المصنوعات الجلدية

مهارات الشرق تحاكي تاريخ البشر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجلس «محمد كامل سراقبي» الحرفي المختص بالحقائب الجلدية واللوحات الحروفية المكتوبة على الجلد الطبيعي، أمام مشغله ينهي خياطة حقيبة كان قد بدأ بصناعتها منذ بضعة أيام.. مؤكداً حرصه على الخياطة اليدوية، دليلاً على عراقة هذه المهنة التي ورثها عن جده الذي افتتح منذ أوائل القرن الماضي، محلاً في «باب السريجة» بمنطقة دمشق القديمة.

ومع أن هذه المهنة قد طرأ عليها الكثير من التعديلات والتحديثات من ناحية المواد والأدوات المستخدمة فيها، إلا أن الطريقة التقليدية ما زالت السائدة حتى الآن، بدءاً من طريقة تحضير الجلد الطبيعي ودباغته، مروراً بصبغه وتحديد سماكته، ودرجة قساوته وليونته.. حيث يصف «كامل» هذه المراحل قائلاً:

ـ يعتقد الكثير من الناس أن لون الجلد الطبيعي هو البني الفاتح، لكن الحقيقة أن اللون الأبيض المائل إلى الرمادي هو اللون الأساسي للجلد، بعد سلخه ودباغته عبر تمليحه وإضافة مادة الزرنيخ إليه لقتل البكتريا المساهمة في تعفنه وتحلله.. بعد ذلك يلمع بطبقة عازلة من الورنيش.

وفي الماضي كانت تستخدم «بودرة» مستخرجة من أكاسيد حجرية ونباتات معينة، تم الاستغناء عنها اليوم بأصباغ كيماوية معدة لصبغ الجلد بعد دباغته.

وعن طريقة تحديد سماكة الجلد الطبيعي للاستخدامات المتنوعة، يؤكد الحرفي الدمشقي أنه للحصول على «الشامواه» يعمد الدبَاغ إلى حلق الشعر دون الوصول إلى منبته تاركاً 1/4 ملم كحد أقصى، مشيراً إلى أنه يمكن التحكم بسماكة الجلد المطلوب من خلال تقشيره من الطبقة السفلى.

كما يمكن الحصول على الليونة والقساوة من خلال كمية الزيت المضاف إلى الجلد.. فإذا كان الغرض هو الحصول على جلد قاس أضيفت كمية من الماء ومادة «الغراء» النباتية. ونسأل «كامل سراقبي» عن الأنواع المستخدمة، فيؤكد أن جلد الجمل يعتبر من أكثر أنواع الجلود سماكة، يليه جلد البقر، فالماعز، في حين يعتبر جلد الخروف من أرق الأنواع.

* تصاميم ونقوش

وبعد أن شرح لنا طريقة تحضير الجلد الطبيعي، كان لابد أن نرى ما يصنعه، حيث قدم لنا مجموعة من التصاميم والزخارف المستمدة من أصول شرقية نباتية، مؤكداً أن السيَاح يرغبون بهذه الأنواع من الزخارف، والتي تضفي على القطعة الجلدية رونقاً خاصاً، وقد لفت نظرنا كثرة الحقائب الجلدية المتعددة الأشكال والأحجام، وقد اصطفت وازدانت بالعديد من النقوش، التي أكد الحرفي الدمشقي أنه يفضل تقديم نقوشه الخاصة.

مشيراً في الوقت نفسه إلى حقيبة سفر جلدية، مصنوعة بالكامل باليد من خلال الإبرة الكبيرة «المسلة» والخيوط النباتية والكرتون المقوى للحواف والجوانب، معترفاً أن جيل الشباب من حرفيَي هذه المهنة لا يجيدون صناعة هذه الحقيبة لما تحتاجه من أناة وصبر وخبرة طويلة.

ويلتقط «كامل» قطعة جلدية هندسية الشكل قائلاً انها تعود إلى العهد العثماني وتسمى «البوفاية» يمكن استخدامها كأريكة أو مسند مؤلفة من ثماني قطع من جلد الجمل يمكن أن تزين بقطعة من جلد الحصان، حيث يستغرق صناعة «البوفاية» ثلاثة أيام من العمل لقص النموذج وتجميعه ولصقه بالغراء النباتي، وبعد ذلك شبكه بحبال من الجلد الطبيعي أيضاً.

* أسرار العمل اليدوي

من جهة أخرى لا يخفي الحرفي الدمشقي ولعه الخاص باللوحات الحروفية التي يعمد إلى كتابتها بطرق مختلفة، وعلى أنواع مختلفة من الجلود، بعد أن خطرت بباله هذه الفكرة أثناء إقامته في المملكة العربية السعودية، حيث أقام في عام 1998 معرضاً في العاصمة «الرياض»، مستخدماً تقنية جديدة تتلخص بمزج مادة «السيليكون» مع البنزين حتى تصبح مادة لينة يمكن التحكم بها، ومن ثم تنَزل على قطعة الجلد المخصصة، بعد حياكتها وتشبيكها وتلبيسها بورق الذهب أو الفضة.

يقول كامل سراقبي:

ـ ما زلت أحتفظ بأول لوحة نفذتها على جلد «الشامواه» وهي عبارة عن «مشكاة» لخطاط عربي معروف.. ولا أعتقد أنني سأبيعها في يوم من الأيام.. ربما لو كنت أمتلك موهبة الخط العربي لأبدعت الكثير من اللوحات الفنية الجلدية.

وعندما سألناه، لم لا يتعلم أصول الخط العربي أجاب بحسرة:

ـ حاولت كثيراً.. لكنني لا أستطيع الكتابة إلا باليد اليسرى..؟!

ومع أن لوحاته مستوحاة في غالبيتها من آيات قرآنية وأقوال مأثورة، إلا أن «كامل» يؤكد أن لكل لوحة خصوصيتها وتفردها ولا يمكن لأي حرفي أو فنان أن يقدم لوحة تشبه الأخرى، لا من حيث الشكل ولا الأسلوب ولا طريقة التنفيذ.. وهذا سر من أسرار العمل اليدوي.

ويضيف قائلاً:

ـ في مرات كثيرة أتضايق من أشخاص لا يقدرون عملي، على اعتبار أنه مجرد كتابة على قطعة جلد لا أكثر، مع أن هذه الصناعة قديمة للغاية، والأخوة في المغرب العربي ومصر وبلدان عربية أخرى يقدرون قيمتها وأهميتها.

ـ وماذا تفعل إن قابلت أحد هؤلاء الأشخاص الذين لا يقدرون عملك؟

ـ على الفور، أؤكد له أن هذه اللوحات ليست للبيع، ولو دفع لي ثمنها ذهباً وقد تعرضت لمثل هذه الحالات وكان جوابي ما ذكرت.

وعن طموحاته و أحلامه، ينهي «كامل سراقبي» حديثه بالقول:

ـ أحلم أن أقدم في يوم من الأيام تصاميم أثاث منزل كامل من الجلد.. فيه الكثير من الأصالة والحداثة التي تعبر عن فرادة هذه الحرفة الفنية. أما على الصعيد العام فأتمنى من القائمين على شؤون الفن والتراث أن يتيحوا الفرص للمتابعين والمهتمين، مشاهدة روائع المخطوطات العربية القابعة في المتاحف العالمية.. لأن لدينا تراثاً عريقاً وفناً ننفرد به لا بد من المحافظة على استمراريته، وذلك بتنمية الحس الجمالي لدى الأطفال، وغرس بذور المحبة تجاه هذه الفنون.

أمنية أسر لنا بها وهو يكاد ينتهي من حقيبته الجلدية، يقف لنتأمل معاً ما صنعت يداه.. يغرق كل واحد منا بخيالاته فيما الفن الأصيل قابع في الزوايا، شاهد على الكثير من الألق الخالد على مر الأيام.

أنس الأموي

Email