمر الإلهي لا يزال يتردد صداه في طي الرسالة الخاتمة التي كانت أثراً من آثار دعوة إبراهيم عليه السلام، فهو الذي نادى ربه قائلاً {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فلما جاء الرسول منهم وفيهم ومن أوسطهم حسباً ونسباً، جاء برسالة الإسلام وتوحيد الملك العلام، ومكة أول بلاد الله تعالى تدعى إليه، كما قال الله تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} فأنذر صلى الله عليه وسلم وبشر وحذر، ولكن ضلال الآباء، وعادات الجهلاء ظلت مخيِّمة عليهم فلم ينفعهم نذير ولا بشير، فعادَوُا الدعوة والداعي، حتى اضطروه إلى الهجرة من بلده.

لقد كان الفتح المبين في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، بعد أن اشتد الإسلام، وقوي عودُه، وكثر عددُه، وكان ينتظر السبب الذي يفتح الباب، فكان سببه صلح الحديبية سنة ست للهجرة الذي كان في ظاهره جوراً فظيعا على رسول الله وصحبه الكرام الذين جاءوا مكة معتمرين ولم يأتوا فاتحين، وكان على قريش أن ترحب بهم كما ترحب بسائر العرب الذين يأتون متنسِّكين، وليس من حقهم أن يصدوا أحداً قاصداً بيت الله الحرام، لكنهم أبوا مكابرين وقالوا: «لن يدخلها محمد عنوةً» فكان فألاً سيئاً عليهم بدخوله عنوة وهم صاغرون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها بعشرة آلاف مقاتل مدججين بالسلاح، مستعدين لقتالِ مَن ناوأهم، كما أذن لهم بذلك ربهم سبحانه وتعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».

وقد كان مبدأ هذا الفتح ذلكم الصلح الجائر الذي كان من بنوده: «أن من أحب أن يدخل في حلف النبي فليدخل ومن أحب أن يدخل في حلف قريش فليدخل» وهو الشرط الوحيد الذي كان فيه إنصاف، وكان بنو خزاعة حليفةً لبني عبد المطلب في الجاهلية والإسلام، فدخلت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بنو بكر فدخلوا في حلف قريش، وكان بينهم وبين خزاعة حروب، وكانت خزاعة قد نالت منهم، فلما وضعت الحرب أوزارها، أرادت بنو بكر أن تأخذ بثأرها من خزاعة، فأمدتها قريش بالرجال والسلاح، فغاروا على خزاعة ليلاً، وقتلوا منهم نحو عشرين، فكان هذا نكثاً واضحاً للعهد، جعل النبي صلى الله عليه وسلم في حل من المعاهدة، فلما جاءته خزاعة تشكو قريشاً وبني بكر، ما كان بوسع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينصر حلفاءه بمقتضى المعاهدة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهز، وكتم مخرجه، وسأل الله أن يُعمِّي خبره عن قريش، حتى يبغتهم في بلادهم.

فكان ذلكم الفتح العظيم، ولكنه كان فتح نبي الرحمة، حيث أمَّن أهل الحرم خصوصاً وعموماً، فقد أمن أهلها وقال: من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم قال للجميع: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقال مستعطفين: خيراً، أخ كريم ابن أخ كريم! وعندئذ قال لهم: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء.

Email