العذل في الهوى..بديع بيانٍ رنّق أبيات الخزاعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

في حياة البشر ظروف متكررة، تظهر فيها شخصيات تتخذ مواقف متشابهة، مما يجعل أحداث الدنيا روايةً ما تنفك تبدأ كلما انتهت، وخلال هذا المعاد المكرور من وقائع الأيام وأحوالها، ترسو في عُرف الناس تصوُّرات ثابتة تغدو كمسلَّمات لا تكاد تخالطها الشكوك، ومن هنا تنمو الفكرة الساذجة لتتحول إلى قضية راسخة، تشغل حيزاً عظيماً في الفكر الإنساني، وتنعكس على الأدب والفن.


احتلت شخصية العاذل مساحة واسعة في تاريخ الشعر العربي، حتى أصبح تناولها لدى الشعراء القدماء والمحدثين نوعاً من الطقوس الإبداعية، التي بغض النظر عن حقيقتها تضفي جماليات تعبيرية رائعة في النص الشعري، ويوظفها الشاعر ضمن سياقاته بصورة تخدم الفكرة الكاملة التي يسعى إليها بخيالاته، فضلاً عن اتخاذه لها قضيةً محورية تدور حولها عناصر العمل الشعري. وفي أثناء مطالعة شعرنا العربي على امتداد عصوره المتباعدة، تصادفنا ومضات تستوقف المتذوق للشعر، ويلفت الإحساسَ فيها أنها على الرغم من اشتراكها في غرض واحد، تتشعب وتتباين بأشكال متلونة، حتى توشك تُنسينا أن أصحابها أخذ بعضهم عن بعض، وتأثر متأخرهم بمتقدمهم، فنستجلي مواضع الروعة والبيان من ذلك التفرُّد البديع، فمثلاً نسمع أبا الشيص الخزاعي يقول:


وَقَفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي
متأخَّرٌ عنهُ ولا متقدَّمُ
وأهنتِني، فأهنتُ نفسي جاهداً
ما مَنْ يهونُ عليكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبُّهم
إذْ كانَ حظي منكِ حظيَ منهمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً
حُبّاً لِذِكرِكِ، فلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ

فنجده وقد ابتكر لفكرة العذل مدخلاً لم نعهده من قبل، يساوي فيه بين المحبوب والعاذل، مستعملاً قدرته التخييلية على الإقناع، فيعرض الفكرة المتناقضة في صورة مبدأ منطقي، إذ المحبوب لديه هو أغلى ما يراه في هذه الحياة، ولذا فإن كل شيء يهون عنده إكراماً له، بما في ذلك نفسه التي هي أعز ما يملك، ثم يبني على تلك القاعدة الوجدانية لا العقلية نتيجة يتلقاها الذوق كما هي متساهلاً في تقبُّلها، بعدما قدَّم لها بهذا التمهيد الذي يسوِّغها.


هذا المعنى الظريف اسفزَّ خيال الشعراء من بعد أبي الشيص، ولاحظوا فيه ثغرات تصنع لهم مساحات من الإبداع، وتتيح لهم مجالاً يتسع للمجاراة والمعارضة المعنوية، التي لا يلتفت فيها الشاعر المتأخر إلى وزن القصيدة التي ينافس صاحبها وقافيتها، بقدر ما يُعمل تركيزه في المعنى الشعري الذي يودُّ أن يأتي له بنظير من صُنعه، ليُثبت أنه ليس معنى فرداً في ميدان البراعة الشعرية، وأنه كم فاق اللاحقُ السابقَ. من أولئك الشعراء شاعرنا المجيد أبو الطيب المتنبي، فقد برز مبارياً هذا المعنى، فإذا به يطوِّعه لموهبته الشعرية بأن يقلبه فينقض به قول أبي الشيص، ليجعل ما افترضه مستحيلاً في العقول، مقرراً أن المحبوب والعاذل لا يجتمعان في قلب المحب، مؤيداً معناه بصياغته في صورة استفهام إنكاري:

القلبُ أعلمُ يا عذولُ بدائِهِ
وأحقُّ منكَ بجفنِهِ وبمائِهِ
أأُحبُّهُ وأُحبُّ فيهِ ملامةً؟
إنَّ الملامةَ فيهِ من أعدائِهِ
لا تعذر المشتاقَ في أشواقِهِ
حتى تكونَ حشاكَ في أحشائِهِ

Email