السخرية.. هموم وأوجاع أضحكت شـعر المتنبي وقُريط

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين يقف أحدنا عاجزاً أمام عقبات الحياة وأحوالها المؤسفة، لا يجد سبيلاً للتعبير عن رأيه إلا بلغة تفوح بالحزن الممزوج بالدهشة، ويعتريه شعور غامض ظاهره الضحك وباطنه البكاء المرير، وربما كانت ردة الفعل هذه أسلوباً ذكياً يحتال به الإنسان على آلامه، إذ يصنع من الآهات فرحة مؤقتة يتصبَّر بها على شدة الأسى، ويبعث برسائل ظريفة إلى الآخرين ليشاركوه إحساسه المبهم.

عظيم شأن شعرنا العربي، إنه دنيا واسعة من تفاصيل الدنيا، ومرآة صادقة، تعكس كل ما يلامس بؤرتها، فيه من السعادة والبؤس واليقين والحيرة والحماسة والعجز مثل ما في الحياة من هذه الأحاسيس المختلفة، ولذا لم يكن ليتسع لكل هذه المشاعر الإنسانية المتداخلة، ويضيق بالسخرية وهي إحدى وسائل البوح لدى النفس البشرية.

ويُلحظ في هذا الفن الشعري أنه يُستعمل أسلوباً مؤازراً لأغراض متنوعة، فمثلاً قد يستغلُّه الشاعر لبثّ الحماسة في قلوب قومه، وتحريضهم على استرداد حقوقهم بالقوة والشجاعة، كما يبدو جليّاً في ديوان «الحماسة الكبرى»، ضمن أبيات للشاعر الجاهلي قُريط بن أُنيف:

لو كنتُ مِنْ مازنٍ لمْ تستبحْ إبلي

بنو اللَّقيطةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبانا

إذاً لَقامَ بِنصري معشرٌ خُشُنٌ

عندَ الحفيظةِ إنْ ذو لُوثةٍ لانا

قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذَيْهِ لهُمْ

طاروا إليهِ زرافاتٍ وَوُحْدانا

لا يسألونَ أخاهم حينَ يندبُهم

في النائباتِ على ما قالَ بُرهانا

لكنَّ قومي وإنْ كانوا ذوي عددٍ

ليسوا مِنَ الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا

يجزونَ مِنْ ظُلمِ أهلِ الظُّلمِ مغفرةً

ومِنْ إساءةِ أهلِ السُّوءِ إحسانا

كأنَّ ربَّكَ لمْ يخلُقْ لخشيتِهِ

سواهُمُ مِنْ جميعِ النَّاسِ إنسانا

فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا

شدُّوا الإغارةَ فُرساناً ورُكْبانا

في حين تأتي السخرية في شعر أبي الطيب المتنبي مؤازرة للشكوى، عندما أصابته الحمى وهو في مصر، فجعل يتخيَّلها في هيئة امرأة تعشقه ولا تحلو لها زيارته إلا ليلاً، رافضة السكن في غير جسمه المريض، وتفارقه وقد اغتسل بما تصبَّب من العرق، وهو ينتظر ساعة لقائها بلا شوق، ولكنَّها تصدق دائماً في وعدها له، وهو تصوير ساخر كان للمتنبي فيه فضل الابتكار، إذ يقول:

وزائرتي كأنَّ بها حياءً

فليسَ تزورُ إلَّا في الظلامِ

بذلْتُ لها المطارِفَ والحشايا

فعافتْها، وباتتْ في عظامي

يضيق الجلدُ عنْ نفسي وعَنْها

فتُوسِعُهُ بأنواعِ السِّقامِ

إذا ما فارقتْني غسَّلتْني

كأنَّا عاكفان على حرامِ

أُراقبُ وقتَها مِنْ غيرِ شوقٍ

مُراقبةَ المشُوقِ الـمُـسْتهامِ

ويصدقُ وعدُها، والصِّدقُ شرٌّ

إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ

 

Email