إكسبو العالم من لندن 1851 إلى دبي 2020

حلم نابليون الثالث

ت + ت - الحجم الطبيعي

استضافت باريس في غضون 82 عاماً 6 معارض إكسبو كان أولها في 1855 وأطلق عليه «إكسبو المعارض».

جاء ذلك بعد أن استضافت بريطانيا أول إكسبو في لندن 1851، حيث لم يتحمّل نابليون الثالث تفوق إكسبو لندن الشهير بقصر كريستال وتحقيقه هذا النجاح الباهر، فقرر تنظيم معرض يفوقه إبهاراً، آملاً تعزيز سمعة فرنسا وتعميم دورها السياسي في العالم، لذلك أصرّ على أن يكون إكسبو باريس مختلفاً يقوم بشكل أساسي على مزج الصناعة بالفنون للخروج بحدث يبهر المشاركين ويكون بصمة تزين تاريخ دورات معارض إكسبو.

وعلى الرغم من عدم تحقيق تلك الدورة النجاح المالي المنشود، فإنه نجح سياسياً لأنه شرّع الإمبراطورية الفرنسية الثانية ووضع باريس كمدينة دولية على الخريطة العالمية.

وأقيم إكسبو باريس في قصر الصناعة الضخم الواقع في جادة الشانزليزيه، إذ بدأ بتشييد هذا المبنى الكبير عام 1852 من أجل جعله مقراً لإقامة معارض إكسبو في المستقبل. وتخصص إكسبو باريس في ميدان الزراعة والصناعة والتجارة والفنون، وكذلك التعدين والمعادن والصيدلة والأدوية والتصنيع والصناعة والأثاث والديكور والفنون البحرية والعسكرية.

مزج الصناعة بالفنون بصمة تزين تاريخ المعارض

قصر الصناعة

سمح إكسبو باريس للزوار برؤية تشغيل البواخر والقاطرات البخارية في قاعات العرض مباشرة، إضافة إلى عرض الأسلحة الإمبراطورية مزينة بالنخيل والأكاليل ونقوش الإكسبو.

وكان حلم نابيلون الثالث هو إقامة معرض صناعي وطني وصالون للفنون الجميلة، ولكن الهدف الأهم كان يتركز على مقارنة إكسبو باريس مع إكسبو لندن بشكل إيجابي، من خلال التحدي والمنافسة. ولهذه الأهمية، ترأس نابليون الثالث بنفسه لجنة إكسبو.

وكما فعل إكسبو لندن، قام إكسبو باريس بإشراك البلدان الأخرى فيه. وفي الوقت نفسه، واجه إكسبو باريس ردة فعل عنيفة من قبل المثقفين الباريسيين لأن البريطانيين سرقوا من الفرنسيين فكرة أول إكسبو في التاريخ واعتبروهم مقلدين.

وعلى الرغم من أن الوقت قد فات لتكون فرنسا الأولى والرائدة، فإن الوقت لم يفت لمواكبة إكسبو لندن والعمل بأفضل منه.

وفي هذا الصدد، ذكر نابليون الثالث أن معارض إكسبو العالمية ضرورة جوهرية في عصرنا، وتم تصميمه وبناؤه بالتعاون بين المهندسين المعماريين الشهيرين آنذاك جان ماري فيل والمهندس ألكسندر بارولت، وأقيم جزء منه في قصر الفنون الجميلة الذي يضّم أعمال الرسم والنحت والنقش والطباعة الحجرية، بالإضافة إلى معروضات قصر الصناعة الرئيسي الذي احتوى الآلات والمعدات الضخمة.

وتم بناء قصر ثالث على ضفاف نهر السين من أجل أن يستوعب المعروضات، وبذلك بلغت مساحة موقع إكسبو باريس نحو 34 فداناً في قلب المدينة.

تنافس ومصالحة

وفي وقت مبكر من عام 1798، كان الممولون الفرنسيون يعرفون أن إنجلترا هي الدولة التي أخذت الريادة في قضايا التصنيع والتسويق رغم ما قدمته فرنسا في هذا الميدان، كان أمام فرنسا أجندات أخرى، منها محو ذكريات الحروب النابليونية في الإمبراطورية الأولى.

وأهم صراع لهم كان مع البريطانيين هو اللغة بعدما تفوقت اللغة الإنجليزية وانتشرت بسرعة في العالم، مما كان يغيظ الفرنسيين رغم نشأة الإمبراطور نابليون نفسه في إنجلترا وإعجابه بالثقافة الإنجليزية، فيما كان البريطانيون يترددون في إرسال مبعوث رسمي لهم، مخافة أن يكون بمثابة اعتراف رسمي بشرعية نظام نابليون.

ثم بدأت إنجلترا تفكر: هل ستتخذ خطوات واقعية نحو المصالحة مع فرنسا وتعترف بالإمبراطورية الثانية؟ كان هذا السؤال يؤرق الإنجليز، فقد استقبل مؤيدو الإمبراطورية الثانية زيارة الملكة فيكتوريا إلى إكسبو باريس بترحيب كبير، كبادرة اعتراف رسمي من قبل ملك إنجلترا باعتبار نابليون الثالث الإمبراطور الشرعي للفرنسيين.

وبعد قيادة الإمبراطور، اندفع الشعب الفرنسي بحماس إلى روح إكسبو، وقوبلت زيارة الملكة فيكتوريا بالتصفيق المدوي أثناء زيارتها قصر الفنون الجميلة وقصر الصناعة، مع موكب ضخم رافق الملكة، حيث تم بيع أكثر من ألف تذكرة موسمية في يوم واحد لجمهور معين. وأقيم حفل خاص في القصر احتفاءً بزيارة الملكة لإكسبو باريس.

منتجات

ويمثل إكسبو باريس أول عرض عام لمنتجات آتية من الإمبراطوريات الاستعمارية في العالم، حيث قامت إنجلترا بتجميع منتجاتها في سيلان وجامايكا وغويانا البريطانية ومالطا وتسمانيا وجزر الباهاما، وبالطبع جوهرة التاج الهند، وعرضتها في إكسبو.

وقلد الفرنسيون البريطانيين، فجمعوا منتجاتهم من جزر الأنتيل والسنغال وجزيرة ريونيون ومدغشقر والجابون والجزائر، وعرضوها في إكسبو، وأغلبها جاء من الجزائر المستعمرة آنذاك، حيث من بين إجمالي 911 منتجاً من المستعمرات الفرنسية الأخرى، كانت حصة الجزائر وحدها 728 من الحبوب والتبغ والأخشاب النادرة والآلات الموسيقية ولعب الأطفال وكذلك عرض المنتجات الأفريقية التي كانت خاضعة لمستعمرات فرنسا التي توفر لها المواد الخام.

وفي المقابل، ستوفر فرنسا أغلى السلع لبيعها خارج حدودها. وكانت باريس في تلك الفترة تتخوف من تراجع الاستقرار الحكومي والتفوق العسكري الذي قد يعطّل مهمة باريس في أخذ مركز الريادة في الفن والفكر الأوروبيين، وكذلك غيرتها من أن تصبح إنجلترا القوة الصناعية الرائدة في أوروبا.

وكانت جميع الأنظار متوجهة إلى الفنانين الفرنسيين، وخاصة أعمال جان أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا، الأول يمثل المدرسة الأكاديمية «الكلاسيكية» الفرنسية، والثاني لمدرسة الرومانسية، وحصل كلاهما على ميداليات ذهبية من قبل الإكسبو.

رسوم كاريكاتورية

تميّز إكسبو باريس بانتشار الرسوم الكاريكاتورية عن «الزائر النموذجي للمعارض الصناعية» و«الزائر النموذجي للمعارض الفنية»، بالنسبة لمحبي الفن، وخاض قسم الفنون الجميلة في إكسبو معركة مثيرة للأعمال الفنية من جميع أنحاء العالم.

اختراعات مهمة وحضور هائل

جمع إكسبو باريس منتجات من الزراعة والصناعة والفنون الجميلة في آن واحد، وحضره 5 ملايين شخص وهو عدد هائل آنذاك، مما حفّز المنظمين على إنشاء أعمال معمارية طموحة مثل قصر الفنون والصناعة.

وتم عرض اختراعات هامة آنذاك مثل آلة صناعة القهوة القادر على صنع 2000 فنجان من القهوة في ساعة؛ وآلة جزازة العشب، والغسالة وآلة الخياطة سنجر؛ ومسدس كولت بست طلقات، والتقنيات الحديثة مثل القاطرات والمدافع ورافعات البناء الضخمة، وصناعة لوي فيتون التي ظهرت لأول مرة في الإكسبو وحققت شعبية كبيرة، والحوض العملاق الذي يحتوي على غواص في أعماق البحار، والذي ألهم الكاتب جول فيرن للكتابة.

وأظهر إكسبو باريس الآلات الضخمة والبضائع باهظة الثمن للمشترين الأثرياء، وفي الوقت ذاته تم عرض البضائع الرخيصة للفقراء في آن واحد في إكسبو 1855، كمحاولة لاستغلال سوق جديدة.

وكان المراد بعرض البضائع الرخيصة تفكير الإمبراطور نابليون الثالث بأن الطبقة الوسطى لا بد أن تستفيد من الثورة الصناعية، وكانت الآلات والأدوات الضخمة والمعقدة المعروضة في قصر الصناعة سنداً للحكم آنذاك.

وقد اعترف البريطانيون بتفوق الفرنسيين في مجال الفنون الجميلة، وكان من الطبيعي أن يولي إكسبو باريس أهمية كبيرة لها.

لكن المشكلة الأولى التي واجهها إكسبو باريس هي اعتراض الفنانين على العرض بجانب الصناعيين. ففي البداية، قوبل الاعتراض بوعود تخصيص قاعات لها في متحف اللوفر.

لكن هذه الخطة سقطت وقرر مفوضو إكسبو أن تُعرض فنونهم وإبداعاتهم في إكسبو، وتم بناء ملاحق أخرى للفنانين.

قصر الصناعة.. إرث الإبداعات

افتتح نابليون الثالث إكسبو باريس في قصر الصناعة ووصفه بأنه «معبد السلام»، وتحوّل القصر إلى الإرث الوحيد لمعروضات مدينة باريس وإبداعاتها آنذاك، وبقي حتى انتهائه في عام 1897 لإفساح المجال لإقامة إكسبو 1900.

وفي هذه الاحتفالية، تم وضع أشجار صغيرة مزروعة في صناديق مزخرفة على طول واجهة القصر، رمزًا للطبيعة. وكان المدخل نفسه على شكل قوس النصر، وهو الشكل الذي استرجع كلاً من أمجاد الإمبراطورية الرومانية وقوس النصر الذي أقيم في زمن نابليون الأول.

وأظهر الإفريز مشهداً مستمداً من فن العمارة اليوناني: التلاميذ الذين يحملون هدايا من الفن والزراعة والصناعة، وكلهم يحيطون بتماثيل نصفية لنابليون الثالث توجت بأكليل من الغار إلى جانبها رموز للفن والصناعة.

وعبّر قوس النصر على استمرارية الإمبراطورية، من العصور الكلاسيكية وصولاً إلى فرنسا في القرن التاسع عشر.

وانتقد الفيلسوف والمؤرخ إرنست رينان إكسبو باريس قائلاً إنه أظهر الأشياء وليس الأفكار، ومعظم هذه الأشياء افتقرت إلى غرض فكري أو روحي، وقال: لأول مرة يجمع إكسبو جموعاً كبيرة من الناس دون منحهم هدفاً مثالياً ولم يُظهر أقوى العقول في أوروبا، بل انشغل في تقديم الصناعة فقط.

كما انتقد المبالغة في التركيز على الآلات والأدوات والترويج للبضائع الاستهلاكية. كما انتقد الفيلسوف الشهير نظام الإمبراطورية الثانية لأنه يخلط بين الفنون الليبرالية والفنون المحافظة، وقال: إن إكسبو يسعى إلى استبدال القصائد ببراغي من القطن.

Email