أحمد زكي أبو شادي..الطبيب العالم والشاعر المجدد

أحمد زكي أبو شادي..الطبيب العالم والشاعر المجدد

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشائع عن شعراء المهجر، شماله وجنوبه، أنهم كانوا في مجملهم من أبناء «سوريا ولبنان»، الذين دفعتهم أحوال بلديهم الخانقة، بين مطرقة الاستبداد والاضطهاد، وسندان الفقر وضيق سبل العيش والعمل، إلى الهجرة والارتحال، فلا يعرف من أعلام شعر المهجر المشاهير أحد من غير «سوريا ولبنان».

وظل الأمر كذلك حتى كان ربيع عام 1946، حين انضم إلى عقدهم في «نيويورك» ــ عقد الأدباء بلا حدود ــ شاعر وأديب كبير، من أرض الكنانة، وهو الطبيب والعالم، والشاعر المجدد الرائد، والنموذج النادر في نشاطه الجم، وفي اهتماماته المتعددة بلا حدود: الدكتور «أحمد زكي أبو شادي».

كانت حياة «أحمد زكي أبو شادي» ملحمة حافلة من النشاط المحتدم، والإنجازات المدهشة الرائدة في أكثر من مجال، حتى ليعجب المرء: كيف اتسعت ساعات نهاره وليله لكل هذا النشاط وتلك الإنجازات؟!

الحق أنه كان نجماً ساطعاً في سماء الحياة الأدبية والاجتماعية، راح يسري بأشعته في اتجاهات وآفاق عديدة، لكن غيوماً معتمة أحاطت به، وراحت تعوق سريان أشعته، وتحاصره، وتجحد فضله وتنكر قدره، حتى أصابته بمشاعر الإحباط، ودفعته إلى هجرة دياره ووطنه.

بدأت الرحلة بمولده في التاسع من فبراير سنة 1892، في بيت من بيوتات القاهرة الكريمة، لأب اجتمعت له فضائل الزعامة في مجالات عدة. كان محامياً نابهاً شهيراً في أنحاء مصر ونقيب المحامين. وكان سياسياً وطنياً مناضلاً مناصراً للزعيم «مصطفى كامل».

ومن بعده «محمد فريد»، ثم «سعد زغلول». وكان خطيباً جهير الصوت يستولي ببيانه على ألباب الجماهير. وكان أديباً متمكناً من لغته، وشاعراً موهوباً، وصحافياً وصاحب جريدة تضيء على صفحاتها ألمع أسماء الكتاب، وصاحب ندوة أدبية تجمع صفوة رجال الفكر والثقافة.

كذلك كانت أمه ــ «أمينة نجيب» ـــ شاعرة، وكان خاله ــ «مصطفى نجيب» ـــ شاعراً وناثراً ومناضلاً من رفاق «مصطفى كامل». وكان ابن خاله الفنان المثقف الكبير «سليمان نجيب».

وهكذا نشأ الوليد «أحمد زكي» في أجواء غنية بمناهل الفكر والثقافة والوطنية، فنهل وارتوى منها، وظهرت عليه آثارها نضجاً مبكراً، وتوجهات إبداعية واعدة، وروح بذل وعطاء عربية وإنسانية نبيلة.

في مطلع شبابه الباكر سنة 1908، أصدر مجلة قصصية باسم «حدائق الظاهر»، مستمداً اسمها من جريدة أبيه «الظاهر»، وكان هدفها كما سجل في تصديرها: «تشجيع القصص المصري بمعناه الصحيح تصويراً لبيئاتنا الوطنية المختلفة كوسيلة من وسائل التأريخ للمجتمع المصري وتشخيص أمراضه ووصف علاجها على نمط فني راق.. وتشجيع النقل عن روائع الأدب القصصي في الغرب، مؤثراً النقل الأمين على التمصير والاقتباس..».

وفي تلك الفترة ظهرت بشائر شاعريته، أذكتها شرارة عاطفة شبت في قلبه نحو فتاة من سنه من أقرباء زوجة أبيه، بعد انفصال أبيه عن أمه، ولكن أهلها زوجوها لأحد أصدقاء أبيها، فمزق ذلك قلبه، وبدأت صحته تتدهور.

كان الفتى الغض الجريح قد بدأ دراسته في «مدرسة الطب»، ففكر أبوه في ابتعاثه إلى «انجلترا» لإكمال تعليمه الطبي، لعل الحياة في الخارج تشفي جرح قلبه. وسافر الفتى إلى خارج حدود وطنه في إبريل سنة 1912.في «انجلترا» تألقت مواهب الفتى «أحمد زكي أبو شادي»، وتعددت مجالات شواغله واهتماماته بلا حدود..

في دراسته بجامعة «لندن» حصل على إجازته عام 1915، ثم تخصص في «البكتريولوجيا» بمرتبة الشرف عام 1917. وخلال سنوات اغترابه ذاك تعددت أنشطته الرائدة، فأسهم في إنشاء «النادي المصري» بلندن، وتولى سكرتاريته، وأنشأ «جمعية آداب اللغة العربية» وتولي سكرتاريتها، وأوكل رياستها إلى المستشرق الإنجليزي الكبير دكتور «مرجليوث».

وتجلى طموحه الثقافي في اتجاهه إلى دراسة أصول فن الرسم. لكن أطرف شواغله هناك كانت دراسته لعالم النحل، حتى صار عالماً متخصصاً فيه، له مكانته العالمية المقدرة، وقد توج مكانته تلك بتأسيس ناد دولي، وإصدار مجلة متخصصة في «النحالة»، ظلت تصدر حاملة اسمه، حتى بعد عودته إلى الوطن.

ولم يشغله كل ذلك عن اهتمامه بالقضية الوطنية، والتوعية بجهود الحركة الوطنية من أجل الاستقلال، ولما زار الزعيم «محمد فريد» لندن، نظم «أبو شادي» له حفل استقبال وحشد فيه شباب الوطن الدارسين هناك.وهكذا كان الدكتور «أحمد زكي أبو شادي»، عدة رجال في رجل، وقف أيام حياته ولياليها على خدمة المجموع والعمل العام، أو كما قال:

أعيش لنوعي لا لنفسي وحدها

وأنشر روح الحب غير مبدد

وقد امتدت إقامته في «انجلترا» عشر سنوات، تزوج خلالها بفتاة انجليزية مثقفة، أحبته وهيأت له في «لندن» ثم في مصر بيتاً هادئاً هانئاً يزينه ويملؤه حبوراً أولاده الثلاثة: «رمزي، وصفية، وهدى».

وقد كانت غربته الأولى هذه من أخصب سنوات عمره، فيها نهل كثيراً من مناهل الآداب والفنون الغربية، وفيها أبدع أشعار الشباب التي بشرت بتوجهاته التجديدية في الشعر العربي، التي من أبرزها التعبير الرمزي والوجدان الفردي ووحدة القصيدة وتنوع الأشكال أو البحور والقوافي.

وهي التوجهات التي تفتحت كأنضر تجليات الرومانسية العربية في أشعارها «ناجي وعلي محمود طه وصالح جودت ومحمود حسن إسماعيل والشابي والتيجاني يوسف بشير وحسن الصيرفي ومختار الوكيل»، إلى جانب «أبو شادي» وغيره ممن ضمتهم «جمعية أبوللو»:

وسألته: هل تقرض الشعر فطرة؟

فقلت: أجل، لكن بدمعي ونيراني

سواء بمحراب الطبيعة لحنه

وفي هيكل الحب المطهر وجداني

وفي مهمه الأرض الحزينة، راثياً

بنى الأرض، إذ أرثي وجودي وإنساني

تفجر من قلبي جداول لوعة

دماً يتلظى في أناشيد فرسان

في عام 1922 عاد الدكتور «أحمد زكي أبو شادي» إلى وطنه مفعم القلب بالأمل والروح الإنسانية، والمثل العليا، والمبادئ التعاونية، فبدأ حياته العملية بالعمل في معامل وزارة الصحة، فمديراً للمعمل البكتريولوجي في «السويس»، «فبورسعيد»، ثم «الإسكندرية» حيث دعا إلى إنشاء جامعة بها، فلما أنشئت اختير أستاذاً في كلية الطب بها، فوكيلاً لها، ثم تخطوه في عمادتها التي كانت من حقه، لولا مواقفه الوطنية التي لم ترض عنها السلطة.

ومثلما تعددت مجالات نشاطه وعطائه في «لندن»، تعددت بل زادت في مصر، فواصل ريادته للنحالة حتى أنشأت وزارة الزراعة فرعاً لها، وكان حلمه الكبير هو تحويل واحة «سيوة»، إلى محطة عالمية للنحالة تغل ثروة قومية عظيمة. وقد أصدر مجلة «مملكة النحل» لساناً لجمعية النحالين المصريين.

كذلك اهتم «بالدجاج»، وصار من كبار المربين للدواجن العالمية، وشيد في حديقة بيته بالمطرية مزرعة حديثة لها إلى جانب مناحله المنظمة، وأصدر مجلة، خاصة بالدجاج واهتم بالصناعات الزراعية، وأصدر لها مجلة كانت لسان حال جمعية الصناعات الزراعية المصرية التي بشرت بدعوة التصنيع والتعاون الزراعي.

واهتم بالأدب الشعبي، وأصدر له مجلة «الإمام»، التي كان محررها الأول أمير الشعراء الشعبي بيرم التونسي، وهو في منفاه فرنسا وتونس.أما درة أعماله واهتماماته فكانت في مجال إبداعه الأثير، الشعر والأدب. حيث أنشأ «جمعية أبوللو» ومجلتها الشهيرة، وحدد رسالتها في عددها الأول بأنها «السمو بالشعر العربي وتوجيه جهود الشعراء توجيهاً شريفاً.. وترقية مستوى الشعراء أدبياً واجتماعياً ومادياً، والدفاع عن صوالحهم وكرامتهم... ومناصرة النهضات الفنية في عالم الشعر». وذلك في مصر والأقطار العربية، والمهاجر.

صدر من «أبوللو» خمسة وعشرون عدداً، من سبتمبر 1932 حتى ديسمبر 1934. وكانت ــ بحق ــ حدثاً أدبياً وثقافياً عظيماً، وعلامة بارزة مضيئة وفارقة ومؤثرة في تاريخ الشعر العربي الحديث. على صفحاتها تألقت أسماء المبدعين الشباب الذين حظوا بحنوها ورعايتها وتشجيعها، ومنهم «أبو القاسم الشابي، وناجي وعلي محمود طه وصالح جودت» وبقية العقد الفريد الجميل من أبناء «جماعة أبوللو» ورواد الرومانسية في الشعر الحديث.

أما إبداع «أبو شادي» الشعري، فيقول فيه صديقه وزميله في «أبوللو» الشاعر الناقد «حسن كامل الصيرفي»: «.. لعل أحداً من الشعراء لم يلج عوالم شتى قد تتهيبها أجنحة الشعر كما ولج الدكتور أحمد زكي أبو شادي.. ولعل أحداً من الشعراء في العصر الحديث لم يلق من الجحود ما لقي أبو شادي. ومرد هذا الجحود هو هذا الولوج الجريء، ولا أتهيب أو أغالي حين أقول: هذا الفتح أو هذا الارتياد».

ويعد «أبو شادي» أسخى الشعراء إنتاجاً، وقد بلغ عدد دواوينه خمسة وعشرين ديواناً، وكانت هذه الكثرة مجالاً لضعف بعض أشعاره، وافتقاد بعضها للأناة والتكثيف وتصفية الشوائب الفنية، لكنها كانت ــ في مجملها ــ شعراً إنسانياً نبيلاً وجميلاً، ومرآة لمشاعر صافية، وقلباً لا يعرف الحقد، وروحاً تواقة للحق والخير والجمال.

وما كان شعري في نظيم أصوغه

ولكن شعري أن أكون أنا الشعر

في إبريل 1946، وتحت وطأة الجحود الذي أطبق على جهوده، وكاد يخنقه، شد «أبو شادي» رحاله، واصطحب أولاده، وودع أرض وطنه التي استودعها جثمان رفيقة عمره.. وسافر إلى المهجر «نيويورك»، حيث انضم إلى عقد أخوانه شعراء المهجر:

سألوني: لم ارتحلت؟ كأني

لم أجبهم بسيرتي نصف قرن

شادياً بالطليق من شعري الباكي

أغني لمجدهم ما أغني

وحياتي لعزهم في كفاح

ككفاح الشعاع في وسط دجن

مثل لن تحد نوعاً وعداً

كنجوم السماء في كل فن

وتبلغت بالعذاب وبالبؤس

مراراً، وكل حظي التجني

في «نيويورك» طاب مقامه، وتدفق نهر شعره وأدبه، وعمل مستشاراً للوفد السعودي، والوفد الأرتيري في الأمم المتحدة، كما عمل بتدريس الأدب في «معهد آسيا» هناك، وألقى أحاديث أدبية وتاريخية في الإذاعة، ونظم أشعاراً بالعربية والانجليزية، وأسس كعادته جمعية أدبية باسم «رابطة ميزقا»، واختير عضواً في «لجنة حقوق الإنسان الدولية».

ثم آن للجسد المنهك ان يسكن، وللروح المغتربة أن تصعد للسلام العلوي.. ففاضت، في بيته «بواشنطن».. في الثاني عشر من إبريل 1955:

أسفاً أعود إلى السماء

كما أتيت بنبع فني

لم ألق في دنيا الأنام

سوى المهازل والتجني

عبدالوهاب قتاية

Email