لم تخل نقاشات النجوم وصناع الافلام في "مهرجان برلين السينمائي الدولي" بدورته الخامسة والستين من التعرض لموضوعات تتعلق بالاستعمار الغربي لدول الشرق الاوسط والعالم العربي تحديدا، وايضا نظرة "الغربي الأبيض" الى الشعوب الأخرى.
ويعرض المهرجان عشرات الافلام التي تحمل مضامين سياسية في أشكال منوعة تاريخية أو وثائقية أو مجرد قصص حب رومانسية.
وغالبا ما يتحاشى الحضور في الندوات العامة المكون من النجوم وصناع الافلام من جهة ومن الصحافيين الآتين من مختلف دول العالم من جهة أخرى (تبلد الاسئلة الصحافية هذا العام ظاهرة ملموسة)، لعدم الخوض مباشرة في السياسي، الراهن، رغم عدم خلو أفلامهم من مضامين جدلية لا يمكن الا قراءتها في السياق الراهن.
ومن الممثلات الجريئات المعروفات بآرائهن الصادقة، الفرنسية جولييت بينوش، التي حضرت مع فيلمها "لا أحد يريد الليلة" والتي فاجأت الجمهور بصراحتها حين انتقدت تعجرف الثقافة الاوروبية الغربية بالقول:" مشكلتنا نحن في الغرب أننا نظن أنك لأنك أبيض وغربي فهذا يعني أن لديك القوة وانك تعرف كل شيء وأنه يتوجب عليك أن تذهب الى المناطق المظلمة لكي تغيرها، لكنني، مثل الشخصية التي مثلتها في الفيلم، كنت أشعر أنني طاووس الا أن اكتشاف ما هو خارج المنطقة الآمنة جعلني أشعر بحقيقة الأمر.. انني دابة أسير على اربع"، في اشارة الى الحياة القاسية التي يعيشها الناس في مناطق مختلفة من العالم خارج جغرافيا الغرب، والتي تجعل من الصعب مقاربة حياتهم بالنظرة الزاهية والواهية لطائر، فيما الحقيقة تدب على الارض ولا تحلق في السماء.
في المقابل، تبرز "نظرية" المخرج الالماني ويرنر هيرزوغ الذي ينافس فيلمه " ملكة الصحراء" (انتاج أميركي) على "الدب الذهبي"، وهو مستند عن قصة واقعية مستمدة من حياة الجاسوسة البريطانية غيرتود بيل (1868-1921) التي عاشت في ايران والاردن في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الاولى وسقوط الامبراطورية العثمانية على أثرها. ويعتبر المخرج أن قصة الحب الرومانسية التي ظللت أحداث الفيلم، وربطت بين البطلة التي يظهر الفيلم وجه اهتمامها بالشعر والثقافة، هدفه أن يعيد تسليط الضوء على "جمال وكبرياء حياة بدو الصحراء"، في مقابل "الكثير من الحملات التي تتعرض لها "تلك الشعوب" في هذه الايام، "انها رسالة من حقبة ماضية الى الراهن اليوم".
لكن المخرج لا يوضح كيف أن فيلما كتبه وأخرجه عن جاسوسة تتمتع برفاهية الكولونيالية البريطانية في بلاد فارس والعرب، وتخوض في علاقات سياسية مع الأطراف المتنازعة والمتكالبة على رسم الخرائط، وتقضي وقتا في "البازارات" الموحشة حيث تباع رؤوس الخراف المقطوعة والمنفرة، ووتمايل مع حبيبها بلباسها الفاخر في عربة الخيل التي تمر في مناطق بائسة (صورت غالبية مشاهد الفيلم في المغرب).. كيف ذلك كله بوسعه أن يساعد في ردم تلك الهوة التي تحدث عنها.
وفي المؤتمر الصحافي الذي جرى بعد عرض الفيلم ظهر الجمعة، بدا المخرج الذي لجأت اليه بطلة الفيلم الشقراء نيكول كيدمان في كل مرة يتم سؤالها عن دورها حرصا منها على عدم تقديم اجابات خاطئة أو متهورة.. بدا المخرج يناقض نفسه بنفسه في الجلسة ذاتها، فهو تارة يشير الى اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة، التي من المفترض أن "ملكة الصحراء" لعبت دورا ما في التأثير عليها (هو الدور الذي فشل الفيلم بتصويره بوضوح) قائلا:" لا يمكن اليوم الجزم بأن اتفاقية سايكس بيكو كانت صائبة أو خاطئة"، لكنه يعود ليستدرك على الفور:" ولكن، ما بديل ذلك التقسيم؟ هل هي الخلافة الاسلامية التي تريد أن تحكم اسرائيل ولبنان (من غير المفهوم هنا الاشارة الى لبنان واسرائيل، فاذا كانت الاشارة تاريخية، فإن الاشارة الى فلسطين أولى)". ويمضي بالقول متحدثا عن "الدولة الاسلامية في الشام والعراق" (داعش)، رباطا بين حقبتين من التاريخ بينهما مائة سنة على الاقل.
ووصف بعض ممن استمعوا الى التصريح بأنها محاولة المخرج الالماني، الايحاء بأن استعمار الدول الغربية للدول العربية وايران وتقاسمها بين منتصري الحرب العالمية الأولى، واعادة رسم خرائط المنطقة آنذاك، هو عمل "نبيل" والا فـ"ارهاب داعش"، وهو نوع من انواع اعادة كتابة الأحداث التاريخية السابقة ذات الوجه المظلم وتلميعها بالافادة من واقع سياسي راهن. وهو الأسلوب ذاته الذي اتبعه مؤخرا المخرج الأميركي كلينت ايستويد مؤخرا في فيلمه "القناص الاميركي"، حيث تعاد رواية اجتياح العراق بعد عقد من حدوثه، متجاهلة المآسي والآلام، ومركزة على بطولة "قناص أميركي" يقتل "المتوحشين"، وهو الفيلم الذي استثمر مشاعر العداء الأميركية والعالمية المتنامية حاليا ضد ارهاب عناصر "داعش"!
ولم يلق "ملكة الصحراء" اعجاب الكثير من النقاد الذين وجدوا فيه قصة حب ساذجة مفعمة بأجواء الكولونيالية في مقاربتها الاستشراقية الايكزوتيكية لمنطقة حيوية من العالم عشية انهيار الامبراطورية العثمانية التي حكمت لخمس قرون وبزوغ قوى جديدة ستغير مصائر شعوب تلك المناطق الى يومنا هذا!