محمد عبده منارة خرجت منها الحركات الإصلاحية الإسلامية

محمد عبده منارة خرجت منها الحركات الإصلاحية الإسلامية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الإمام محمد عبده من أعظم العقول الإسلامية التي وهبت جل طاقتها لتجديد الفكر الإسلامي، ويعتبر من أهم أركان مدرسة التجديد الديني في عصرنا الحديث، وهو من العلماء الذين ارتبطت أسماؤهم بالإصلاح، كما أنه كان أحد العوامل المهمة في ظهور حركات إصلاحية تنويرية في الشرق الإسلامي استندت إلى العقل والشريعة الإسلامية لمواجهة الفساد، ومن هذه الحركات الإصلاحية الدعوة لتحرير الفكر والعقل والمجتمع بأسره من التقليد والجمود.

وكتاب الإمام محمد عبده والقضايا الإسلامية للدكتور محمد عبد الرحمن بدوي يتناول قضايا الإصلاح الديني والتربية والتعليم والجامعة الإسلامية والمرأة في صدر الإسلام والأسرة والمرأة، وحاجة الإنسان إلى الزواج وحجاب النساء وحكم الشريعة في تعدد الزوجات وقضية الشورى والاستبداد وعادات المآتم والتملق وتفسير القرآن وفتاوى للإمام.يقول المؤلف إن استقرار التاريخ يدلنا على أن هناك صراعاً مستمراً بين العقل والنقل، وهذا الصراع ظهر بصورة واضحة في العصور المتخلفة، ففي العصور الوسطى (المسيحية) أصيبت بالانهيار في جميع نواحي الحياة. ويتضح هذا الصراع في العصور الحديثة، والذي تبدو رواسبه في الشرق الإسلامي، بعد أن تعرض العقل للنقد والتجريح، والاضطهاد من قِبل مَن يطلقون على أنفسهم حماة الدين، ويشير المؤلف إلى أنه إذا كانت حركة الشيخ محمد عبده بمثابة تنوير ديني، فقد دعي إلى إعمال العقل والرؤية والتأمل في كل ما يحيط بنا من الداخل - التراث - ومن الخارج - المعاصرة .

- وعلى هذا كانت أهمية العقل عند شيخنا الإمام كما يشير إلى أنه قد أعلى مِن شأن العقل فالعقل عنده هو مناط التكريم للإنسان والأكثر من ذلك نجد أن الإمام وضع العقل في مكانة رفيعة فهو يرى أنه إذا تعارض العقل والنقل فهو يأخذ بما دل عليه العقل أو تأويله للنقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.

وقد جعل الإمام العقل شرطاً أساسياً في صحة الإيمان ويشير المؤلف إلى أن مقولة (اعقل كي تؤمن) تعد من أهم القضايا التي آمن بها محمد عبده، فالمرء لا يكون مؤمناً إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتي يقتنع به، فرفض التقليد هو أول إعمال للعقل، وهنا يظهر أول مرض من الأمراض التي عالجها الإمام.

تحرير الفكر

ويشير المؤلف إلى أن تحرير الفكر من قيد التقليد كان من أهم القضايا التي دعا إليها الإمام، بل وبَّين خطورة التقليد على الإيمان فبيَّن أن هناك نوعين من الإيمان، أولهما إيمان الاعتقاد وهو ذلك النوع الذي ينشأ عن التقليد وقلما ينشأ عنه عمل، أما النوع الثاني فهو إيمان الإذعان الذي ينبه النفس دائماً إلى ما تُذعن له، ويبعثها دائماً إلى العمل ويشير المؤلف إلى أن محاولة الإمام محمد عبده إلى وضع تيار جديد حاول من خلاله التخلص من تيارين انتشرا في المجتمع هما تيار التقليد والجمود والذي استقطب العديد من أبناء الأمة.

وكذلك حارب تيار التغريب الذي لا يقل خطورة عن التيار التقليدي، والذي استقطب بدوره مثقفي الأمة الذين انبهروا بالغرب، ويرى المؤلف أن الأزهر والمدارس الأميرية كانا يمثلان التيار التقليدي الجامد كما أن المدارس الأجنبية كانت تمثل التيار التغريبي ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تيار معتدل، والذي أُطلق عليه التيار السلفي العقلاني.

وبناء على الثورة التي أشعلها محمد عبده على التقليد والمقلدين كان لزاماً عليه أن يكشف عن مشروعه التنويري والذي من خلاله يقضي على الأمة الكبرى (التقليد ) فكان أهم ما يتضمنه مشروعه هو الإصلاح الشامل لكل مناحي الحياة وأولاً إصلاح التعليم.

ويؤكد المؤلف بأن اللقاء الأول لمحمد عبده مع التعليم كان في الجامع الأحمدي، وهنا تجلت النزعة العقلية النقدية عند شيخنا الإمام فهو لم يطق صبراً على متابعة الطريقة العقيمة في التعليم، مما دفعه لإعلان رفضه لهذا النوع من التعليم، وعندما ذهب إلى الأزهر تبين له أن الأزهر ليس أفضل حالاً من الجامع الأحمدي، مما دفعه للإعلان عن حركته الإصلاحية في التعليم من خلال تقديم الدين بصورته الصحيحة بعيداً عن الجمود والانحلال والقيود ورأى أن إصلاح الأزهر ضرورة مُلحة من أجل إصلاح شأن الأمة.

ويوضح المؤلف أن الإمام كان له موقف عقلي رافض للتصوف، ولكنه دافع عنه دفاعاً مستميتاً ويتساءل المؤلف كيف لنا أن نفسر هذه الازدواجية في موقف الإمام؟ ويجيب بقوله إننا أذا بحثنا في آثار محمد عبده لسوف نجد نفحات صوفية أثرت في مجريات حياته الفكرية تأثيراً حقيقياً، وقد عرَّف التصوف بأنه الدين، وأنه بالتصوف يستطيع أن يقهر كل فساد.

وقال إنني إذا يئست من إصلاح الأزهر، فإنني سوف انتقي عشرة من طلبة العلم وأربيهم تربية صوفية، هكذا كان للتصوف عنده مكانة سامية وشأناً عظيماً، ورغم ذلك فقد هاجم الطرق الصوفية واعتبرها بمثابة بلاء ابتلي به المسلمون ولذا رفض الإمام محمد عبده أي نوع من الفكر أو السلوك الذي يخل الدين ويبعده عن نقائه، ولهذا رفض الصوفية وأشاد بالتصوف كرياضة نفسية وأخلاقية.

السحر خداع

يشير المؤلف إلى أن السحر من الموضوعات التي تثير جدلاً في جميع الأوساط ولكن كيف عالج الإمام هذا المرض؟ ويجيب المؤلف أن للإمام اتجاه عقلي نقدي يتجلى في كثير من الأمور التي تناولها وعلى رأسها هذه المسألة وهل سُحر الرسول عليه السلام؟ وقد نفي عنه السحر ذلك لأنه نظر إلى السحر على أنه يقع على العقل لا البدن، ومن هذا المنطلق كان نفيه له، وذلك لأنه يتنافى وعصمة الأنبياء، بل إنه ذهب إلى أن السحر هو نوع من الخداع لا حقيقة له.

ورفض أن يكون جزءاً من العقيدة الدينية، بل صرح بأنه من الأمور العادية والعلوم الإنسانية، فهو متروك إلى بحوث الناس وتقدم معلوماتهم عنه وهو أشبه بعمل الساسة في الحكومات، وقد تناول مسألة السحر من منظور عقلي، ويؤكد المؤلف أنه قد أبدي بعض التراجع عن هذه الفكرة عندما قال وهذا لا يستلزم نفي السحر.

يوضح المؤلف أنه في أُخريات حياة الإمام محمد عبده عندما شرع في كتابة فصول يترجم فيها لحياته ويسجل بها سيرته، حدد الأهداف التي ارتفع بها صوته، وبذل في سبيل تحقيقها جهده وحياته، في ثلاثة أهداف وهي الإصلاح الديني واللغوي والسياسي، وقد حدد هدفه من الإصلاح الديني بقوله إنه يعني (تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف.

والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل من خلطة، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني ودعا إلى احترام الحقائق الثابتة مُطالباً بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل ويمكن إيجاز الإصلاح الديني عند الإمام في عدة نقاط: وهي إعلاؤه شأن العقل في تفسير القرآن، وطالب بأن يطرح الذين يريدون تفسير القرآن تفسيراً حديثاً مستنيراً، أن يطرحوا جانباً (رؤية) السابقين من المفسرين.

وأن يتزودوا بالأسلحة والأدوات اللغوية، وشيء من أسباب النزول، ومعلومات السيرة النبوية، ومعارف التاريخ الإنساني عن حياة الكون والشعوب التي يعرض لها القرآن الكريم، كما ارتفع بشأن العقل كقوة من قوى الإنسان، عند مقارنته بالقوى الأخرى التي يتمتع بها الإنسان.

ويقف محمد عبده في هذا الأمر قريباً جداً من موقف فلاسفة المعتزلة فهو يعتبر كل النتائج التي يصل إليها العقل سبلاً توصل إلى ذات الله، أي أن طريق العقل هو طريق معرفة الله، ولذلك فالإمام يقول (إن العقل من أجَلَّ القوى، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل للوصول إليه).

وفيما يتعلق بالنصوص المأثورة عن السابقين يفرق الإمام ما بين القرآن الكريم وبين غيره من النصوص ففيما يتعلق بغير القرآن من النصوص لا يرى الإمام لنص حصانة تُعلي من شأنه وما يصل إليه من براهين ومُعطيات، أما فيما يتعلق بالقرآن الكريم فإنه يسمو به عن مواطن الاشتباه.

ويرتفع به عن منازل الجدل، القرآن كتاب دين قبل كل شيء حجاب النساء وعندما يتناول الإمام محمد عبده قضية حجاب النساء من الناحية الدينية فهو يشير بقوله (لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصاً تقضي بالحجاب، على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين، لوجب عليَّ اجتناب البحث فيه .

ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص مهما كانت مُضرة في ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها دون بحث ولا مناقشة لكننا لا نجد نصاً في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم عند مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها لذا فمن الواجب الإلمام بهذه القضية وبيان حكم الشريعة فيها.

تعدد الزوجات

ويتناول الإمام حكم الشريعة الإسلامية في تعدد الزوجات فيؤكد بأنه قد أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة، وذلك بشرط إذا توافر للرجل القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة وقال (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)، و يتضح أن الشارع علق وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرد الخوف من عدم العدل، ثم صرّح بأن العدل غير مستطاع؟!

فمن الذي يمكنه ألا يخاف عدم العدل مع تقرر من أن العدل غير مستطاع، وهل لا يخاف الإنسان من عدم القيام بالمحال؟! ويرى أن كل بشر إذا أراد الشروع في عمل مستطاع يخاف، بل يعتقد أنه يعجز عن القيام به والوقوع في ضده في تفسير القرآن ويرى الإمام محمد عبده أن تفسير القرآن ليس بالأمر السهل وربما كان من أصعب الأمور وتبدو أوجه الصعوبة.

كما يرى أن القرآن كلام سماوي، وتنزل من حضرة الربوبية على قلب أكمل الأنبياء وإن الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال ولكن الله خفف علينا الأمر، بأن أمرنا بالفهم والتعقل لكلامه ويوضح الإمام أن التفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحياته الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه.

وما وراء هذا من المباحث تابع له أو وسيلة لتحصيله، والتفسير كما يرى الإمام له وجوه شتى، أحدها النظر في أساليب الكتاب ومعانيه، وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علو الكلام وامتيازه على غيره من القول، وسلك هذا المسلك (الزمخشري) وقد ألمَّ بشيء من المقاصد الأخرى.

وهناك من تتبع القصص، وسلك هذا المسلك من كتب التاريخ والإسرائيليات، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند أهل الكتاب وغيرهم، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وسمين، ولا تنقيح لما يخالف الشرع، ولا يطابق العقل، ويرى الإمام إن الجاهلية اليوم أشد من الجاهلية في زمن النبي لأن أولئك قال تعالى فيهم (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).

ومعرفة الحق أمر عظيم ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد ولكنه يكون دائماً ملوماً من نفسه على الإعراض عن الحق، وهذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل، ويضرب الإمام مثلاً حَيَّاً لجاذبية القرآن الكريم عند سماعه فيقول كان البدوي راعي الغنم، يسمع القرآن فيخر له ساجداً لما عنده من رقة الإحساس ولطف الشعور فهل يقاس هذا بأي متعلم اليوم؟

أرأيت كيف أن أهل الجزيرة العربية انضموا إلى الإسلام بجاذبية القرآن، لما كان لهم من دقة الفهم التي كانت سبب الانجذاب إلى الحق؟ وبعد فلقد كان الإمام عقلاً من أكبر عقول الشرق والعروبة والإسلام في عصرنا الحديث، وإنما الموت يُصيب الأجسام، أما هذه العقول الناضجة، فإنها لا تموت وأنها موجودة دائماً بيننا من خلال ما تركته من أعمال باقية ما بقيت الحياة!

Email