«الدبلوماسية واجهة ومواجهة».. تجربة واقعية

«الدبلوماسية واجهة ومواجهة».. تجربة واقعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستعيد عصمت الملحوق، زوجة الدبلوماسي السعودي عبد الله الملحوق تجربة الخوف والموت الفريدة التي عايشتها قبل سنوات، وتروي في كتاب أصدرته مؤخرا، تفاصيل حية عن الهجوم الذي نفذته مجموعة مسلحة تابعة لمنظمة »أيلول الأسود« في مارس 1973 والذي تمثل باقتحام مقر السفارة السعودية في الخرطوم و منزل زوجها السفير السعودي المعتمد لدى السودان آنذاك.

والملاصق لمبنى السفارة، وذلك أثناء الحفل الوداعي الذي كان يقيمه للقائم بالأعمال الأميركي في حضور سفراء ودبلوماسيين عرب وأجانب احتجزتهم المجموعة المسلحة كرهائن في منزل الملحوق لتفرج عن بعضهم لاحقا وتبقي على آخرين قيد الاعتقال تمهيدا لتصفيتهم الجسدية تحت وطأة التهديد المستمر بالإعدام.

تسرد عصمت الحجارالملحوق اللبنانية الأصل تجربتها القاسية لـ »البيان« من اللحظة التي ارتبطت فيها بدبلوماسي سعودي كان يشغل منصب السفير السعودي في لبنان قبيل الحرب، وبحكم عمله المتنقل اضطرت الملحوق إلى العيش مع زوجها في السودان بعد تعيينه سفيرا لدى الخرطوم عام 1973، في هذا البلد تبدلت حياة عصمت إلى الأسوأ.

كما تقول، »على الرغم من طيبة أهل السودان وكرمهم، وكان أول الغيث مرض ابني محمد الذي انتظرت ولادته طويلا بعد بناتي الثلاث وذلك نتيجة الظروف المناخية القاسية في الخرطوم التي ساهمت في تدهور صحته بعد تلقيحه وارتفاع حرارته بشكل حاد و تعرضه لاحقا لخلل دماغي دفع ثمنه طيلة حياته.

وكانت هذه أول محطة مأساوية خبرتها في السودان ليأتي بعدها الانقلاب السوداني على الرئيس إسماعيل الأزهري بقيادة الرئيس جعفر النميري الذي انتهى بإعدام عشرات الضباط الشيوعيين وكان أمرا مؤلما للغاية حينها.

ثم جات حادثة السفارة السعودية خلال التكريم الذي أقامه زوجي، بصفته سفيرا في الخرطوم، للقائم بالأعمال الأميركي الذي أنهى مهماته ليخلفه أول سفير أميركي أثناءها بعد انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والخرطوم في أعقاب هزيمة العام 1967«.

وتتابع عصمت الملحوق رواية الحادثة قائلة: »كانت باحة المنزل الخارجية تغص بسيارات الدبلوماسيين والحراس الأمنيين المرافقين، وفي الداخل كان الجميع منشغلا بالأحاديث السياسية والتعارف.

كان زوجي قد أنهى لتوه إلقاء كلمة بروتوكولية وأنا برفقة بناتي الثلاث في الطابق العلوي فيما كان ابني محمد يلهو مع الخادمة في الحديقة، فجأة سمعنا دوي رصاص كثيف وانفجارات وتعالى صراخ مجنون من كل جهة وسادت الفوضى وراح السفراء يدخلون ويخرجون من غرفة إلى أخرى محاولين الهرب أو الاختباء«.

بناتي بدأن بالبكاء وصرت أنا كالمجنونة من شدة قلقي على ولدي محمد، وتملكني شعور بسيادة فكرة الموت وبأن عواقب الهجوم الذي ظننته بدافع السرقة ستكون خطيرة، شاهدت من شرفتي في الأعلى مرافقي الدبلوماسيين مستسلمين يرفعون أيديهم إلى الأعلى محاصرين بالرشاشات التي يحملها مسلحون ملثمون، فيما انتشر الدبلوماسيون بين حمام الضيوف وخلف المقاعد والأعمدة.

ثم دخل زوجي بعد دقائق إلى الغرفة التي كنت فيها يرافقه القائم بالأعمال الأردني عدلي الناصر أثناء محاولتي الاتصال بالشرطة فمنعني وطلب مني أخذ الأولاد إلى الغرفة المجاورة، بعدها هدأت النيران وأجبر المسلحون الدبلوماسيين على الخروج من مخابئهم، وراح أحدهم يطرق باب غرفتنا لحثنا على تسليم أنفسنا وأنا أصرخ رافضة بحجة عدم وجود غطاء على رأسي.

فما كان من القائم بالأعمال اللبناني إلا أن توجه إلي متوسلا أن أفتح الباب قائلا لقد جلبت غطاء رأسك يا أم محمد، فتحت وأنا أقف في المقدمة لأنني اعتبرت أن وجود امرأة سيمنع المسلحين من إطلاق النار، وقفت بمواجهة شاب في مقتبل العمر طلب مني بلغة الأمر أن أخرج إلى غرفة أخرى مع بناتي.

وأمر زوجي والقائم بالأعمال الأردني أن يلتحقا بالسفراء في الخارج، ثم أمرني قائد المجموعة بمغادرة المنزل مع أطفالي لكني رفضت التخلي عن زوجي في هذا الظرف وطلبت منهم السماح لي بالبقاء وترك أطفالي بحالهم بعد أن استشعرت رغبة زوجي بوجودي إلى جانبه فوافقوا وحملوني مسؤولية بقائي وتعريض نفسي للخطر.

بعد أن هدأت عاصفة الاقتحام بدأ المسلحون فرز السفراء والدبلوماسيين كل وفق موقف بلاده من القضية الفلسطينية، فأطلقوا سراح سفراء دول الاتحاد السوفييتي واليابان ورومانيا وإسبانيا وباكستان والصومال والسفراء العرب ما عدا عبد الله الملحوق السعودي، كما أبقوا على كل من السفير الأميركي الجديد جورج كورتس مور والقائم بالأعمال المحتفى به والقائمين بالأعمال البلجيكي والأردني.

وتروي عصمت أنها دعت بناتها الثلاث وطلبت منهن الانتباه لشقيقهن المريض، وتتابع: كانت تلك اللحظات هي الأصعب علي وقفت حينها أمام الأسئلة الصعبة :هل كان علي ترك بناتي؟ هل فعلا لا يزال ابني محمد على قيد الحياة؟ هل تناول دواءه؟ هل سننجو من مصير أسود محتم؟...

وكنت في الوقت نفسه قلقة جدا على الرهائن لا سيما القائم بالأعمال البلجيكي الذي أصيب برصاصة في رجله وراح يصرخ من شدة ألمه متوسلا المساعدة من زوجي، فيما بدا الدبلوماسيان الأميركيان منهكين وكان القائم بالأعمال الأردني ينزف من أنفه لشدة توتره، بقينا هكذا مدة ساعة حتى رن جرس الهاتف فطلبنا من المسلحين السماح لنا بالرد وكان المتصل أحد اصدقاء زوجي الذي طمأننا على محمد والبنات وأكد لنا أن جميعهم بخير وهم في منزل صديق لنا.

هدأت قليلا وبدأت أفكر بأهداف الخاطفين، وما هي إلا دقائق حتى ظهرت مقاصدهم وكان لديهم لائحة مطالب طويلة تلاها قائد المجموعة عبر مكبرات الصوت على رجال الأمن والشرطة السودانية الذين احتشدوا خارج أسوار السفارة.

وتضمنت اللائحة تعريفا بالمجموعة المهاجمة التي تنتمي إلى منظمة »أيلول الأسود« التي نشأت عقب أحداث الأردن بين الجيش النظامي والفلسطينيين في أيلول عام 1970، واشترط المسلحون لإطلاق سراحنا نحن الخمسة الإفراج فورا عن »أبو داوود« ورفاقه الستة عشر والإفراج عن المعتقلين والمناضلين الفلسطينيين في سجون الأردن، والإفراج عن بشارة سرحان المسجون في الولايات المتحدة وعن مجموعة بادر ماينهوف المعتقلة في السجون الألمانية.

سلسلة المطالب هذه دفعت الرهائن إلى اليأس والتشاؤم وراحوا يعدون أنفسهم للأسوأ، في هذا الوقت كان عبد الله الملحوق يتوسل للخاطفين السماح بحضور طبيب لمعالجة القائم بالأعمال البلجيكي فوافقوا بعد شروط محددة، وحضر الطبيب الذي جرى تفتيشه بدقة وعمل على سحب الرصاصة من قدم الدبلوماسي البلجيكي وأعطاه مسكنا وغادر،.

مما عزز أمل البلجيكي بالخروج من هذه المحنة معتبرا أنهم لو أرادوا تصفيته لما سمحوا للطبيب بمعالجته، أما الآخرون فكانوا متعبين ومنهكين يترقبون بيأس موعد الإعدام الذي حدده الخاطفون للواء محمد باقر الذي تولى عملية التفاوض مع المسلحين.

وتتذكر عصمت الملحوق أن الاحتجاز استمر ثلاثة أيام بلياليها كان المسلحون يلاحقوننا خلالها داخل خطانا داخل المنزل، وفي اليوم الثاني طلبت منهم السماح لي بالدخول إلى المطبخ لإعداد الشاي والقهوة وبعض السندويشات فوافقوا.

وعندما بدأت بإعداد الطعام خطر لي أنني أحتفظ بالثلاجة بدجاج غير مطبوخ فأخرجته ووضعته في طنجرة الضغط وما هي إلا دقائق حتى تصاعدت صفارة الطنجرة فلم أعرف كيف تقافز المسلحون وطوقوا المطبخ ظنا منهم أنني أعد شيئا متفجرا، ثم قدمت لهم السندويشات والقهوة فرفضوا تذوقها قبلنا خوفا من محتواها.

المفاوضات الجارية في الخارج كانت تسير بوتيرة بطيئة، تقول الملحوق وتتابع: فالمساعي كلها وصلت إلى طريق مسدود بعد أن تعطلت الاتصالات الهاتفية بسبب عاصفة رملية ضربت السودان واستمرت يومين متتاليين، الأردن بدوره رفض على لسان الملك حسين الرضوخ لمطالب الخاطفين، وبلغنا من وسائل الإعلام أن طائرة أميركية توجهت من القاهرة إلى الخرطوم من دون أية تفاصيل أخرى فشك المسلحون بأمرها واعتبروها قادمة للقيام بعملية عسكرية ضدهم، وهكذا بدأوا بتنفيذ تهديداتهم فساقوا الرهينيتن الأميركيتين والبلجيكي نحو قبو أسفل المنزل.

توسلناهم أنا وزوجي أن يعطوهم فرصة أخرى ويؤجلوا إعدامهم فرفضوا، وقبيل نزولهم توجه نحونا السفير الأميركي وشكرنا على عنايتنا به ثم تبعه القائم بالأعمال الأميركي وشكرنا بدوره على حفل الوداع الذي كنا نقيمه له ثم طلب الإثنان ورقة وقلماً ودون كل منهما كلمة وداعية لزوجتيهما، وكتب أحدهما »أحبك على الدوام.. اعتني بالأطفال«.

وأعرب الآخر عن إخلاصه وحبه لزوجته، ثم توجهوا جميعهم إلى قدرهم المحتوم وسمعنا بعد دقائق رشقا ناريا كثيفا وصراخا مكتوما فأدركت أن الأمر قد قضي.

الساعات التي أعقبت تصفية الرهائن كانت الأصعب على الملحوق، فعلى صعيد المفاوضات لم يحصل أي تطور والحكومات المعنية اعتبرت أن تصفية الرهائن الأجانب أفقدت المطالب جدواها وبالتالي لم يعد هناك فائدة من تلبيتها، ومع تفاقم الأزمة واقتراب ساعة الصفر كتبت السيدة الملحوق رسالة إلى الملك (الراحل) فيصل ائتمنته فيها على أطفالها وطلبت منه أن يبقي على رعايته لمحمد حتى آخر العمر وتمسكت بالقرآن طيلة اليومين الباقيين راجية الله أن ينتشلهم من هذه المحنة.

بعد ثلاثة أيام قرر الخاطفون تسليم أنفسهم شرط الحفاظ على حياتهم، واعتبروا أن أهداف العملية تحققت فقتلوا من أرادوا لممارسة الضغط على الحكومات المعنية وسلطوا الضوء على قضيتهم، كانت ولادة جديدة للرهائن الثلاث المتبقين فلم يصدقوا في البداية عندما أبلغ المسلحون عبر مكبر الصوت اللواء باقر بقرارهم محذرين من تفجير السفارة والمنزل إذا شعروا بوجود أية خدعة قد تعرض حياتهم للخطر.

طلبوا منا عدم التحرك وخرجوا رافعين أسلحتهم وشارات النصر وسلموا أنفسهم للقوى الأمنية السودانية التي نقلتهم في سيارات عسكرية، فدخلت المنزل على الأثر فرقة هندسية تابعة للجيش السوداني وأجرت مسحا دقيقا لمحيط المنزل تحسبا لوجود مواد متفجرة، وتبعتها سيارات الإسعاف لنقل جثث الضحايا.

وتختم الملحوق قائلة: أحسست بالمرارة عندما رأيت الجثث منتفخة من شدة الحر ورائحتها تغطي المكان، هذه الصور ما زالت في عيني حتى اليوم، بكيت بشدة وحرقة وترحمت على أرواحهم وشعرت بحسرة لم تفارقني طيلة السنوات الماضية على أشخاص كانوا ضيوفي ولم أتمكن من حمايتهم.

وبعد أيام قليلة غادرت العائلة الدبلوماسية السودان نهائيا، ومكث أفرادها في الرياض حيث كرمت السيدة عصمت الحجار الملحوق أفضل تكريم وكتبت الصحافة العربية عن موقفها وتضحيتها وعدم تخليها عن زوجها في لحظات حرجة وخطرة.

وقد احتفظت الملحوق بتفاصيل التجربة في ذاكرتها طيلة اثنين وثلاثين عاما لتعيد إحياءها من جديد في كتاب فريد يحمل عنوان »الدبلوماسية واجهة ومواجهة« سردت فيه الوقائع المرة التي عاشتها والمحطات الصعبة التي خبرتها، وحاز الكتاب على إعجاب وتقدير أهم الشخصيات السياسية والكتاب والمثقفين وكبار الإعلاميين.

بيروت ـــ ثناء عطوي:

Email