فلاسفة الإسلام

ابن رشد... جرأة الفلسفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد بمدينة قرطبة حاضرة الأندلس في سنة 520 هجرية «1126م» ونشأ في بيت عريق في العلم والأدب، وذلك في أعقاب ملوك الطوائف الذين عرف عصرهم بالعصر الذهبي في الأندلس، وذلك العصر الذي بلغت فيه هذه البلاد أوج عزها الفكري والحضاري، كما بدأت حرية الفكر ببلاد المغرب بظهور من ادعي المهدية محمد ابن تومرت.

وقد ظهر ابن رشد في ميدان الفكر والفلسفة بعد أن زالت الدولة المرابطية التي كانت تناهض الفلسفة والفلاسفة. وقد قيل ان ابن طفيل هو الذي أخذ بيد ابن رشد ودفعه إلى الحياة العامة فقدمه إلى الأمير أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي في سنة 548 هـ ولم يكن هذا الأمير الموحدي قد تولى الحكم قبل سنة 558 هـ ولكن هذا الأمير كان مشغوفا بمجالسة العلماء والفلاسفة.

وقيل إن هذا الأمير سأل ابن رشد عن اسمه واسم أبيه ونسبه، ثم بادره بقوله: ما رأي الفلاسفة في السماء؟ أقديمة هي أم حادثة؟ فاستولى الحياء وأخذ الخوف يستولي على ابن رشد وخشي ان يبطن به الأمير، وأخذ يتعلل وينكر اشتغاله بالفلسفة.

ولكن الأمير ظل يتكلم في هذه المسألة مع ابن طفيل، فأعجب ابن رشد بغزارة علم الأمير ومعرفته بفلسفة أرسطو وأفلاطون والمتكلمين وفلاسفة المسلمين، عند ذلك ذهب الخوف عن ابن رشد وأخذ يتكلم دون خوف أو وجل من بطش الأمير، الذي أعجب به، فقربه منه، وكلفه بشرح مذهب أرسطو، وقد قام ابن رشد بهذا العمل على أكمل وجه.

فأورث الإنسانية علم أرسطو كاملا بريئا من الشوائب، إذ وقف حياته أو القسط الأكبر منها على دراسة أرسطو، فتناول كل ما استطاع أن يحصل عليه من مؤلفات ذلك الفيلسوف أو من شروحها بالدراسة العميقة والمقارنة الدقيقة، وقد اطلع على ما ترجم به من كتب اليونان التي ضاع أغلبها فيما بعد، أووصل إلينا بعضها ناقصا. وقد اتبع ابن رشد في شروحه الطريقة المبنية على التحليل الدقيق والنقد السليم.

وهو في شرحه لفلسفة أرسطو يوجز حينا ويطنب حينا آخر، فنرى هذه الشروح ملخصة أو مبسوطة ولذلك تعارفت الهيئات الثقافية الأوروبية على تميزه بلقب «الشارح».

وقد بلغ الفلاسفة المسلمين شأوا بعيدا في فهم فلسفة أرسطو وتقريبها إلى الأذهان بفضل ابن رشد وكان إعجابه بأرسطو يتجاوز الحد إذ رأى فيه المفكر الأعظم الذي استطاع ان يكشف عن الحقيقة، وأن الزمن لن يغير من آراء فيلسوف اليونان العظيم.

وكان لهذا الإعجاب الشديد شديد الوطأة في نقد المعلم الثاني ـ الفارابي «المتوفي سنة 339 ه» والرئيس أبي علي بن سينا «المتوفي 429 هـ وهو في نقده لهما أقسى من أرسطو في نقده لأفلاطون، على حين نراه في مدحه لأرسطو مبالغاً أشد المبالغة، إذ يراه ويرى مذهبه إذا فهم على الحقيقة لا يتعارض مع أسمى معرفة يستطيع أن يبلغها إنسان، ورفعه فوق طور الإنسان ومال إلى إطلاق لقب «الفيلسوف الإلهي» عليه.. «راجع كتابه: تهافت التهافت».

ولأنه تحيز وتعصب لمنطق أرسطو، فكان لا يرى سعادة لأحد دونه، وتحسر لأن سقراط وأفلاطون جاءا قبل أرسطو ولم يكونا بمنطق أرسطو، وسعادة الإنسان تكون على قدر معرفته بهذا المنطق.

وكان ابن رشد يهتم في علم اللغة بما هو مشترك بين جميع اللغات متأسيا في ذلك بأرسطو الذي راعى هذا في كتاب «العبارة» وفي كتاب «الخطابة» إذ كان يضع نصب عينيه هذا العنصر المشترك بين لغات الخلق جميعا.

ويرى ابن رشد ان الحقيقة قد تضمنت آراء أرسطو ومن هنا ننظر إلى علم الكلام عند المسلمين نظرة عابرة، وهو ما كان يصنعه فعلا، إذ انه مع إيمانه بالإسلام على أنه حقيقة لكنه يرى أنه حقيقة من نوع خاص، ولا يؤمن بجدوى علم الكلام، لأن هذا العلم يهدف إلى اثبات أشياء يتعذر اثباتها بمناهج أرسطو التي تقوم على المنطق.

«ويذهب ابن رشد إلى ما ذهب إليه اسبينوزا من أن الوحي الذي جاء به القرآن لا يرمي إلى إعطاء الناس علما، وإنما يرمي إلى إصلاحهم، وليس غرض الشارع في رأيه تلقين العلم، بل غرضه أخذ الناس بالطاعة، وبالأعمال الصالحة، لأن الشارع يعلم أن السعادة الإنسانية لا تحقق إلا في مجتمع.

وأكثر ما تمتاز به فلسفة ابن رشد عن فلسفات غيره، ولاسيما ان ابن سينا الشيخ الرئيس، وهو كيفية تصوره للعمل على أنه عملية تغير وحدوث منذ الأزل والعلم في جملته وحدة أزلية ضرورية لا يجوز عليها العدم، ولا يمكن ان يقوم على ما هو عليه وإذا كان التغير داخل نظام الكون أزلياً فإنه يستلزم حركة آلية، وهذه تحتاج إلى محرك أزلي.

ولو كان العالم حادثا لتحتم علينا القول بوجود عالم آخر حادث نشأ منه. وهكذا إلى غير نهاية. ولذلك يذهب ابن رشد إلى أن القول بأن العالم كله متحرك منذ الأزل ضرورة، هو وحدة الذي يضمن لنا إمكان الوصول إلى إثبات موجود مفارق للعالم محرك له منذ الأزل. وهذا الموجود بإيجاده تلك الحركة الدائمة وبإيجاده لنظام العالم البديع خليق بأن يسمى موجد العالم.

وكذلك يرى ابن رشد أن ماهية المحرك الأول أي الإله وماهية عقول الأفلاك هي أنها فكر تتجلى فيه الوحدة العقلية الوجودية.

والموجودات العقلية تتجلى فيها الوحدة أو كمال الوجود. وكل العقول تعقل ذاتها ولكن في معرفتها بذاتها صلتها بالعلة الأولى.

ومن غير شك ان ابن رشد امتلك جرأة شديدة، وتمتع بقدر كبير من قوة الشخصية، جعلته يجاهر بآرائه الفلسفية التي خالفت الفلاسفة الإسلاميين، وعلماء الكلام، والفقهاء سواء في الشرق أو في الغرب، رغم أنه محسوب بين الفقهاء فقيها ناقدا جامعا، وله مؤلفاته الفقهية الموقرة، ككتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» غير أن الفقهاء تسببوا في تعرضه لمحنة شديدة، حينما تتمتع بالقرب والحظوة من أبي يوسف المنصور، لكن الفقهاء استغلوا وصول هذا الأمير إلى الأندلس لحرب الفونسو ملك الأسبان في سنة 591هـ فلما وصل دسوا عليه عنده، ودبروا له المكائد، ورموه بكل شنيع من القول، فأطاعهم الأمير وأمر باعتقال ابن رشد ونفاه إلى قرية كانت لليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورا إلى المسلمين كافة ينهاهم فيه عن قراءة كتب الفلسفة أو التفكير في الاهتمام بها، وهدد من يخالف أمره بالعقوبة.

واختلف المؤرخون في تحديد سبب هذه المحنة التي نزلت بابن رشد في أواخر حياته العلمية والسياسية، فقد علل بعضهم أسباب غضب الأمير عليه وأسره ثم نفيه وإحراق كتبه، إلى تبسطه مع خليفة المسلمين في الحديث، وعزا بعضهم الآخر السبب إلى ميل ابن رشد إلى حاكم قرطبة وكان أخا للمنصور أبي يوسف، بينما أرجع البعض منهم السبب إلى أن أعداءه ممن حسدوه لمكانته ورفعته في بلاط الخليفة دسوا عليه بعض العبارات التي تشهد بإلحاده، فقيل إنه أنكر بعض ما ورد من القصص عن الأمم التي خلت وجاء ذكرها في القرآن الكريم. والمرجح أن السبب الأساسي في نكبته تلك هو موقف الفقهاء منه، وعملهم على إبعاده وتنحيته من طريق البلاط. طمعا في استعادة المكانة التي كانوا عليها أيام حكم المرابطين. ومما يزيد في تراجع هذا السبب ان المنصور عاد فاستدعاه إلى مراكش.، فلما وفد عليه عفا عنه وأحسن إليه، ولو كان السبب كما ذكر البعض من إلحاد أو كفر، أو إنكار لقصص له صلة بالقرآن، لما غفا عنه، لأن العفو عن مثله يقدح في دين الأمير ذاته، وهذا يستحيل أن يعرض نفسه له.. وقد ترك ابن رشد انقساما في رأي المسلمين فيه، فإذا كان هناك من لايزال يرى فيه الإلحاد ونقص الإسلام، فإن هناك من يرد اعتباره وينسب إليه الإخلاص للإسلام وتوقيره، كالدكتور محمد السيد الجليند استاذ الفلسفة بكلية دار العلوم، إذ يقول « لقد عرفت فلسفة ابن رشد في أوروبا المسيحية اليهودية قبل ان تعرف عند المشرق العربي، وحين حاول العرب حاليا التعرف على فلسفة ابن رشد كانوا متأثرين بالرشدية الحديثة التي تبناها الفيلسوف «رنيان الفرنسي» حيث أظهر ابن رشد ملحدا رافضا للأديان، متهكما ساخرا منا لدين وحاولوا أن يجعلوه رائدا للتنوير بهذا المعنى الإلحادي الرافض للدين.

وهذا خطأ كبير يدل على جهلهم بتراث ابن رشد، وانتصاره للمنهج القرآني البرهاني، في مواجهة المنهج الجدلي الذي أخذ به المتكلمون فلقد أخطأ الرشديون اللاتين قديما حين فهموا ان ابن رشد حين هاجم المتكلمين فإنه بذلك قد هاجم الدين، وأنه حين رفض منهج المتكلمين قد رفض الدين. لا، ان ابن رشد هاجم المتكلمين ورفض منهجهم انتصاراً للدين ومنهجة البرهاني، وبين أن خطأ المتكلمين لا ينسحب على الدين ولا على المنهج القرآني. وابن رشد في مؤلفاته ينتصر للبرهان في مواجهة الجدل والسفسطة، وينتصر لمنهج القرآن في مواجهة الجدل بالباطل، فكيف يقال: إنه رفض الجدل وسخر منه»؟؟ «موسوعة أعلام الإسلام».

وكيف نقول بإلحاده وكفره لأنه أبدى اعتراضه على علم الكلام أو مناهج علم الكلام التي اعتمدت على التلقين من جهة، ومن جهة أخرى تعتمد على الطريقة القديمة السائرة على نظام المتون والشروح والحواش على الشروح والشروح على الشروح وبين كل هذه الهوامش يضيع العلم ذاته، أي أساس الموضوع، وهذه الطريقة أثبتت عقمها العلمي والعجز الفكري وكل طالب للوعي والمعرفة الحقيقية لابد وأن ينتزع نفسه من هذه الدوامة.

وهذا ما فعله ابن رشد، إذ دعا إلى التحرر من القيود المتوارثة والقوالب المرعية لدى الفقهاء وعلماء الكلام، واستحداث طريق آخر يدعو إلى ما دعا إليه القرآن من البرهنة على الفكرة من وحي المنطق العقلي، وليس صحيحا ان ابن رشد كان مجرد امعة ومقلداً لأستاذة أرسطو في كل شيء.

Email