شهر الصيام والقيام

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهر رمضان الذي أكرمنا الله تعالى به فبلغنا أيامه ولياليه، هو شهر المسابقة إلى الخيرات والمسارعة إلى مرضاة رب البريات؛ لأنه موسم يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابقون فيه إلى مرضاة الله تعالى كل يريد أن يكون قد حظي بمراد الله منه فهو تنافس محمود، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.

والتنافس يكون في الطاعات والقربات التي خلق الله تعالى عباده لأجلها، وقد جعل لهم مواسم أزمنة فاضلة، وأماكن مباركة ليعمروها بالطاعات؛ لما للعبادة فيها من عظيم الأجر، وشهر رمضان هو الزمان الذي من سبق فيه فقد فاز فوزا عظيما، فإنه متاح لكل مؤمن ومؤمنة نهاره وليله، وكل طاعة فيه هي من أجلِّ الطاعات، وإن كان الصيام هو المقصد الأول منه، إلا أن للعبادات الأخرى نصيبها من ذلك الفضل، فالصيام الذي هو أحب العبادات إلى الله تعالى ينبغي أن يكون المقصود الأول للمسلم فيصومه.

كما أمر الله تعالى صياماً حقيقياً، يمسك فيه عن الشهوات النفسية، والشبهات الحسية والمعنوية، حتى من كثير من المباحات، ويغتنمه في المحبوبات لله رب العالمين من تلاوة كتابه المبين، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى الأمين، ومن ذكر وشكر وتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، ونوافل الطاعات عموما، ويمسك فيه عن الخصومات والقيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال في غير طاعة الله تعالى، ويجعل ذلك شعاره في ليله ونهاره.

كما ندبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله: «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين» وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه يقول: «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم» ومعنى لا يصخب: لا يرفع صوته وإن كان في أمر مباح؛ لأن ذلك هو شعار أهل السكينة مع الله تعالى، ولأن رفع الصوت يزعج الآخرين، فكان عليه أن يحافظ على أدب الصيام حتى يكون من أهل كمال الإيمان الذين: {إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} والذين {إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} وهكذا ينبغي أن يكون حال المسلم دائما، ولكنه في شهر الصيام أكثر وأفضل، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم لأعظم النوافل فيه وهو القيام، وقرنه بالصيام.

وأما فعله صلى الله عليه وسلم فهو قيامه بنفسه قياماً طويلاً، كما أمره الله تعالى بذلك بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} فكان يقوم قياماً لم يطقه أصحابه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء» قيل: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم «وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: «تنام عيني ولا ينام قلبي»، وهي تريد بذلك تهجده الدائم الذي كان فرضاً عليه وهو سنة لأمته، والذي كان يقومه حتى تتفطر قدماه .

كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ! فقال: «يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً» أي أن هذا التفضل الرباني يقتضي أن يُشكر المولى عليه بمثل ذلكم القيام الطويل الذي كان يقومه، ويذكر الله تعالى فيه ذكراً كثيراً .

كما روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فاستاك ثم توضأ ثم قام يصلي، فقمت معه فبدأ فاستفتح البقرة فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع فمكث راكعاً بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة»، ثم سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة «ثم قرأ آل عمران، ثم سورة سورة، يفعل مثل ذلك»

 كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي

Email