الفكاهة.. صور بديعة واجهت همـوم الحياة بالبسمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحتاج النفس البشرية إلى أن تتخفَّف بعض الشيء من أعبائها خلال رحلتها في هذه الحياة، وتضع عنها أثقال الجد والكفاح والكدح في طرق العيش المضنية، فلا تجد ما يُنسيها همومها ويمحو عنها أثر السفر والرحيل، غير أن تلجأ إلى طُرفة تُضحكها، أو مزحة ترسم السعادة على محيَّا صاحبها، لتعود بعدها كأنما وُلدت من جديد، وتواصل مسيرتها الشَّاقَّة الحافلة بالأحلام والطموحات.

لم يَغِبْ عن أذهان شعرائنا العرب خلال تاريخ الشعر العربي أن يحققوا التوازن بين الجد والهزل في إبداعاتهم الخالدة، فكما منحوا أغراض الشعر الحافلة بالصرامة كالمدح والهجاء والرثاء والفخر أهميةً كبرى، اتسعت رؤيتهم الفنية لصنوف من الفكاهة والدعابة والعبث، لتكون تجاربهم الشعرية صورة مطابقة لتجاربهم الحياتية، لكنَّ الجدير بالملاحظة في هذا الأمر أن معيار الفن الذي أعطاه الشعراء قدراً هائلاً من العناية، وجعله النقاد محوراً للتميز وأساساً للحكم على العمل الأدبي، لم يختلَّ ميزانه القسط بين الجد والهزل، وبدا الإخلاص للشاعرية بيِّناً في الحالين.

ولقد كان العصر العباسي إحدى المراحل الأدبية الغنية بشعر الفكاهة، لما تميَّز به من ظروف سياسية واقتصادية، وتنوُّع بشري وتيارات فكرية مختلفة، وانفتاح على الثقافات الوافدة، وحضارة عزَّ نظيرها في غيره من العصور، كذلك اتَّخذت الفكاهة الشعرية في ذلك العصر صوراً متباينة، واعتمد عليها الشعراء لتحقيق أغراض متعددة، منها التخفيف من وطأة القيود الاجتماعية، وتجاوز التعقيدات المقيِّدة لتصرُّفات الناس، ومواجهة الخوف والقلق.

ويكفي أن نستدل على كل ذلك بموقف طريف حفظته لنا كتب التراث الأدبي، وكان بطلَيْه الشاعران العباسيان ابن لَنْكَك البصري ونصر بن أحمد الخبزأرزي، وكان ابن لنكك ينتاب دكان الخبزأرزي، فحضر يوماً وعليه ثياب بيض فاخرة، فتأذى بالدخان، وساء أثره على ثيابه، فانصرف وكتب إلى صديقه:

لِنَصْرٍ في فؤادي فرطُ حبٍّ

يُنيفُ بهِ على كُلِّ الصِّحابِ

أتيناهُ فبخَّرَنا بخوراً

مِنَ السَّعَفِ المدخَّنِ بالتهابِ

فقُمْتُ مبادراً وحسبتُ نصراً

يريدُ بذاكَ طردي أو ذهابي

فقال: متى أراكَ أبا حُسينٍ؟

فقلتُ لهُ: إذا اتَّسَخَتْ ثيابي!

فلمَّا قُرئتْ على نصر الرُّقعةُ التي فيها الأبيات، كتب على ظهرها أبياتاً من نظمه، يقول فيها:

منحتُ أبا الحسينِ صميمَ وُدِّي

فداعبَني بألفاظٍ عِذابِ

أتى وثيابُهُ كالشَّيبِ لوناً

فعُدْنَ لهُ كريعانِ الشَّبابِ

وبُغضٌ للمشيبِ أعدَّ عندي

سواداً لونُهُ لونُ الخِضابِ

فإنْ يكُنِ التَّقزُّزُ فيهِ فخراً

فلمْ يُكنى الوصيُّ أبا تُرابِ

وواضح أن هذا الشعر الفكاهي الذي أجاد فيه كلا الشاعرين، لم يرتكز على خفة الظل وسرعة البديهة فحسب، بل كان عماده القدرة الشعرية البارعة، التي تجلَّت في الرد المباغت المفحم: «إذا اتَّسَخَتْ ثيابي!»، وفي تصوير الثياب في حاليْ نظافتها واتساخها، بعقْد علاقة تشبيه بينها وبين الشَّعر في حاليْ الشَّيب والشباب.

 

Email