في سوق القطارة الوالدة فاطمة الدرمكي تنسج ذهباً وفضةً

«بو خوصتين».. مطرزات «الزري» تزين جسد القماش بألوان الفرح

ت + ت - الحجم الطبيعي

كبار المواطنين هم سارية الوطن وشراعه المخضب بالتقاليد والإرث العريق، مداد الأخلاق وحبر الوطنية الخالصة، فقد كرسوا حياتهم للنهوض بالوطن وبناء أجيال تنبض قلوبهم بالهوية، تقاطعات جيل ما بعد الألفية تشد وثاق سفنها «أدقال» أجيال الاتحاد لتنقلها إلى شواطئ الثقافة العالمية وإيقاعها الذي يتجلى بالمعاصرة والمحافظة على الموروث، فنحن لا نعيش بين زمنين، بل نصنع لحظاتنا بين ذكريات استثنائية وإنجازات تستشرف المستقبل.

تعد حرفة «التلي» من الحرف اليدوية، التي تحرص الوالدة فاطمة الدرمكي على عرضها وإنتاجها ضمن فعاليات وورش التراث في سوق القطارة، وعرضها أمام الجمهور الزائر من المواطنين والمقيمين، من خلال دكانها المخصص في أحد أركان السوق العامر بشتى المنتجات مثل الملابس النسائية والرجالية التقليدية، والأواني المنزلية، إضافة إلى بيع البهارات ومعدات الرحلات والتخييم والأدوات الخاصة بالصقور، بهدف تشجيع العائلات على المحافظة على التراث الإماراتي المحفور في ذاكرة الأجيال.

نول الذكريات

وتضيف الوالدة فاطمة، التي استقبلت في دكانها «دار التلي» هيا العامري عضوة مجلس شباب العين والطالبة حمدة الشامسي للتعرف على أهمية حرفة التلي كإحدى أهم القطع التزيينية الغنية بمطرزات «الزري» التي تزين جسد القماش بألوان الفرح، التي تشتغلها المرأة الإماراتية: تربطني بهذه الحرفة الكثير من الذكريات، فقد أتقنت فنونها نقلاً عن والدتي التي بدورها تعلمت خطواتها من جدتي، فتلك الحرفة على وجه الخصوص بحاجة إلى دقة وتدريب متواصل، وبالتالي لا يمكنني أن أتوقف يوماً عن طرح العديد من أشكالها المطعمة بخيوط فضية وذهبية، بما تحمله من ذكريات الماضي والعائلة.

ترويج عصري

وتضيف الوالدة فاطمة رداً على سؤال هيا العامري حول ضرورة استمرار الحرفة وعرضها أمام الجمهور إن الحرف اليدوية التقليدية كانت أكثر حضوراً في حياة عامة الشعب في العديد من المراحل التاريخية، واحتفظ التلي وغيره من الحرف اليدوية بالقيمة الفنية والعملية اللتين تحوزان الاحترام والتقدير الواسع لدى الجماهير حتى الآن، غير أن التغيرات الكبيرة التي طرأت على نمط الإنتاج والحياة التي واكبت التطور الاقتصادي الحديث والتغيرات الاجتماعية قد جعلت حماية هذا التراث الثقافي وتنميته تحدياً عصرياً شاقاً. ولذا كرّست الحكومة الرشيدة سلسلة من الجهود لحمايته ونشرها على نطاق واسع لتحظى باهتمام خاص لدى الأجانب والسياح، الذين يحرص الكثير منهم على مراقبة كافة الخطوات في تنفيذ التلي، ويقومون بشراء قطع تذكارية وهدايا صنعت يدوياً؛ وبالتالي قيمتها المادية والمعنوية تبقى الأقوى تأثيراً.

أسواق متوارثة

ومن جانب آخر، تؤكد هيا العامري أن سوق القطارة طالما احتفى بالتراث الإماراتي والحرف التقليدية، من خلال الأسر المنتجة التي تعرض منتجاتها في «سوق الجمعة» المقام قرب سوق القطارة الشعبي، وفق النسق التقليدي للأسواق القديمة. وتم تشييد السوق من سعف النخيل في محاكاة لسوق الجمعة الشعبي، الذي كان يقيمه الأهالي قديماً يوم الجمعة من كل أسبوع ويعرضون فيه منتجات متنوعة، كما يعد هو السوق الوحيد الذي يجمع كل المشغولات والحرف والأدوات التراثية في مكان واحد، وسيتم في هذا السوق تنظيم ندوات في مجال التراث الإماراتي والمواقع الأثرية في مدينة العين، ومعارض لفنون الرسم والتصوير، إضافةً إلى عدد من النشاطات الموجهة للأطفال والعائلات.

الخياطة الشعبية

وفي ما يتعلق بالخطوات الرئيسة لغزل التلي يدوياً، تقول الوالدة فاطمة عادة ما تستغرق صناعة التلي من شهرين إلى 6 أشهر، وكانت النساء في الماضي يشغلن عبرها وقتهن إلى حين عودة أزواجهن من رحلات الغوص والتجارة التي تستغرق نفس المدة الزمنية تقريباً، كما تختلف الخيوط المستخدمة في صناعة التلي، إذ ظلت الخياطة الإماراتية الشعبية قديماً تستخدم خيوطاً من الخوص فضية اللون. لكن مع تغير أذواق النسوة، وتوافر بدائل كثيرة، ظهرت ألوان جديدة للخوص، فمنها الأحمر والبنفسجي وألوان أخرى عدة. وعادة ما يكون عرض خيط الخوص سنتيمتراً واحداً. أما خيوط «الزري»، وهي فضية أو ذهبية، فتكون بعرض الخيوط العادية، فيما تختلف خيوط «البريسم» من ناحية السماكة، لكونها أكثر لمعاناً.

أدوات بسيطة

ولفتت الأدوات البسيطة المستخدمة في إنتاج هذا العمل الجذاب انتباه حمدة، فبادرت الوالدة فاطمة بالحديث عن اسمها، وقالت: يقوم تنفيذ التلي من نسج ست بكرات من الخيوط «الهدوب» الملونة، وتجمع أطرافها بعقدة مشتركة تثبت بإبرة صغيرة على «مخدة الكاجوجة» وهي مخدة قطن بيضاوية يثبت عليها التلي، لتساعد على تثبيت الخيوط ونسجها بدقة، حيث تسمح لها هذا المخدة بمتابعة العمل على نسج شريط «التلي»، ومزج خيوطه الملونة في شريط يتجاوز طوله عشرة أمتار.

أجزاء النسيج

تؤكد الوالدة فاطمة أن «البادلة»، وهو نسيج التلي لها عدة أجزاء في تصميمها، ولكل منها اسم خاص، ومنها الغولي أو قيطان. وهي توضع بين الأجزاء وإذا كانت البادلة ملونة تكون الحاشية حمراء أو بيضاء أما إذا كانت البادلة بيضاء اللون فالحاشية تكون بيضاء، ويتكون هذا النسيج المعروف بــ«البيت» من 20 زرياً و 44 خيطاً ومنها «بيت مقفل»، حيث لا يوجد فراغ بين كل غرزة أو أخرى حتى إن الخيط لا يستطيع أن يمر بينهما، وهو عبارة عن مثلثات متقابلة، في حين يسمى الشكل الذي تكون فيه الخيوط بشكل متوازٍ من الأعلى إلى الأسفل بـــ«بيت سير تعال»، في حين يعرف شكل النسيج المكون من مثل واحد بــ«بيت أبو البيطان»، أما نسيج «نقش الكرسي»، فهو عبارة عن مجموعة من الزخارف داخل النسيج أقرب إلى نصف دائرة ومتتابعة في كل مرة، وتختم «نثرة منكسة» نسيج «البادلة» بها كونها الجزء الأخير الصغير في مراحل نسيج التلي وتعرف أيضاً بــ«راس لبلوى».

في سطور

يعود تاريخ سوق القطارة إلى منتصف القرن 20، وأسسه المغفور له بإذن الله الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، على الطريق الذي تصطف أشجار النخيل على جانبيه، ويربط القطارة وواحة الجيمي في العين.

وقد تمت إعادة افتتاح سوق القطارة التاريخي، حيث يُقام سوق للحرف اليدوية التقليدية هناك أيام الخميس والجمعة والسبت من شهر أكتوبر إلى مايو، وذلك بهدف تشجيع العائلات المحلية على المحافظة على التراث في أبوظبي، وتعزيزه من خلال إنتاج فعال للحرف اليدوية التقليدية. والجدير بالذكر أنّ السوق يتّصل بقلعة القطارة التي أُعيد تطويرها، وتضمّ مركزاً للفنون الشعبية يحتوي على مئات المعروضات الحديثة وتُقام فيه ورش العمل.

حرفة عالمية

في عام 2016 تم إطلاق أول خط إنتاج عالمي لحرفة التلي الإماراتية، في إطار الشراكة القائمة بين مجلس «إرثي» التابع لمؤسسة «نماء»، و«آسبري لندن» العلامة البريطانية التجارية التي أسست منذ عام 1781. وذلك عبر طرح إطلاق مجموعة من حقائب «آسبري» المزينة بتطريزات «التلي» الإماراتية، التي أبدعتها مجموعة من السيدات الإماراتيات العاملات ضمن برنامج «بدوة»، للتطوير المهني والاجتماعي التابع لمجلس «إرثي» للحرف التقليدية المعاصرة، حيث سيذهب ريع هذه المجموعة بالكامل لصالح البرامج والمشاريع التي يتم تنفيذها ضمن برنامج «بدوة» والرامية إلى دعم وتمكين السيدات المهنيات الإماراتيات.

وأشارت فاطمة إلى أن هناك أنواعاً مختلفة تناقلتها الأجيال لتطريز التلي، منها تلي بو فص، والتعاون، وعادة ما يكون بطريقة عمل التلي التقليدي نفسها، على أن يكون في تشكيله كل مترين من التلي بلون واحد من ألوان الخوص، مع توحيد اللون على الجانبين لكل الأمتار، لافتة إلى أنه من أهم الأشكال المطلوبة التي تلقى رواجاً في المنطقة تلي الشطرنج، وبوجنب، والتلي التقليدي.

ثوب مزرّاي

التلي الذي يعرف أيضاً باسم (السين)، عبارة عن خيوط من القطن (عادة من ستة خيوط أو «هدوب» ثلاثة من كل جهة) يتوسطها خيط واحد من الفضة، وتقوم المرأة بجدل هذه الخيوط بطريقة فنية بحيث يكون خيط الفضة في الوسط دائماً. أما «الزري»، فهو عبارة عن خيوط من الحرير الأصفر اللماع، تحلى به الملابس، ويعتقد أن اللفظة فارسية مشتقة من كلمة «زر» وتعني «الذهب». وقد كانت تطرز الملابس بالزري فيقال «ثوب مزرّاي» وتعد الكندورة العربية وهي فستان يحاك من جميع أنواع القماش، من أهم القطع التي يضاف لها التلي عبارة عن أكمام اليدين والرقبة.

Email