شذرات

الخيل.. شاهد بطولات عنترة ورفيقه في ساحات الوغى

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

«الخيل معقود في نواصيها الخير»، لعلنا نستطيع أن نختزل بهذه العبارة النبوية الشريفة كل ما يمكن أن يُقال في حق هذا الحيوان، الذي حباه الله تعالى من المكارم والمواهب الشيء الكثير، حتى بلغ به الأمر أن أصبح رفيق الإنسان وصديقه المقرَّب، وقد لا نجد إذا نظرنا في سائر أنواع الدوابّ ما حاز هذه المكانة التي تبوَّأتها الخيل لدى بني البشر.

وحين ننظر في الأسباب التي سوَّغت لأن تكون الخيل موضوعاً شعرياً في أدبنا العربي منذ بداياته الجاهلية، قد يُضنينا البحث عن أهمها وأَوْلاها بالتقديم، فالخيل عند الشاعر العربي القديم عُدته للحرب، ووسيلة من وسائل تنقله، وموضع من مواضع فخره وتباهيه، إلى غير ذلك من العوامل العديدة التي فتحت باب الشاعرية على مصراعه لتناول الخيل فخراً ووصفاً، فإذا قصد الشاعر إلى سرد مآثره وبطولاته، لم يرَ شاهداً عليها أبلغ من الخيل، يحيل عليها السائل لتجيبه بما شهدته من أهوال الحروب والاقتتال، على نحو ما فعل عنترة العبسي في معلقته مخاطباً محبوبته:

هلَّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

                 إنْ كُنتِ جاهلةً بما لم تعلمي

يُخبرْكِ مَن شهدَ الوقيعةَ أنَّني

             أغشى الوغى وأعفُّ عندَ المغنَمِ

أو أخذ يمعن في وصف فرسه مستعيناً في ذلك بالتشبيهات الغريبة والاستعارات النادرة، كما وقع لامرئ القيس ضمن معلقته في بيتيه العاليين في البلاغة والشهرة:

وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتِها

                    بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً

         كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ مِن علِ

وهذا الجانب الثاني من التناول الفني في أشعار العرب هو موضع التأمُّل في هذه السطور، إذ نرى كيف تتفاوت عقول الشعراء بعبقرياتها الفذة، خلال التعرُّض لفكرة واحدة قتلتها القرائح، هي وصف الخيل، ومع ذلك لم يزل لدى الشعراء المجيدين المزيد من الابتكار والتجديد فيها، فمن بين أشعارهم البديعة يلوح لنا نصٌّ لابن خفاجة الأندلسي في وصف فرس أشهب محلَّى، يقول فيه:

رُبَّ طِرْفٍ كالطَّرْفِ سرعةَ عدوٍ

                  ليسَ يسري سُراهُ طيفُ الخيالِ

إنْ سرى في الدُّجى فبعضُ الدَّراري

                 أو سعى في الفلا فإحدى السَّعالي

لستُ أدري إنْ قِيدَ ليلةَ أسري

                               أو تمطَّيتُهُ غداةَ قتالِ

أجنوبٌ تُقتادُ لي من جنيبٍ

                            أم شَمالٌ عِنانُها بشِمالي

جالَ في أنجمٍ مِن الحَلْي بِيضٍ

                           وقميصٍ مِنَ الصباحِ مُذالِ

أشهبُ اللونِ أثقلتْهُ حُليٌّ

                         خبَّ فيهنَّ وهْو مُلقى الجِلالِ

فبدا الصبحُ مُلجَماً بالثريَّا

                      وجرى البرقُ مُسرَجاً بالهلالِ

يُلاحَظ أن الأبيات جاءت، مثل هذا الفرس المثقل بالحلي، مثقلةً بالملامح الفنية المتعددة، فالشاعر يستعمل الألوان البديعية حيناً كالجناس بين «طِرْف»، وهو الفرس الكريم العتيق، و«طَرْف» العين، والطباق بين «جنوب» و«شَمال»، وحيناً آخر يُحسن نسج بعض الصور البيانية، كصورة الفرس سائراً في الظلام التي شبَّهها بصورة الكواكب المتلألئة في الليل، وهي صورة حسيَّة ترتكز على الإدراك البصري، وكذلك صورة الفرس في الصحراء المترامية الأطراف كأنه عفريت من الجن، وهي صورة عقلية ترتكز على الإدراك العقلي.

Email