فلاسفة الإسلام

واصل بن عطاء.. وفرقة المعتزلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو رجل ولد في المدينة ودرس فيها علوم عصره، ثم ارتحل عنها إلى البصرة، ليتصل بالفقهاء والمحدثين فيها وفي هذا الوقت كان الخوارج من أتباع الأزارقة (نافع بن الأزرق) قد اشتدت فتنتهم وغالوا في آرائهم وفي بحوثهم حول تحديد الذنوب.

وكان للحسن البصري، وهو العالم المحدث المولود في المدينة والمقيم بالبصرة ـ مجلس يقصده الناس في المسجد، وروى أن واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، دخلا عليه وهو في مجلسه يدرّس. فسأله واصل: «يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر .. وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر .. فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكر الحسن، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المرتبتين لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واصل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد . فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمى هو وأصحابه معتزلة.

وهكذا تأسست فرقة المعتزلة، في مواجهة جماعة السلف أو أهل السنة وكذلك في مواجهة الخوارج وفرقهم المتعددة، وأشرها أتباع نافع بن الأزرق، وتحالف مع معبد الجهني القائل بمسؤولية الإنسان عن فعله لأنه القادر على ذلك، كما تحالف أيضاً مع الجهم بن صفوان الذي أنكر صفات الله القديمة وأصبحت جماعتهم لا تتخذ من مسألة الكبيرة فقط مثاراً لخلافهم واختلافهم عن أهل السنة وإنما أضيفت إليها أفكار المتحالفين معهم .

سعى واصل بن عطاء بعد تكوين جماعة الاعتزال إلى نشر أفكارهم عن التوحيد كما ارتضته قناعتهم، وقيل إن واصل بن عطاء كان يتمتع بقوة وصلابة في شخصيته، وبلاغة وبيان في منطقه، رغم أنه ألثغ في الراء، ومع ذلك قالوا عنه: إنه نظم خطبة طويلة خلت جميعها من حرف الراء، حتى لا يظهر عيبه .

وكان من وسائل نشر هذه الأفكار كثرة المحاورات والمجادلات التي كان يقوم بها هو وأتباعه الذين انتشروا في البلاد يدعون بدعوتهم، ويثيرون المناقشات والمجادلات مع أصحاب الملل والمذاهب الأخرى، كما ألف هو عن هذه الأفكار كثيرا من الكتب في الفنون المختلفة في عصره منها: كتاب (الألف) مسألة في الرد على الماونوية.

وكتاب (أصناف المرجئة)و كتاب (التوبة) وكتابة (معاني القرآن)، كتاب (طبقات أهل العلم والجهل) وكتاب (المنزلة بين المنزليتين)، وكتاب (الخطب في الوحيد والعدل)، كتاب (السبيل إلى معرفة الحق) وكتاب (ماجرى بينه وبين عمرو بن عبيد)، كتاب (الدعوة)، كتاب (الفتيا)، بعض الخطب في النكاح والرد على جعفر الصادق، بالإضافة إلى بعض الأشعار.

ولأن واصل مؤسس مذهب وباني فرقة، يتمتع بخصائص الزعامة، كان لابد أن يكون فكره حاضراً مشحونا بدلائل مذهبه، وكان يحتج لهذا المذهب مع غير المسلمين بالمنطق العقلي، ويحتج لمذهبه مع أهل الإسلام بالقرآن، واعتبر أن طريق المعرفة والوصول إلى الحق لا يكون إلا بكتاب الله ..!

ولاشك أن واصل بن عطاء، قد وصل إلى ما يستطيع ان يتخذه دليلا وبرهانا على كل فكرة اتخذها في تكوين مذهبه .

وهكذا عرف في الإسلام ما سمي بعلم الكلام، أو فلسفة الإسلام، لأنه أشبه بالأبنية الفلسفية والتصورات الفلسفية التي صيغت قبل الإسلام، سواء اليونانية أو الرومانية أو الفارسية قال الدكتور محمد عمارة: (ولقد كان علم الكلام الإسلامي، في نشأته.

وكما تبلور عند فرسانه الأوائل من متكلمي «المعتزلة» أهل العدل والتوحيد ـ كان فلسفة هذه الأمة، التي اتخذت من العقل سبيلاً لتقدير العقائد الدينية، ودفع الشبهات عنها، والتي آخت مابين الكتاب وبين العقل، باعتبارهما دليلي الخالق سبحانه وتعالى، خلقهما لهداية الإنسان .. كما يقول الجاحظ، فهم لم يصنعوا صنيع الفلاسفة الذين ركنوا إلى العقل دون النقل.

وأيضاً فإنهم لم يرضوا بما رضي به النصوصيون من الوقوف، في أمور الدين وعقائده عند ا لوحي والمأثورات، بل جمعوا بين «العقل» و«النقل» ثم جعلوا العقل حاكما تعرض عليه النصوص ليفضي فيما يبدو ـ أحيانا ـ من تعارض بين ظواهرها وبين براهين العقول .. وكما يقول واحد من متكلمي المعتزلة هو القاضي عبدالجابر ابن احمد الهمداني:

«فإن الأدلة الشرعية، ليست فقط ثلاثة: هي الكتاب والسنة والإجماع، بل هي أربعة والعقل واحد منها بل هو أولها، والحاكم فيها، «فالأدلة: أولها: دلالة العقل، لأن به يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع» ويستطرد: «وبما تعجب من هذا الترتيب بعضهم فيظن أن الأدلة هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، فقط.

أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور، فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب ..» .

ويعلق الدكتور عمارة بقوله: (وإذا كان النصوصيون قد عجزوا عن تقدير عقائد الإسلام، على النحو الذي يدفع عنها شبه الخصوم من «لاهوتي» الديانات السابقة، لأن بضاعتهم كانت فقط النصوص والمأثورات التي لا يسلم الخصوم بحجيتها، فإن نهج متكلمي الإسلام قد أفلح في التصدي لهؤلاء الخصوم.

بل وتفوق في الجدل معهم، لأن المعتزلة قد برعوا في استخدام العقلانية سلاحاً على نحوٍ بزوا فيه مؤسسات اللاهوت التي صارعوها، فعلى حين كان لاهوتيو المسيحية يجعلون المأثورات طريقا وحيدا للإيمان، ثم يستخدمون العقل لفهمها وتدعيمها، ذهب متكلمو الإسلام إلى الحد الذي جعلوا فيه العقل سبيلاً لتحصيل الإيمان يسبق ويعلو طريق النصوص والمأثورات.

ومتى عرفنا بالعقل إلها منفرداً بالإلهية وعرفناه حكيما، نعلم من كتابه أنه له دلالة، ومتى عرفناه مرسلا للرسول، ومميزا له بالإعلام والمعجزة من الكاذبين، علمنا أن قول الرسول حجة، وإذا قال الرسول: «لا تجتمع أمتي على خطأ، وعليكم بالجماعة» علمنا أن الإجماع حجة . فالعقل هو الأول وهو الحكم. هذا على حين ظل اللاهوت المسيحي وفق عبارة القدس انسلم ءََّمٌٍم.

«1033 ـ 1109م» ـ رئيس أساقفة كنتر برى ـ يرى أنه: «يجب أن يعتقد أولا بما يعرض على قلبك، بدون نظر، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان في حاجة إلى نظر عقل» ..!

ولذلك نجح متكلمو الإسلام ذوو النزعة العقلانية، لا في صد هجمات خصوم الإسلام عن عقائده فقط، ولا في التصدي للشبهات التي ألقت بها المؤسسات اللاهوتية على الدين الجديد فحسب بل ونجحوا في الهجوم على فكرية هذه المؤسسات، فنشروا الإسلام في البلاد المفتوحة وبين الشعوب ذات المواريث الفكرية العقلانية، حتى غدا المسلمون أغلبية في رعية الدولة بعد أن كانوا أقلية فيها لزمن غير قصير.

وربما اعتقد البعض أن مؤسس مدرسة المعتزلة، كان خلواً من العلوم، خصوصاً النقلية، غير أن الاعتقاد غير صحيح مطلقاً فقد درس على ابن الحنفية، وكما سبق حضر مجالس الحسن وأخذ عنهم، واهتم بعلم الحديث للارتباط الحتمي بين القرآن والسنة.

وإذا كان مؤرخو الحديث قد أهملوا ذكر واصل في علم الحديث رفضا له ونكاية فيه، لموقف أهل السنة أصلا منه، فإن كتب فرقته تذكر اهتمامه بالسنة كما كانت له آراء جريئة في الأخبار، وشروط قبولها تقسيماتها، ورأى أن الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق (القرآن)، وخبر مجتمع عليه (السنة)، وحجة العقل، وإجماع من الأمة.

وقد حدد موقفه من الاستدلال بالحديث، وهو أن يكون خبرا مجتمعا عليه، أي أن يكون متواترا حسب اصطلاح المحدثين، ويرفض أحاديث الآحاد، كما تابعه في ذلك المعتزلة من بعده .

ومن جهة مكانته في الفقه، قد برع في تحصيله، وصار من أعلم الناس بالفتيا ونكات الفقه، وبيان آراء الفقهاء والتابعين واختلافهم في الفتيا، وكان يسعى من وراء ذلك إلى تعريف الناس بالتصورات العقدية التي توصل لها، وإطلاعهم على المبادئ الاعتزالية التي أقرها، وكان يقول: «لولا أني أدعو الناس إلى العلم بالدين بذكر اختلاف الناس في الفتيا ما نظرت في حرف منه، ولكن أطمع بذلك أن أجلبهم إلى العلم».

وله في أصول الفقه إسهامات مهمة فقد ذكر أن النسخ لا يتناول جميع أقسام الحكم الشرعي، وإنما هو يتناول قسمين فقط، وهما الأمر والنهي، وبنى ذلك على تقسيمه للكلام المفيد إلى أمر ونهى وخبر، وهذا التقسيم راعى فيه حال المخاطب، كما قال بعدم جواز نسخ الأخبار، وذلك في الواقع تنزيه للذات الإلهية عن الاتصاف بالكذب.

أ ـ المنزلة بين المنزلتين، وقد سبق أن عرضنا موقفهم في هذه القضية والتي هي أساس خروجهم عن جماعة أهل السنة.

ب ـ التوحيد: هو الأصل الثاني عندهم، ويقصدون به تنزيه الله عن مشابهة الحوادث، ومن عجب أنهم نفو صفات العلم والقدرة والارادة وكان غرضهم من ذلك أن يقرر استحالة وجود إلهين قديمين: الذات والصفات.

وأن من أثبت معنى صفة قديمة فقد قال بإلهين، ونفي الصفات عنده كان خوفا من أن ينتهي الأمر بالمسلمين إلى ما وقع فيه النصارى الذين فرقوا بين ثلاث صفات إلهية ذاتية، هي: الوجود والعلم والحياة، وجعلوا كل صفة منها مستقلة بذاتها، وأطلقوا عليها اسم الأقانيم الثلاثة.

جـ ـ العدل: انشغل واصل بقضية الجبر والاختيار وأفعال الإنسان وأفعال الله، ولم يستطع أن يمرر أن يكون الإنسان هو الفاعل للفعل ثم لا يحاسب عليه، فتقول الدكتورة منى أبو زيد: أصبح بعد واصل هذا الشعار شعاراً لفرقته وبعد استقرار التوحيد أصبح أصل العدل أهم أصولهم الكلامية، وبسبب هذا الأصل أطلق عليهم رواد الحرية الإنسانية عند المسلمين.

د ـ أبدى واصل رأيه في الإمامة، بأنها عقد اختياري بين الأمة وبين أي شخص قائم بالكتاب والسنة مستجمعا للشرائط المعتبرة، بغض النظر عن كونه قرشيا أو غير قرشي، وأجاز بيعة أبي بكر.

لاشك أن وجود مثل هذه الفرق على مثل هذه الآراء وسط مجتمع الإسلام يدل على سماحة الإسلام وحق الحرية في الفكر والاعتقاد، لا يقلل من ذلك صيحات الاستنكار والاستهجان من هنا أو هناك.

Email