الفِطْنَةُ خلاف الغباء، كالفَهْم، وهي التنبُّه على المعنى، وضدُّها الغفلة. ورجل مغفَّلٌ: لا فِطْنَةَ له. يقال: فَطِنَ للشيء يَفْطُن، بالضم، فِطْنَةً، وفَطِن، بالكسر، فِطْنَةً أيضاً وفَطَانَةً، بفتح الفاء. ويقال: رجل فَطِنٌ وفَطُنٌ بكسر الطاء وضَمّها. ويجوز أن يقال إن الفِطْنَةَ هي ابتداء المعرفة من وجه غامض، فكلُّ فِطْنَةٍ علمٌ، وليس كلُّ علم فِطْنَةً. ولما كانت الفِطْنَةُ علماً بالشيء من وجه غامض، لم يجز أن يقال: الإنسان فَطِنٌ بوجود نفسه، وبأن السماء فوقه.
أما الذَّكَاءُ فهو خلاف البَلادَة، وهو تمام الفطنة. وقيل: هو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى؛ وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر، وسرعة القطع بالحق، وسرعة الإدراك وحدة الفهم؛ كقولهم: فلان هو شعلة نار. وأصله من ذَكَت النار، تذكو: اتَّقدَت وأضاءت. وأذْكَاها غيرها. وتَذْكِيَة النارِ رَفْعها. وشاة مِذْكَاةٌ. أي: مُدْرَكٌ ذبحُها بحدة السكين.
وذكيْت الشاة: ذبحتها. والتَّذْكِيَةُ: تمام الذبح. وسُمِّيَت الشمسُ ذُكَاءً لتمام نورها. وقيل: ابن ذكاء للصبح؛ وذلك أنه تارة يتصور الصبح ابنا للشمس، وتارة حاجباً لها، فقيل: حاجب الشمس.
ذَكِيَ الرَّجُل بالكسر: أَسَنَّ، وحظي بالذكاء، لكثرة رياضته وتجاربه، فهو ذَكِيّ على: فَعِيل. وبحسب هذا الاشتقاق لا يسمى الشيخ مُذْكِياً إلا إذا كان ذا تجارب ورياضات. ولما كانت التجارب والرياضات قلَّما توجد إلا في الشيوخ لطول عمرهم استعمل الذكاء فيهم، واستعمل في العتاق من الخيل المُسَانِّ. وعلى هذا قولهم: جَرْيُ المُذْكِياتِ غِلابٌ. ففي الذكاء معنى زائد على الفطنة.
وأما الفَرَاسَةُ فهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن. وقد نَبَّهَ الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ) (الحجر:75)، وقوله: (تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) (البقرة:273)، وقوله:
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ) (محمد:30). واشتقاقها من قولهم: فَرَسَ السَّبْعُ الشَّاةَ، فكأن الفَراسَةُ اختلاس المعارف؛ وذلك ضربان: ضَرْبٌ يحصل للإنسان عن خاطره، ولا يعرَف له سببٌ. وذلك ضَرْبٌ من الإلهام؛ بل ضَرْبٌ من الوَحْيِ، وإيَّاهُ عَنَى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«إنَّ في أمتي لمَحَدِّثين، وإنَّ عمر لمنهم». ويسمى ذلك أيضاً: النَّفَثُ في الرَّوْعِ.
والضَّرْبُ الثاني ما يكون بصناعة متعلمة، وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. وقال أهل المعرفة في قوله تعالى: (أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ) (هود:17): إن البيِّنة هو القسم الأول، وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح. والشاهد هو القسم الثاني، وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال.. والله تعالى أعلم!