قراءة في كتاب

«الجمال في القرآن الكريم»

ت + ت - الحجم الطبيعي

القرآن الكريم كلام الله الحق الخالد الذي أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. ومعجزة الله الكلامية التي تحدى بها فحول البلاغة وأساطين البيان، فعجزوا عن الإتيان بمثل أقصر سورة فيه، وخروا لجماله وجلاله، وإعجازه وكماله ساجدين، وعلى الرغم من أن المقصود الإسلامي في نزوله، أن يكون هداية للبشرية.

ومنهج تشريع للأمة، فإنه لا يعد كتاب دين ودعوة فحسب، إنما هو أيضاً كتاب أدب وبيان، وهو بحق أبلغ كتاب عرفته الدنيا في عالم الأدب وميدان البيان، حيث وصفه المرحوم الشيخ أمين الخولي بأنه «كتاب العربية الأكبر» وأثرها الأدبي الأعظم الذي خلّد العربية، وحمى كيانها، فصار فخرها، وزينة تراثها.

في سياق السعي وراء استكشاف بيان أوجه جمال القرآن وروعة القيم الجمالية في كلماته وعباراته وأسلوبه ونظمه المعجز البديع، يأتي كتاب «الجمال في القرآن الكريم» مفهومه ومجالاته لمؤلفه د. عبدالجواد محمد المحص ـ أستاذ الأدب الإسلامي والدراسات النقدية بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالإسكندرية، الذي يأتي في (202) صفحة من القطع المتوسطة، وقسمه المؤلف إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أقسام، جعل لكل قسم قضية محورية يتناولها ليأتي الكتاب بمثابة وجبة بيانية دسمة لكل من يقدم على تناولها.

في مقدمة الكتاب يقول د. المحص: وطنت نفسي منذ البدء في إعداد هذا البحث على أن نجاح البحوث العلمية، والوصول بها إلى الثمرة المرجوة تقيض من الباحث إقبالاً على البحث بلذة ومحبة، لا يعنيه الوقت الذي يبذل فيه، ولا الفناء الذي يلاقيه، ولذلك فإنني قد أقبلت على بحثي بعشق له، وهيام به، ولاسيما أن موضوعه من أشرف الموضوعات واسماها، فهو يتصل ـ كما نرى ـ تمام الاتصال، ويلتحم أشد ما يكون الالتحام بكتاب الله الحق الخالد الذي لا تنقضي عجائبه على مر العصور ومر الدهور.

أشرف الغايات ويضيف أنه يهدف من خلال هذا البحث إلى غاية من أشرف الغايات، وهي الدراسة الأدبية المتجددة، التي تدفع بالتفسير الجمالي للقرآن الكريم خطوة إلى الأمام بعيدة الأثر، وتكشف عن بعض وجوه الإعجاز البارز فيه وتسلط الأضواء على ما فيه من ملامح الحسن، ومعالم الجمال.

لم يكذب أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: «إن الذي ملأ اللغات محاسناً... جعل الجمال وسره في الضاد»، ولا كذبت اللغة العربية حين قالت على لسان حافظ إبراهيم: «أنا البحر في أحشائه الدر كامن..

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟» كلمات جميلة يوردها د. المحص في متناول تمهيده لموضوع الكتاب مؤكداً أن الحق سبحانه شاء أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين من الناطقين باللغة العربية، التي بلغت القمة في التعبير عن المعاني المختلفة.

وشاء سبحانه أن ينزل القرآن الكريم عليه بهذه اللغة التي أجمل القرآن كل مميزاتها في لفظة وجيزة دالة بقوله سبحانه: «وإنه لتنزيلُ رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين «الشعراء: 192 ـ 195»، وقوله: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» «النحل: 103».

الاحتفاء بالجمال

خصص المؤلف القسم الأول من كتابه لبحث موضوع الجمال واحتفاء القرآن الكريم به، ليوضح أن مادة «جمله» في المعجم الوسيط تأتي بمعنى حسن خلقه.. فهو جميل جمعه جملاء، وهي جميلة جمعها جمائل، والجمال عند الفلاسفة، صفة تلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس سروراً ورضاً، وأن علم الجمال:

باب من أبواب الفلسفة يبحث في الجمال ومقاييسه ونظرياته، أما الجمال عند الأدباء والنقاد، فهو من الأمور التي أولى لها، الأدباء عناية فائقة، فالأدب هو التعبير الفني الجميل عن المشاعر والأحاسيس، لذلك عنوا بإبراز مقاييس الجمال الفني في الأعمال الأدبية وما فيها من قيم، فالمعروف مثلاً أن غاية الشعر جمالية، حيث تأثيره في السامع والقارئ تأثيراً جمالياً، كذلك نفهم من كلام النقاد والأدباء أن الأدب الجميل هو العمل الفني الذي يبدعه الأديب، فيخلب به الأبصار، ويستهوي القلوب والأذهان، ويحقق المتعة الجمالية لدى متلقيه قارئاً أو سامعاً.

ويعرف القرآن الكريم الجمال في مفردات كثيرة كالحسن والزينة والزخرف الجميل، فالجمال هو الحسن والإبداع والإتقان، وأن الجميل هو ما يعجب الناظرين إليه، ويدخل السرور على نفوسهم، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تجيب في مجملها على السؤال الذي يستفهم عن مدلول كلمة الجمال في القرآن، مثل قوله تعالى:

«ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين»، «الحجر: 16»، وقوله تعالى في وصف البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها: «إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين» «البقرة: 69»، وقوله تعالى ـ في وصف الحدائق بأنها ـ «ذات بهجة»، «النمل: 60»، وقوله تعالى:

«وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج»، «الحج: 5»، ففي القرآن الكريم آيات عديدة توجه إلى الجمال في إبداع الكون، فالحق سبحانه وتعالى يدعو عبادة إلى التأمل في مشاهد الطبيعة حولهم، وما في هذه المشاهد من حسن وإبداع وزينة وجمال ليقفوا على جميل صنعه، ودلائل قدرته أولاً، وليستمتعوا بالجمال ثانياً.

ويؤكد د. المحص في القسم الأول من الكتاب أن الرائع في القرآن الكريم أنه لم يقصر عنايته بمعالم الحسن والجمال في الدنيا والآخرة على الجمال الحسي، الذي يدرك بالأبصار، وإنما امتدت هذه العناية إلى الجمال المعنوي الذي يزيد الإنسان جمالاً فوق جماله.. ونقصد بالجمال المعنوي:

جمال الخلق، جمال السجية، وجمال السلوك.. وكثيرة هي الآيات، التي تحض على التخلق بالأخلاق الكريمة، والخصال الحسنة، والسيرة الجميلة، والسلوك الطيب في الحياة، ومنها قوله تعالى لحبيبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً» «المزمل: 10».

إعجاز بياني وفي القسم الثاني، الذي عنونه المؤلف بـ «جمال الأسلوب القرآني» يذكر د. المحص أن جميع الذين كتبوا عن إعجاز القرآن الكريم اتفقوا على أن القرآن الكريم معجز بأسلوبه الفريد، ونظمه البديع الذي هو فوق طاقة البشر، ومعنى هذا، أن اسلوب القرآن الكريم هو مادة ذلك الإعجاز.

ولا عجب، فقد جاء هذا الأسلوب على نسق خاص، وصورة مباينة لما عرفه العرب من أساليب البيان، إذ لامس أوتار القلوب، فاهتزت له العواطف، وتحركت له المشاعر، وأسال الدموع من العيون، وفرت لجلاله وجماله وكماله حياة أساطير البلاغة وفحول البيان، مقرين بأنهم أمام نظم ووحي سماوي، لا يقدر على مثله مخلوق.

ويشير المؤلف في كتابه إلى أن المقصود من فصاحة اللفظة القرآنية، تلاؤم حروفها، وعدم تجافي مخارجها، وألا يكون فيها تكرار، ولا شذوذ، ولا وحشية، فكلمات القرآن ذاتها، على حسب البا قلاني في كتاب إعجاز القرآن، لها دلالتها وفصاحتها الخاصة.

وأن تخيرها يدل على قدرة قائلها، وعلو بيانه، فإذا كانت المعاني البلاغية لجملة القول، ففي اختيار الألفاظ المتناسبة في موسيقاها، وفي نغمتها وفي رنتها قوية أو هادئة على حسب المقام، فللفظ دخل في الاختيار، موضحاً أن اللفظة القرآنية هي أفصح الألفاظ في أحسن نظم التأليف، وأن لها بلاغة خاصة بأدائها، عبرها وغنها، وبأصواتها الموسيقية.

وإذا كان الله تعالى قد اختار للقرآن ترتيلاً يبدو فيه نغمة ومده، ورنين ألفاظه، فلابد أن تكون ألفاظه قد اختيرت لمزية في كل كلمة، لا في مجموعها فقط، حيث إن ألفاظ القرآن غرة في كل كلام، وصورتها الفصيحة البليغة لها رونق، ومخارج حروفها لها روعة ذاتية، الآن ذلك من عند الله العزيز الحكيم، وكذلك هي جميلة على الوقع في السمع، وتتسق اتساقاً كاملاً مع المعنى، وتتسع دلالتها لما لا تتسع له عادة دلالات الكلام على لسان البشر.

ويسلط د. المحص الضوء على مسألة مهمة تتعلق بالجمال في اللفظة القرآنية قائلاً: إن القرآن الكريم أبعد ما يكون عن التركيز عن البهرجة اللفظية، مع أنها عند البشر وسيلة جمالية لتحسين اللفظ، فالألوان البديعية، كالمقابلة والجناس ومراعاة النظير، ونحوها لا تذكر في كتاب الله إلا ملحظ بياني يوضح المعنى ويقويه، على شاكلة قوله تعالى: «إَّن مَع الُعُسِر يسراً» «الشرح :6».

حيث ترى اليسر مقترناً بالعسر وليس بعيداً عنه، وليس الغرض من هذا أن يكون اقترانهما حلية بديعية، وبهرجاً لفظياً، بل الغرض هو بعث الأمل في النفس البشرية، فالبهرجة اللفظية ليست مراداً أساسياً في كتاب الله عز وجل، بل هناك دائماً مع المحسن البديعي إن وجد ملحظ بياني يوضح المعنى ويقويه، ويحمل سراً قرآنياً عظيماً، وكذلك تمتاز اللفظة القرآنية بما تعطيه من إيحاءات رائعة جميلة، فهي تشع بأكثر من دلالة، وتوحي بأكثر من معنى، وكل ذلك مقبول مرضي في الوجدان والعقل.

«الجملة القرآنية.. رؤية جمالية».. تحت هذا العنوان يؤكد الباحث د. المحص أن جميع الدارسين للإعجاز القرآني أجمعوا على أن صياغة العبارة القرآنية ونظمها قد جاء في الطرف الأعلى من البلاغة، الذي هو الإعجاز ذاته، وذكروا للإعجاز فيها وجوهاً كثيرة، يعد كل وجه منها معلماً بارزاً من معالم الجمال والجلال والكمال في القرآن الكريم.

ويظهر ذلك جلياً في ما تجده من التلاؤم والاتساق الكاملين بين كلمات الجملة القرآنية، ودلالتها بأقصر العبارات دون اختصار مُخل أو ضعف في الدلالة، وإخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر الملموس، ثم بث الروح والحركة في هذا المظهر نفسه.

خصائص جمالية

ثم يتحول المؤلف في نهاية القسم الثاني من كتابه لعرض الخصائص العامة للأسلوب القرآني ومزاياه، والتي يجملها في قدرة هذا الأسلوب على التعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة، وذلك بأوسع مدلول وأدق تعبير وأجمل أداء، وتميزه أيضاً بأسلوبه الخطابي، الذي يشمل العامة والخاصة وما يتضمن ذلك من ميزة أسلوبية بيانية وموضوعية في وقت واحد، وجمع هذا الأسلوب القرآني بين الإجمال والبيان، وذلك مالا يقدر عليه إلا منزل هذا القرآن العظيم.

وكذلك من الخصائص العامة، التي تميز هذا الأسلوب القرآني قدرته على إقناع العقل وإمتاع العاطفة في آن واحد، وفعالية المعجزة القرآنية وحيويتها بالقدر النسبي، الذي لكل جيل من عقل، بمعني أن كل جيل من الأجيال يرى في القرآن قمة ما وصل إليه العصر من معرفة، فالقرآن يفسره الزمان حقاً.

القاهرة: وكالة الصحافة العربية

Email