"المطلوبون الـ18" نال الجائزة الذهبية في قرطاج بعد جائزة "أبوظبي"

لماذا نحتاج الى أبقار الشوملي في "مزرعة القضية الفلسطينية"؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لنتخيل أن التناول الابداعي، وتحديدا السينمائي، للقضية الفلسطينية على مدى النصف قرن الماضي، مزرعة كبيرة. فيها من يكد ويتعب وفيها من يسترخي على كومة من القش يسحب أنفاس سيجارته بكسل وينسب النجاح والتأثير له.

فيها شخصية لوثت أيديها بالطين، وأخرى تأنف من الاقتراب من روث الأفكار الكبرى. في مزرعة "القضية الفلسطينية السينمائية" هناك ما هو أخطر بكثير أحيانا: شحاذون ونبلاء، خونة وأوفياء، موهوبون وجهلاء، لصوص وشرفاء، طيبو النوايا وخبثاء.. ومع الاختلافات الجذرية بينهم، فان ما يجمعهم هو "حبهم" لفلسطين ورغبتهم بصناعة أفلام عنها!

من بين النبلاء، بلا شك، المخرج والفنان الشاب عامر الشوملي، الذي صفق له الجمهور كثيرا في "أبو ظبي السينمائي" اكتوبر الماضي، ثم جمهور "قرطاج السينمائي" قبل أيام، ليخرج من الاول بجائزة أفضل فيلم وثائقي من العالم العربي ومن الثاني بالجائزة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في المسابقة الرسمية. لماذا صفق الجمهور ولماذا منحت الجوائز لهذا الرجل الذي لا يثرثر كثيرا في أحاديثه لكنه يتأمر ويفكر وينجز الكثير من الاعمال مع "أبقاره الـ18" في المزرعة الكبرى؟ ربما بوسعنا استشراف بعض الاجابات على هذا السؤال:

الاجابة 1:  فلسطين تحتاج الى حس الفكاهة أيضا

يقدم الشوملي في فيلمه قصة العصيان المدني التي أعلنتها بلدة "بيت ساحور" زمن الانتفاضة الأولى 1987، حيث قرر الأهالي، بدعم من الناشطين الفلسطينيين، مقاطعة شراء الحليب من الشركة الاسرائيلية، والقيام بتربية الابقار وحلبها في داخل البلدة، الأمر الذي عرض أمنهم وامن ابقارهم، وكذلك أمن دولة اسرائيل للخطر. قضية العصيان جادة للغاية، ودخول الأبقار على خط "النضال" مسألة تحتمل الطرفة وان كانت في عمقها تعكس أفكارا ورؤى اقتصادية واجتماعية (ليست تربية الابقار من تراث الاهالي هناك).

وبدل أن يسرد الشوملي القصة بالطريقة الكلاسيكية، التراجيدية المعتمدة حين التطرق الى المسألة الفلسطينية، ها هو يضحكنا بقدر ما يبكينا، بدءا من حوار البقرات فيما بينها أثناء رحلتهن من مزرعة مستوطن اسرائيلي "متعاطف" حتى بيت ساحور، مرورا بتصريحها الباعث على هستيريا من الضحك:" لقد تعرضنا للخيانة من قبل الفلسطينيين ومن قبل الاسرائيليين"، وصولا الى تصرفات هذه الابقار في رحلة تهريبها واخفائها بعيدا عن الملاحقة الاسرائيلية.

الاجابة 2:  لدى الفلسطينيين خطة وقد تنجح
تماما كما خطة المخرج، فإن أشخاصه الذي سلط الضوء عليهم في الفيلم الوثائقي (يدمج بين الشخصيات الواقعية والكرتونية) يظهرون فهما واعيا، ورؤية واضحة لتجربتهم وما ارادوا تحقيقه، وما انجزوه بالفعل من وراء حركة العصيان تلك. انها شخصيات متعلمة في الجامعات او من خبرة الحياة، وهي صلدة وقوية بثقافتها وايمانها وثقتها بنفسها، حين تتحدث عن النجاح الذي احبطته اتفاقية مدريد التي وأدت الانتفاضة وكل اشكالها. حتى الأمهات البسيطات (من بينهن أم احد الشهداء الذي حرس الأبقار فدفع الثمن) يظهرن قدرا كبيرا من الحكمة في طريقة النضال والحديث عنه.

الاجابة 3:  التحريك فن لا بد منه
ساعدت هوية الشوملي الفنية بوصفه قادما الى عالم السينما من دنيا التصميم الغرافيتي والنحت والرسم (بعض تجاربه المبهرة على الموقع www.amershomali.info) على جعله بخوض الأجرأ في المقاربات السينمائية:

الدمج بين الوثائقي والكرتوني ذي الابعاد الثلاثة بطريقة محكمة التفاصيل الى حد مدهش. لقد ضخ حياة في أبقار قصته، فأعطاها أسماء وأبعاد درامية وخصال ومصائر وأقدار، وجعل تفاعلها مع الشهادات والمشاهد الحية نابضا جدا، ساعده في ذلك مونتاج "متعوب عليه".

ورغم قلة استخدامه، تحديدا على تلك الحرفية، في التجارب العربية، فإن أفلام التحريك باتت، خلال السنوات السبعة الماضية هي من الخيارات المفضلة لدى صناع الافلام الذين يريدون طرح قضايا كبرى ورسائل هادفة في أفلامهم.

وهكذا كان فيلم "المطلوبون الـ18" خطوة اضافية في طريق الشوملي، الذي بدأه قبل زمن بعيد، تارة عبر صور عملاقة لرموز القضية الفلسطينية مكونة من مواد تشبه العلب الموضبة على رفوف السوبرماركت (عمل فني رد من خلاله على استغلال السلطة الفلسطينية في حملاتها لرموز فلسطينية) مرورا الى منحوتته الضخمة "البقرة المبكسلة"، وغيرها الكثير من الاعمال.

الاجابة 4: انهم يتحدثون الانجليزية بطلاقة
ها هو شعب فلسطين المتحضر، المتمكن من مهارات التواصل، ومنها اللغة، "يرطن" بالانجليزية في هذا الفيلم، لكي يتحدث بغلة العالم، مباشرة ومن دون وسيط، ولا مترجم "صديق" أو "خائن".

الشخصيات في هذا الفيلم، الممول بجزء كبير منه كنديا، تتحدث بغالبيتها مستخدمة اللغة الانجليزية. مظهر لطالما حاولت دولة اسرائيل طمسه منذ بداية تأسيسها التي رافقت افلام دعائية كثيرة كان الصهاينة ينشرونها في صالات لندن ونيويورك وباريس وغيرها تظهر الفلسطيني البدوي الذي لا يعرف الا الابل ومستنقعات الماء الراكدة. طبعا الصورة تغيرت، وان كانت خطة اسرائيل بطمس البعد التحضري لوجه فلسطين مستمرة وبأشكال مختلفة.

الاجابة 5: نعم في فلسطين مسيحيون وضد الاحتلال
احدى أقوى مكنونات الفيلم أن أحداث نضاله تدور في بلدة مسيحية في فلسطين. وبالنسبة لأي مشاهد عربي فهذا ليس بشيء لافت يستحق التوقف عنده، اذ أن فلسطين منذ فجر تاريخها، ارض لجميع الثقافات والديانات، بل هي مصدرها او بوصلتها. لكن  الصهيونية لطالما حاولت التخلص من "عبء" الصبغة المسيحية للبلاد، الذي يربك اختلاقاتها ودعايتها ضد فلسطين باعتبارها "بلاد المحمديين الشرسين"، عبر مزيد من تهويد البلاد وتاريخها، من دون ان يتسع المجال هنا لاستعراض مئات القوانين التي سنتها في السنوات الاخيرة لدعم هذه الغاية.

وفي الوقت الذي ترتفع فيه اصوات الابتزاز العالمي من "العواصم الكبرى" بحجة الدفاع عن مسيحيي الشرق عامة وفلسطين خاصة، بادعاءات في باطنها تزوير وخبث نوايا، يأتي هذا الفيلم لكي يظهر بقوة أن النضال الفلسطيني ضد المحتل الاسرائيلي في عصبه الرئيسي صليب مدلى على عنق أم تسمي ابنها "شهيدا" (تسمية يصور الاسرائيليون انها من قاموس الاسلام فقط).

الكثير من جمهور "فوكس" و"سي أن أن" و"صنداي تايمز" وغيرها يكاد يجهل فعلا تلك الحقائق، فعل أبقار الشوملي تعلمه القليل.

الكثير من الاجابات قد تصلح للرد على سؤال: لماذا نحتاج أمثال الشوملي في معترك انجاز أفلام عن فلسطين. لكن اجابة واحدة ربما تختزلها جميعا: لأنه صادق ونبيل ولا يخشى الطين والروث ويبتعد عن كومة القش التي تغطي نفاقا كبيرا!
 

Email