الوالدة عائشة خلف تصوغ عطور البهجة

الدخون.. عنوان الطيب الإماراتي الأصيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

كبار المواطنين هم سارية الوطن وشراعه المخضب بالتقاليد والإرث العريق، مداد الأخلاق وحبر الوطنية الخلاصة، فقد كرسوا حياتهم للنهوض بالوطن وبناء أجيال تنبض قلوبهم بالهوية، تقاطعات جيل ما بعد الألفية تشد وثاق سفنها «أدقال» أجيال الاتحاد لتنقلها إلى شواطئ الثقافة العالمية وإيقاعها الذي يتجلى بالمعاصرة والمحافظة على الموروث، فنحن لا نعيش بين زمنين، بل نصنع لحظاتنا بين ذكريات استثنائية وإنجازات تستشرف المستقبل.

روائح الدخون هوية وميراث التقاليد وذكريات يغلفها الحنين المعطر بلحظاتها التي لا تنسى، ولطالما اتسمت خلطته بالسرية في مكوناته الإضافية والتي تميز أهل كل منزل إماراتي في السابق، ويعرف أصحابه من ريح طيبهم عند خروجهم من المنزل.

الوالدة عائشة خلف، إحدى حارسات الطيب الإماراتي ـ عبر السنين تمرست في توليفات استثنائية، صاغت أريج الفرح وعطور البهجة ـ تستحضر السكينة في أرجاء المكان أينما حلت، التقتها الشابة الإماراتية سمية الجسمي في إحدى المناسبات الثقافية التراثية التي تنظمها هيئة دبي للثقافة والفنون والتي تضمنت ورشة صناعة العطور والبخور في الإمارات.

صون التراث

تؤكد سمية أن المورث الإماراتي يحاط باهتمام وتقدير من الحكومة الرشيدة وفي أدق التفاصيل، وتعمل على صون العديد من المهن التي قد تواجه خطر الاندثار في مواجهة العولمة الثقافية وتأثيراتها المرتبطة بعصرنة التقاليد واستبدالها جزئية، ففي مقابل العطور العربية هناك اعتماد أكبر على العطور الفرنسية، وهو ما كان يقلق الوالدة عائشة ويثير هواجسها، لذلك قررت أن أدعوها لزيارة متحف بيت العطور الذي يعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط، ومن أهم المتاحف المتخصصة في إبراز أهمية العطور الإماراتية وتاريخها في دبي، واختير له بيت المغفور لها الشيخة شيخة بنت سعيد آل مكتوم بمنطقة الشندغة، التي كانت من المهتمات بالعطور الإماراتية.

تكنولوجيا العرض

وخلال جولتها بالمتحف أكدت الوالدة عائشة أنها تفاجأت كثيراً بتكنولوجيا العرض المثيرة للاهتمام فهو حلقة وصل ورحلة ملهمة في عوالم غواية العطور الإماراتية لجميع الزوار وتحديداً الأجانب وغير العرب بتقاليدنا الأصيلة وتسليط الضوء على المكونات الطبيعية المختلفة التي استخدمت في خلطات العطور الإماراتية، وعلى عادات استخدام العطور، وطريقة خلطها، وأساليب التطيب بالعطور وتأثير العطور بمكوناتها في الشعر الإماراتي.

عود الاكويلاريا

وتوضح الوالدة عائشة أنها توقفت كثيراً أمام إحدى أهم مقتنيات «بيت العطور» وهي قطعة من شجرة العود الاكويلاريا الهندي، وزنها 28 كيلوغراماً، ويبلغ طولها 1.2 متر، وسعرها حوالي مليوني درهم، وهي من مجموعة مقتنيات المغفور لها بإذن الله، الشيخة شيخة بنت سعيد آل مكتوم، رحمها الله، التي كانت قديماً تسكن المنزل الذي يشغله بيت العطور حالياً، وكانت تحتفظ بهذه القطعة لتزين المجلس الذي تستقبل فيه ضيوفها.

وحينما سألت سمية الوالدة عائشة عن شعورها وهي اليوم متواجدة في بيت العطور الذي يوثق تاريخ حرفتها ومشوارها في صناعة العطور الإماراتية، قالت الوالدة بتأثر بالغ، هو مزيج من مشاعر متضاربة بين الرغبة في البكاء والفرح، فكعادة كل النساء نبكي في الفرح والحزن، ولكني أشعر بالفخر والامتنان، لكل الجهود المبذولة في نقل رسالتنا إلى شباب وشابات اليوم الذين قد يهملون الماضي سعياً وراء كل جديد، متغافلين أن عراقة الماضي هي بوابة الولوج للحضارة واستشراف المستقبل، وأضافت: وليس أدل على ذلك من المثل الشعبي «ما مات لكن بلق عينه» ويقال للأشخاص الذين لا يجيدون تقدير الأمور.

صناعة يدوية

ضحكت سمية عند سماعها المثل القديم، ولكنها باغتت الوالدة عائشة بمعلوماتها الوفيرة عن العطور والدخون لتثبت لها أنها من هذا الجيل ولكنها من اللواتي يحرصن على نشر التقاليد المحلية موضحة: النباتات والخلطات الطبيعية كانت بالنسبة للبيت الإماراتي مصدراً للتعطير الشخصي والمنزلي، من خلال استخدام نساء أوراق الأشجار العطرية بعد طحنها أو نقعها ومنها لايزال يستخدم إلى يومنا هذا، ومن المكونات الأساسية في المناسبات المختلفة وأهما الزفاف والعيدان، وعلى سبيل المثال «الصندل المشموم أو الريحان» إلى جانب العنبر وعبير المسك والزباد دون إغفال أهمية ماء الورد في تحقيق التوازن للخلطات التي تستخدم بشكل خاص في تعطير الملابس والفراش، ومن الجدير بالذكر أن لكل سيدة إماراتية وعائلتها خلطتها الخاصة التي تثير مزيجاً تلك الروائح وتصبح بصمتها المميزة.

تبخير الضيوف

ابتسمت الوالدة عائشة لسمية واحتضنتها برفق وحنان قائلة: لا خوف على تراثنا اليوم يا ابنتي فأنتِ وغيرك من بناتنا وأبنائنا الذين يدركون أهمية حفظ وتداول تفاصيل الحياة اليومية، هم الأقدر على نشر ثقافتنا المجتمعية، فتعطير وتبخير الضيوف مؤشر كرم وتقدير، ولها تقاليد خاصة، إذ يقال ‹›ما بعد العود قعود›› وعادات تتصل بكيفية تقديم العود في المجمرة للضيف لينسم منه إليه بحركة من يده، ويقوم بهذه المهمة شخص مخصص وهو نفسه ساقي القهوة العربية، أما في مجلس النساء فتقوم مدبرة المنزل أو إحدى الفتيات بالمهمة.

وتقول الوالدة عائشة وهي تختتم جولتها بمتحف بيت العطور بمنطقة الشندغة: بدأ اعتمادنا منذ عقود على الخامات الطبيعية المتوفرة في صناعة العطور والبخور، والدخون تصنعه النساء من عجينة مكونة من سجا العود والمسك والعنبر وقد يضاف إليها دهن الورد، تخلط معاً وتعجن، وتشكل على شكل أقراص مستديرة، وتستخدم بعد أن تجف، وتوضع في الخوص وتعلق عليها الثياب لتظل الرائحة عالقة بها دائماً حتى بعد غسلها، كما تحرص النساء أيضاً على حرق بخور العود كل مسـاء، حتى أصبحت الرائحة الزكية شيئاً مميزاً للبيت العربي، ومظهراً من مظاهر الترحيب بالضيوف.

تطور الخلطات

عن خليط البخور الإماراتي القديم تقول الوالدة عائشة: «صناعه العطور المنزلية مرت في السابق بالعديد من مراحل التطوير والتعديل نظراً للخامات التي تم إضافتها بمرور الوقت والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحركة التجارة والملاحة والبضائع التي تم استيرادها من الهند وكمبوديا وغيرها من الدول الشهيرة بمستخلصات الأشجار العطرية والتي تمتلك باعاً طويلاً في استخلاص دهن العود ودهن الورد وغيرها من المكونات الشائعة، وكانت أفضل المنتجات الخاصة بصناعة الدخون تلك التي يتم تركيبها من عرق الزعفران والمسك إلى جانب دهن العنبر عبر سحقها جميعاً في إناء معدني مخصص لخلطة التركيبة ويتم تركها لمدة 3 أيام لتمر بعملية التخمير البطيء، ولأنها عملية طويلة ودقيقة وتحتاج إلى مهارة عالية إلى جانب ارتفاع سعر المكونات الأساسية، لذلك فإن العديد من منتجات العطور والبخور الإماراتية تكون غالية الثمن وتعتز السيدات الإماراتيات بقدرتهن على تقديم هذه الدخون والتباهي بروائحها في المجالس والمناسبات.

المخمرية

تحضر من مسحوق أعواد الزعفران المخلوط بسائل دهن العود الأصلي وسائل المسك الأبيض ومسحوق الصندل وعرق الحنا والفل. وتكون على هيئة خلطة سائلة تضعها النساء قديماً على شعورهن.

وتحضر قديماً بطريقة مميزة عبر دفن الخلطة في التراب لفترة تتراوح بين عشرة أيام إلى أربعين يوماً لتتخمر وتعطي رائحة عطرية نفاذة، ولا تبتعد خلطة «البضاعة» عنها كثيراً من ناحية المكونات الداخلة في صناعتها، إلا أنها تتكون من مواد عطرية عشبية مثل عطر الياس الذي هو في الأساس مطحون من أوراق شجرة الياس البرية، يتم عجنها بماء الورد لتوضع على شعر المرأة بهدف تليين الشعر وتعطيره.

حوت العنبر

دهن الورد ودهن العود من أشهر العطور فيما يتعلق بالطيب في الإمارات والخليج بشكل عام، إلى جانب خشب الصندل والعنبر الأبيض الذي يحتل مكانة مهمة في تكوين العديد من الخلطات العطرية وهي عبارة عن مادة تتكون في الجهاز الهضمي للحوت والذي يعد من الحيتان النادرة ونسبة 1% فقط منها قادرة على إنتاج العنبر الأبيض الذي يأتي في المرتبة الأولى بالنسبة لخلطات العطور ويليه العنبر الأسود ثم الأحمر من حيث الرائحة والجودة بل وهو الأغلى ثمناً من بينها ويطلق عليه قديماً «عرق العنبر».

Email