شذرات

البحر.. أخطار وأسـرار أفاضـت سـيل الأماني فـي قصيد بشر الأسدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

في أذهاننا تسكن أشياء خبرناها أو سمعنا عنها، وحين نودُّ التعبير عن معنى حائر في عقولنا، ننطق بألفاظ استوحيناها منها، فإذا أردنا أن نصف تعمُّقنا في فكرة واسعة، لم نجد على أطراف ألسنتنا أوضح من أن نقول إننا نبحر فيها، أو نغوص في أمواجها المتلاطمة، كل هذا دون أن نلحظ أن صورة البحر الساكنة في خواطرنا هي التي أغرتنا بذلك.

كان البحر لدى العربي قديماً يمثل عالماً غامضاً محفوفاً بالمخاطر والمهالك، فهو يعرفه معرفة الأشياء بصورها الظاهرة، دون الاقتراب من حقائقها الخفية، ولذا يحاول دائماً أن يكمل هيئته الناقصة في مخيلته بصور ابتدعتها أوهامه المجنّحة وخرافاته التي لا تستند إلى أساس منطقي، لكنَّ ذلك لم يكن ليحُول دون تناول شعرائنا العرب البحر بوصفه فكرة شعرية، بل ربما كانت الأمور التي أرهبت الإنسان العربي من أهوال البحر هي ذاتها التي فتحت أجواء الشاعرية أمامه على مساحات شاسعة، ينطلق فيها حراً، معتمداً على امتلاكه اللغة الرصينة والتصوير البلاغي المحلِّق والموسيقى الأخَّاذة، ليحاول أن يصنع من وحي مشاعره المضطربة تجاه هذا المجهول لوحة مقروءة، ترتسم في صفحتها أمارات العبقرية الفذة التي تميز بها الشعر العربي.

بشر بن أبي خازم الأسدي شاعر من فحول شعراء الجاهلية، وقد ركب البحر في رحلة للتجارة، فأبصر مَشاهد الهلع الذي انتابه هو ومن معه في السفينة، فإذا بالكلمات تنثال عليه مترقرقة، عاكسةً ما يدور بقرارة نفسه من إحساس بالرعب، ورغبة جامحة في النجاة والعودة إلى اليابسة، ولا يغيب عنه أن يمعن في وصف السفينة التي صُنعَتْ من الألواح والحبال، وهي تحاول مقاومة الأمواج الغاضبة، كأنها ناقة طويلة السنام، تميل مع الريح حيثما مالت، فيتخيل حركتها سجوداً في وجه العواصف، ويصوِّر حال الراكب في السفينة إذ نال منه الخوف، فأغمض عينيه، وتذكَّر آثامه، وأقرَّ بها إقرار مودِّع للحياة:

أُجالدُ صفَّهمولقد أراني

على قَرْواءَ تسجدُ للرياحِ

مُعبَّدةِ السَّقائفِ ذات دُسرٍ

مُضبَّرةٍ جوانبُها، رداحِ

إذا ركبتْ بصاحبِها خليجاً

تذكَّرَ ما لديهِ مِنْ جُناحِ

يمرُّ الموجُ تحتَ مُشجَّراتٍ

يلينَ الماءَ بالخُشُبِ الصِّحاحِ

ونحنُ على جوانبِها قُعودٌ

نغضُّ الطَّرْفَ كالإبلِ القِماحِ

حالة نفسية واحدة، وموقف فريد من نوعه، لكنَّ انطباعات شعرائنا المبدعين تجاهه على اختلاف عصورهم تتلوَّن تبعاً لرؤاهم الإبداعية، فنرى انعكاسات نفسياتهم ناطقة مُسمعةً في جماليات نصوصهم العالية، ونستشعر أثر الرهبة اضطراباً وحيرة في بعضها، وثباتاً ورزانةً في بعضها الآخر، ولعل من أصدق الأمثلة التي تضع بين أيدينا هذا التباين العجيب ما روته كتب الأدب أن هشام بن عبد الملك استعمل الأسود بن بلال المحاربي على بحر الشام، فقدم عليه أعرابي من قومه، فأركبه معه في السفينة، فلمَّا أصابت البدوي الأهوال كاد عقله أن يزول، ثم تماسك منشداً:

أقولُ وقد ولَّى السفينُ مُلجِّجاً

وقد بعدتْ بعدَ التقرُّبِ صُورُ

وقد عصفَتْ ريحٌ وللموجِ هزَّةٌ

وللبحرِ مِنْ تحتِ السَّفينِ هديرُ

ألا ليتَ أجري والعطاءَ معاً لهم

وحظِّي قتودٌ في الزِّمامِ وكورُ

فللهِ رأيٌ قادني لسفينةٍ

وأخضرَ موَّارِ السَّراةِ يمورُ

ترى متنَهُ سهلاً إذا الريحُ أقلعَتْ

وإنْ عصفَتْ فالسَّهْلُ منهُ وعورُ

Email