تنافس بريطاني فرنسي على إظهار القوة الاقتصادية

«إكسبو».. الولادة في باريس 1844

إكسبو باريس 1937

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو تتبعنا تاريخ نشوء فكرة إكسبو وانطلاقته الأولى في العالم، لاكتشفنا أن فرنسا كانت الأم الأولى له، إذ دشنت عصر الإكسبو في عام 1844 بأول إكسبو وطني، وأطلقت عليه «الإكسبو الفرنسي للصناعة» في باريس، أي قبل انعقاد إكسبو لندن بسبعة أعوام.

وقد أقيم في منطقة الشانزليزيه التي كانت عبارة عن غابات كثيفة من الأشجار قبل أن تتحول إلى أحد أحياء باريس الراقية.

وقد أقامت فرنسا العديد من تظاهرات الإكسبو الصناعي على أساس تجريب مفهوم الإكسبو وإطلاق مفهومه المعاصر.

ومنذ ذلك التاريخ، انطلق الإكسبو في عموم أوروبا والمملكة المتحدة إلا أن الهدف الأول المرجو منه، كما خطط القائمون عليه، في البداية هو تشجيع استخدام التكنولوجيا في الزراعة الذي جذب إليه العارضين الزراعيين من أنحاء العالم.

وهكذا بدأت معارض إكسبو عديدة في تقليده دون أن تأخذ الصفة الرسمية لمفهوم الإكسبو. وسار على خطى فرنسا بلدان ومدن عديدة منها بيرن ومدريد وبروكسل وبوردو وسانت بطرسبورغ ولشبونة في إطلاق معارض إكسبو خاصة بها.

ولم تكتسب معارض الإكسبو شكلها الرسمي الذي عرفت به فيما إلا بعد أن تأسس لها مكتب دولي يعتني بتنظيمها ويضع شروطه وقوانين لها.

على أية حال، كان للإكسبو أو المبادرات الأولى لعقده في أوروبا الأثر الكبير على توجه رجال الأعمال والصناعيين الكبار والساسة إلى إقامته، وترسيخ مبادئه العلمية من خلال إقامة شراكات بين الحكومات والشعوب، وتشجيع التبادل التجاري بينها.

ولذلك أصبح إكسبو لندن أول منصة نموذجية عالمية لتعزيز التواصل والتعاون بين جميع الجنسيات خارج الوسائل والقنوات التقليدية، من أجل تحقيق هدفٍ واحد هو تحفيز الابتكارات والاختراعات.

وهكذا بدأ البشر منذ ذلك التاريخ في استخدام التكنولوجيا والرقمنة، مع التأكيد على العنصر البشري، بعيداً عن اغتراب الإنسان. وبدأت للإكسبو مهمة جديدة وهي مواجهة تحديات المستقبل، والانفتاح على مشاريعه المستقبلية ودخولها في حيز التطبيق.

إن إكسبو فرصة مثالية لعرض إنجازات الدول واستعراض مفاهيم التعاون الدولي الجديدة في اجتذاب أعداد غفيرة.

كما أن الإكسبو تحول إلى ميدان للمنافسة الشريفة أو السلمية بين الفرنسيين والبريطانيين لأنهما كانتا في ريادة تدشين معارض الإكسبو في العالم، من خلال عرض منتوجات من مستعمراتها، كما هو الحال لفرنسا، من جزر الأنتيل والسنيغال وجزيرة رينيون ومدغشقر وغابون والجزائر، وهذه المنتوجات تنوعت منها الحبوب والتبغ والأخشاب النادرة والآلات الموسيقية والألعاب وغيرها.

الاحتفاء بالسلام

وفي هذا المسعى، أظهر الفرنسيون استجابة كبيرة إلى إكسبو لندن للمشاركة فيه، وتفعيل شراكتها، بل ومنافسة الاقتصاد البريطاني، وساهموا في إنجاحه. لذلك رفع الفرنسيون والبريطانيون شعار الاحتفاء بالسلام والتعاون العالميين. وهو ما جعل إكسبو لندن وقصره الكريستالي أن يتجاوز الحدود، وانتاج معارض دولية في أوروبا والعالم.

وفي هذا الاتجاه، قرر نابليون الثالث إقامة إكسبو باريس من أجل عرض انجازات الإمبراطورية الثانية حيث أصبحت باريس مركزاً فنياً هاماً في العالم آنذاك من أجل تشجيع الصناعة الفرنسية، ووضعها في موقع التنافس.

وذلك ما دفعها إلى تقوية علاقاتها مع بريطانيا، بعد أن كانت حليفةً لبريطانيا في حرب القرم. وقام كل من فكتوريا والبيرت بزيارة باريس بناء على دعوة نابليون لهما. وتم إقامة الإكسبو في قصر الصناعة في جادة الشانزليزيه الشهيرة، وبقي مستمراً طيلة اثنين وأربعين عاماً أي حتى عام 1897.

وعلى الرغم من أن إكسبو باريس قلّد إكسبو لندن في بنائه من الحديد والزجاج، كالقصر البلوري في لندن، لكنه أظهر تمسكه أكثر بالتراث والتقاليد المعمارية وخاصة في واجهاته الحجرية المعروفة.

ولم يتمكن قصر الصناعة على استيعاب جميع محتويات الآلات والفنون الجميلة التي عرضها، لذلك اضطر الفرنسيون إلى إنشاء ابنية مجاورة لأن أعداد الزوار وصل إلى خمسة ملايين، لكن هذا العدد كان قليلاً مقارنة بنسبة السكان مما أدى إلى خسارته مادياً رغم نجاحه في العالم.

وظلت الصناعتان البريطانية والفرنسية طاغيتين على الإكسبو لفترة طويلة من الزمن، واستفادت الصناعتان من التبادلات المعرفية والتجارية والصناعية.

الأسمنت والألمنيوم

ولا بد من الإشارة إلى أن صراعاً خفيّاً كان يجري بين الأمم آنذاك في مجال تطور علومها وابتكاراتها واختراعاتها. وكان ذلك أمراً طبيعياً لأن كلتا الصناعتين كانتا تسعيان لتقديم الأفضل في ابتكاراتهما، ولأول مرة تم بفضل قيام الإكسبو في كلا البلدين تقديم مواد جديدة في البناء وهي «الأسمنت والألمنيوم» لأول مرة في التاريخ.

وكان ذلك بمثابة ثورة في عالم العمارة. بل وغيّر مفهوم البناء في الفن المعماري، من خلال استحداث بيئة جديدة للبشرية لم تكن معروفة فيما قبل. ولا يزال هذا الاكتشاف مهيمناً على البناء في العالم أجمع حتى يومنا الحاضر.

3 مراحل

لذلك يمكن تقسيم تاريخ الإكسبو الابداعي إلى ثلاث مراحل هامة في تطور البشرية.

أولاً: مرحلة التصنيع تغطي مرحلة «التصنيع» الفترة ما بين 1800 و1938.

وقد انطلق الإكسبو أساساً للتركيز على ربط التجارة بالمخترعات التكنولوجية، ومن ثم تحول إلى منصّات أوسع للعلوم والتكنولوجيا التي لم تجد إلا الإكسبو لتجتمع في مكان واحد.

وهكذا توالى الإكسبو في لندن ونيويورك وفيلادلفيا وباريس وشيكاغو ولوفالوا ــ فرنسا وسان لويز وسان فرانسيسكو وشيكاغو اعتماداً على عرض وتقديم الاختراعات الواحدة تلو الأخرى.

وأدت تلك العروض إلى إقامة شراكات استراتيجية بين الدول، تجمعها الصناعات الحديثة وتجاربها في الريادة التكنولوجية.

وأثر الإكسبو على مرحلة الانتقال إلى الاقتصاد المبني على المعرفة. وهذا أدى بدوره إلى التصنيع القائم على الابتكار، ومواكبة الأسواق العالمية، والاستثمار في عمليات البحث والتطوير، وتبادل التجارب والخبرات.

وأصبح المجتمع المعاصر يعتمد أساساً على المعرفة والتقنية الذكية والابتكار، وهي العناصر التي تضمن النمو المستدام، ونشر الوعي العلمي والتقني بين الدول والشعوب.

منتجات غذائية

ظهر إكسبو بشكله القديم في باريس عام 1849، وأطلق عليه إكسبو الجمهورية الثانية أو المعرض الوطني للمنتوجات الغذائية الصناعية، والذي استقبل نحو أكثر من خمسة آلاف عارض إلا أن انعقاد إكسبو لندن بعد مرور سبع سنوات حقق نجاحاً أكبر من الإكسبو الفرنسي المذكور سواء في تنظيمه أو اكتشافاته العلمية.

التبادل الثقافي قاسم مشترك

على الرغم من أن التكنولوجيات والابتكارات ظلت ملمحاً بارزاً لمعارض إكسبو إلا أنها لم تعد الملمح الوحيد المهم.

ولو تفحصنا الشعارات التي رفعها الإكسبو نراها تركزت على: الغد والسلام والإنسان، مؤشرٌ كبير في التحول الضخم حيث أضحى الإكسبو بمثابة ساحة لتقاطع الثقافات والتقائها، وتبادل الحلول.

ولعل إكسبو مونتريال هو الذي حقق هذه القفزة من خلال إطلاق تسمية «إكسبو العالم» بدل الإكسبو، الذي أكسبه صبغة عالمية وكونية، وخرج من النطاق المحلي.

وانطلقت معارض الإكسبو في كل من فنلندا واليابان وكندا وفرنسا وإسبانيا كحالات تعبر عن هذه المرحلة الحيوية من مراحل تطوره التاريخي.

وفي هذا الأفق، أوضحت دراسة ضخمة أعدها تياكو والفيز بعنوان «إكسبو هانوفر بالأرقام» الذي عُقد عام 2000 أن 73 % من البلدان المشاركة فيه، استهدفت تحسين صورتها القومية بشكل أساسي.

وفي عالم اليوم، يُعّد فيه تحسين الصورة القومية أحد الأصول القيمة والثمينة حيث أضحت الأجنحة المشاركة بمثابة حملات دعائية، وأصبح معارض إكسبو قاطرة بناء العلامة التجارية للدول والأمم.

وعلى سبيل المثال ، فقد استخدمت إسبانيا إكسبو 1992 في تسليط الضوء على صورتها الجديدة كدولة ديمقراطية حديثة، وعلى الخصوص في تقديم نفسها كعضو بارز في الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي. ومنذ ذلك الوقت، بدأت معارض إكسبو تشجّع التبادل الثقافي والاتصال والتجديد بين الشعوب.

ويمكن أن نسمي التبادل الثقافي بين معارض إكسبو بمثابة التبادل العابر للقارات بين التجار والخبراء والمهندسين والفنانين والمبدعين والمهتمين بالإبداعات والابتكارات الذين تمكنوا من تغيير ملامح العالم المعاصر وممارساته، وأسهموا في إعادة تشكيل التاريخ البشري منذ انعقاد الإكسبو الأول في العالم وحتى الوقت الحاضر.

منصة لتحسين صورة الدول

اعتباراً من إكسبو في بريسبان، بدأت الدول تستخدم إكسبو بشكل أوسع وأقوى كمنصّة من أجل تحسين صورتها الوطنية من خلال أجنحة البلدان المشاركة مثل فلندا واليابان وكندا وأسبانيا.

وأصبحت الصورة الوطنية القوية هي مفتاح الإكسبو، والأجنحة عبارة عن حملات إعلانية، وحاضنة لعلامة هذه الأمة أو تلك. وكذلك المدن نفسها التي تقام فيها الإكسبو أخذت تسوق صورتها. وفي إكسبو هانوفر استطاعت الدول المشاركة أن تصنع هندستها المعمارية الخاصة بها، وتقديم ما لديها من اكتشافات وابتكارات.

تطوّر في نيويورك

كانت النتيجة أن أثر إكسبو على تحسين وسائل الحياة المعاصرة ومفاهيمها، وأدى ذلك إلى نمو المهارات الإنسانية عبر الزمن، الأمر الذي يبرهن مدى قوة هذه المعارض وفاعليتها.

وشهد إكسبو نيويورك تطوراً كبيراً في مسيرة معارض إكسبو قاطبة، حيث تغيرت محاور ومجالات تركيزه، فمنذ هذا التاريخ وصاعداً، أصبحت معارض العالم تعطي تركيزاً قوياً لمفاهيم وتعبيرات ذات مدلول ثقافي، وبدأت في طرح القضايا الإنسانية، كما أضحت أكثر توجهاً نحو المفاهيم المتعلقة بالمستقبل والأفكار الخيالية.

اقرأ أيضاً:

إكسبو العالم من لندن 1851 إلى دبي 2020

Email