أحمد بن الأمين الشنقيطي..نموذج الشاعر والعالم والأديب

أحمد بن الأمين الشنقيطي..نموذج الشاعر والعالم والأديب

ت + ت - الحجم الطبيعي

أبرز ملامح الصورة النمطية لقطرنا العربي موريتانيا ـــ شنقيط قديماً ـــ أنه بعيد، في أقصى الطرف الغربي للوطن العربي، وأنه فقير أجدب ومتخلف نتيجة نصف قرن من الاستعمار الفرنسي الجائر، وأنه منعزل ومنطو على نفسه.

فأما بعده، فهو من ميزاته، لأنه أتاح له دوراً رائد متميزاً في التاريخ العربي والإسلامي، وبخاصة في مجال نشر الإسلام واللغة العربية في غرب إفريقيا ووسطها، وفي مجال خدمة العرب والمسلمين في الأندلس في محنهم الأليمة.وأما فقره وجدبه وتخلفه، فهو فيه ضحية للطبيعة القاسية، ولعهد الاستعمار اللا إنساني، ولتقصير الأشقاء في البلاد العربية في مساعدته على استثمار موارده الواعدة.وأما العزلة والانطواء، فهو أبعد ما يكون عنهما، إذ يسجل التاريخ القديم والحديث له أنه كان دوماً ناشطاً في التواصل، وأنه لم يكف عن دفق صفوة أبنائه إلى المجتمعات الشقيقة، حيث ساهموا بمواهبهم وعلمهم في إثراء الثقافة العربية، وبالجملة كانت موريتانيا الشقيقة، وكان أبناؤها النجباء، بلا حدود..

في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، كانت القاهرة ـــ برغم الاحتلال وما صاحبه من أحوال صعبة ـــ كالسماء تزدان بألمع نجوم الفكر والأدب والفن والصحافة. كانت ـــ لسبقها الحضاري، وأجواء الحرية النسبية فيها، واحتضانها الحاني لضيوفها، كأبنائها وأكثر ـــ قبلة الأنظار ومهوى الأفئدة من كل أقطار العروبة والإسلام.وفي العقد الفريد الزاخر، برزت أكثر من درة قادمة من بلاد شنقيط ـــ موريتانيا حالياًــ، عرفوا جميعاً بقلب «الشناقطة». من هؤلاء الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي، الذي يعد ـــ بحق ـــ مثلاً للشاعر والعالم والأديب بلا حدود.

ولد أحمد بن الأمين في شنقيط حوالي سنة 1289هـ ـــ 1872م. ونشأ وتلقى العلم فيها على شيوخها العلماء والأدباء. وحداه طموحه ومواهبه إلى الترحال في أنحاء وطنه لتعرف مواطنه، ودراسة أحواله الاجتماعية، والالتقاء بعلمائه وأدبائه. وكانت حصيلة تجواله ثروة وافرة من المعارف وعتها ذاكرته القوية الفذة، وكانت أشبه بمكتبة موسوعية ثرية كانت في صدره، توافيه في يسر بكل ما يحتاج إليه أينما كان.وكعادة أهل بلاده، وبخاصة أهل العلم عبر حدود وطنه لأداء فريضة الحج، وطلب المزيد من العلم في بلاد العرب والإسلام.

بدأ ترحاله سنة 1315هـ ـــ 1897م، وأدى الفريضة والتقى بعلماء مكة المكرمة والمدينة المنورة، فأخذ عنهم واستفاد منهم، ثم شد الرحال إلى المواطن الإسلامية في بلاد الروس، ومنها إلى تركيا، حيث الآناضول وأزمير والآستانة (اسطنبول)، فعاين معاهدها العلمية ومكتباتها الزاخرة بنفائس الكتب والمخطوطات، ثم قصد سوريا حيث اجتمع بأفاضلها وعلمائها وأدبائها، ومنها إلى القاهرة.

كان وصوله إلى القاهرة في مشارف عام 1320هـ ـــ 1902م، بداية إثمار شجرته، حيث طبع أول كتبه فيها في سنة وصوله، وهو كتاب «الدرر اللوامع على همع الهوامع».في القاهرة طاب له المقام، فقد رحبت به الأوساط العلمية، وشجعه صفوة علمائها وأدبائها، لما لمسوه فيه من علم واسع بالفقه وأدب وافر، وتضلع من علوم اللغة، وذاكرة واعية عجيبة.

كان من أبرز من أظلوه برعايتهم السيد محمد توفيق البكري نقيب الأشراف وشيخ الطرق الصوفية، وقد قام الشنقيطي بشرح كتابه القيم «صهاريج اللؤلؤ»، بالاشتراك مع السيد أبو بكر لطفي المنفلوطي.وممن ساعدوه كذلك العلامة أحمد تيمور باشا، صاحب الخزانة التيمورية الشهيرة الحافلة بالمطبوعات والمخطوطات، والتي تعد الآن من أنفس ما تحويه دار الكتب المصرية.

ومن طرف علاقتهما أن الشنقيطي كان قد أعياه البحث في البلاد عن القصيدة الميمية الشهيرة للشاعر القديم المخضرم حميد بن ثور الهلالي، وأخيراً وجدها عند تيمور باشا، فسعد بها وأثبتها في كتابه «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط»، مع معارضتها في الشعر الموريتاني.

أما أكثر الشخصيات المصرية عونا له وتأثيرا في عطائه، فكان السيد أمين الخانجي، صاحب المكتبة ودار النشر الشهيرة، فهو الذي هيأ له وسائل التأليف والتحقيق. ويسر له طبع جميع ما أنتجه من الأعمال الفكرية والأدبية واللغوية، حتى إنه أعد له سكناً خاصاً في مبنى مطبعته المعروفة باسم «الجمالية» وكانت بحارة التتري داخل حارة الروم بشارع الغورية بالأزهر.

كان الأديب بلا حدود أحمد بن الأمين الشنقيطي، مجمع علوم، محتدم الجهد والنشاط، جاهزاً دائماً للاستفزاز العلمي، حتى إنه خاض حواراً أقرب للمعركة العلمية مع واحد من أنبغ علماء عصره، ومن وطنه شنقيط أيضاً، وهو العالم القدير الشيخ محمد محمود بن التلاميد الشنقيطي، الذي كان بدوره عالماً وأديباً بلا حدود، واستقر في مصر بعد تجوال حافل وحياة خصبة في مكة والمدينة بوجه خاص، وكان صديقاً حميماً للإمام محمد عبده.

كانت المعركة العلمية خاصة باسم العلم «عمر»، فكان ابن التلاميد يرى أنه اسم يصرف، بينما كان ابن الأمين يرى أنه ممنوع من الصرف، وهو الشائع والمستقر منذ قرون وحتى الآن.يتجلى علم ابن الأمين وعطاؤه السخي بنظرة إلى ما طبع من أعماله، وأثرى المكتبة المصرية والعربية به، وهو:

- الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع (في العلوم العربية).

- الدرر في منع عمر.

- طهارة العرب.

- شرح المعلقات العشر وأخبار قائليها.

- الوسيط في تراجم أدباء شنقيط.

- درء النبهاني عن حرم سيدي أحمد التيجاني.

أما ما حققه وشرحه من الكتب فهي:

- ديوان طرفة بن العبد.

- أمالي الزجاجي.

- صهاريج اللؤلؤ للسيد محمد توفيق البكري.

- ديوان الشماخ بن ضرار.

- ليس في كلام العرب لابن خالوية

- الإعلان بمثلث الكلام، لابن مالك.

- تحفة المودود في المقصور والممدود، لابن مالك.

- تصحيح كتاب الأغاني، لأبي فرج الأصفهاني (طبعة الساسي).

هذا غير ما لم يطبع، وغير شعره الذي لم يعن بجمعه في ديوان، كما لم يورده ويورد اسمه نفسه بين الشعراء الذين عرف بهم وسجل ما وعته ذاكرته من أشعارهم وهو كثير جداً، استغرق خمسمئة واثنتين وثمانين صفحة، هي مجمل كتابه القيم النفيس «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط».

كتاب «الوسيط» هو ـــ في تقدير الكثيرين ـــ درة عقد أعمال الأديب بلا حدود أحمد بن الأمين الشنقيطي، لأنه غير مسبوق، فكان الوثيقة الأولى التي نفضت غبار الإهمال، ومحت حدود العزلة، ووضعت في دائرة الضوء رافداً ثرا من روافد الأدب العربي في القرن التاسع عشر بخاصة، وهو الرافد العربي الأصيل العريق، الذي أبدعه شعب يعتز بعروبته، بلسان شاعره محمد فال ولد عينين، الذي قال:

إنا بنو حسن دلت فصاحتنا

أنا إلى العرب الأقماح ننتسب

إن لم تقم بينات أننا عرب

ففي اللسان بيان أننا عرب

انظر إلى ما لنا من كل قافية

لها تذم شذور الزبرج القشب

وقد طبع كتاب الوسيط في القاهرة سنة 1911، متضمناً ـــ إلى جانب التعريف بنحو خمسين شاعراً موريتانيا ـــ معلومات وافرة عن بلاد شنقيط: جغرافيتها وتخطيطها، وأسماء قراها ونجوعها، وأماكن مياهها وآبارها، ومراحل الطرق فيها، إضافة إلى ثروة مهمة من الأمثال العامية مع شرحها ومقارنتها بأشباهها من الأمثال العربية المعروفة، وكذلك مجموعة من الكلمات الدارجة العامية في اللهجات المختلفة الجارية على ألسن الناس مثل البربرية والشلحية والحسانية.

ومع أن معظم أشعار الوسيط اتسمت بلغة القدماء وأساليبهم ومفرداتها، وذلك بحكم الثقافة التراثية التي كانت سائدة، فإنها لم تخل من مقطوعات وقصائد سهلة لا تحتاج لشرح، ومن ذلك شكوى الشاعر عبدالله بن محمد العلوي، وهو أيضاً من الأدباء بلا حدود في موريتانيا، وكنيته الشهيرة «ابن رازكة»، (والكاف هنا أصلها قاف)، وقد كان كثير الترحال بين وطنه ومكة المكرمة والآستانة:

إلى الله أشكو طوع نفسي للهوى

وإسرافها في غيها وعيوبها

إذا سقتها للصالحات تقعست

ودبت على كره إليها دبيبها

وتشتد نحو الموبقات نشيطة

إذا فاوقتها الريح فاقت هبوبها

وما هي إلا كالفراشة، إنها

ترى النار ناراً، ثم تصلى لهيبها

ظل كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، المرجع الرائد والوحيد في المكتبة العربية عن الحياة الثقافية وأعلامها في شنقيط ـــ موريتانيا، حتى عام 1960 الذي صدر فيه كتاب موريتانيا الحديثة، و1962 الذي صدر فيه كتاب شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون، وهما للأديب اللبناني والرحالة بلا حدود محمد يوسف مقلد، ثم جاءت جهود العالم والأديب الموريتاني المعاصر المختار الحامد، وجهود الدكتور محمد المختار ولد أباه في كتابه «الشعر والشعراء في موريتانيا». لكن كتاب «الوسيط» كان دون ريب أبرز مراجعهم جميعاً.

وفي عام 1331هـ ـــ 1913م. قضى العالم الموريتاني والأديب بلا حدود أحمد بن الأمين الشنقيطي نحبه بالقاهرة، عن واحد وأربعين عاماً فقط، كانت حافلة بالبحث والعطاء بلا حدود.

عبدالوهاب قتاية

Email