«الخير والشر».. ثنائية وصراع لوّنا قصيدة زهير بن أبي سلمى

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

يحفل سِفر الحياة بقصص لا يحيط بها العدّ، لكل قصة أشخاص وأحداث وتفاصيل وحبكة، وصراع بين أطراف متجسِّدة وأخرى معنوية، إلا أن أمراً واحداً يكاد يجمعها فلا يستثني منها شيئاً، ويربطها فتنعقد كاملةً في سِلك عِقده، صراع الخير والشر، ذلك الصراع الذي بدأ ولن ينتهي إلا بنهاية عُمر الحياة على الأرض، ومهما يَطُلْ فلا بد أن يُختَم بالنصر المؤزَّر للخير.

التفتت مخيِّلةُ شعرائنا العرب إلى ذلك الصراع الذي اقتضته إرادة الله تعالى، وأغراهم ما فيه من حِكَم ظاهرة وباطنة، فاتسعت رؤاهم التعبيرية لتناوله ضمن أعمالهم البديعة، مُسجّلين نظرتهم التي اكتسبوها من مُعارَكة الحياة.

وقد تعددت الأسباب والدواعي التي أنطقت شعراءنا بأفكارهم الإبداعية، إذ انطلق بعضهم من أحداث معيَّنة صدمت المجتمع وتركت أصداءً تدوِّي في جوانبه، وكان الشاعر أحد أولئك المتأثرين بها، لكنَّ بلاغته ميَّزته عن أبناء قومه، تماماً مثلما جرى مع الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى، حين أوشكت نيران الحرب على الاشتعال بين قبيلتي عبس وذبيان، لولا ما سعى به من الصلح الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فالتقط زهير هذا المشهد بشاعرية فذة، ورسم له ملامح بيانية متَّسقة، سَمَتْ بنصِّه الشعري ليصبح إحدى معلَّقات العرب ومختاراتهم المميزة، وذلك عندما استطاع تصوير الصراع بين الخير المتمثل في السلام، وبين الشر المتمثل في الحرب:

سعى ساعيا غيظِ بن مُرَّةَ بعدما

تبزَّلَ ما بين العشيرةِ بالدَّمِ

فأقسمتُ بالبيتِ الذي طافَ حولَهُ

رجالٌ بَنَوهُ مِنْ قُريشٍ وجُرْهُمِ

يميناً لنِعْمَ السيِّدانِ وُجِدتُما

على كلِّ حالٍ مِنْ سحيلٍ ومُبْرمِ

تداركتُما عبساً وذُبيانَ بعدما

تفانَوا ودقُّوا بينَهم عِطْرَ مَنشِمِ

وما الحربُ إلَّا ما علمتُمْ وذُقتُمُ

وما هو عنها بالحديثِ المُرجَّمِ

وفي عصر مختلف، وبيئة أخرى، ترتسم في وجدان الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي رؤية فنية خاصَّة، استعملها للدخول إلى الموضوع ذاته الذي نحن بصدده، إذ اقتبس من الطبيعة صُوَرها، وخلع عليها بالتشخيص صفات آدمية، ليصنع حواراً شعرياً بين شحرور وثعبان، تتبدى من خلاله فلسفة الظلم بألاعيبها الكاذبة:

كانَ الربيعُ الحيُّ روحاً حالماً

غضَّ الشبابِ مُعطَّرَ الجلبابِ

والشاعرُ الشحرورُ يرقصُ مُنشِداً

للشمسِ فوقَ الوردِ والأعشابِ

ورآهُ ثُعبانُ الجبالِ فغمَّهُ

ما فيهِ مِنْ مرَحٍ وفيضِ شبابِ

وانقضَّ مضْطَغِناً عليهِ كأنَّهُ

سوطُ العذابِ ولعنةُ الأربابِ

وتدفَّقَ المسكينُ يصرخُ ثائراً:

ماذا جنيتُ أنا فحقَّ عقابي؟

لا شيءَ إلا أنني متغزِّلٌ

بالكائناتِ مغرِّدٌ في غابي

فتبسَّمَ الثعبانُ بسمةَ هازئٍ

وأجابَ في سمْتٍ وفرطِ كِذابِ:

يا أيُّها الغِرُّ المثرثرُ، إنني

أرثي لثورةِ جهلِكَ التلَّابِ

أفَلا يسرُّكَ أنْ تكونَ ضحيَّتي

فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي

وتكونَ عزماً في دمي، وتوهُّجاً

في ناظريَّ، وحِدَّةً في نابي

Email