في روايته الدون الهادئ تحدث شولوخوف عن حياة القوزاقي ميلخوف العائد لقريته من آخر الحروب مع تركيا بعد أن أحضر أسيرة تركية اتخذها زوجة له. رتب حياته الخاصة بسرعة بعد عودته، بنى لنفسه كوخا إلى جانب نهر الدون وصنع سورا لفناء الماشية بعد أن أخذ نصيبه من الأرض وعاش حياة العزلة مع زوجته التي لم تعجب أقاربه والذين سرعان ما اتهموها بممارسة السحر.

ولما تصادف موت العديد من الأبقار في تلك السنة عزى البعض ذلك إلى ما كانت تقوم به زوجة ميلخوف من أعمال السحر، وسرعان ما تطور الأمر إلى مداهمة بيت ميلخوف ونتج عن ذلك جرح زوجته التي كانت حاملا في أيامها الأخيرة، وسرعان ما فارقت الحياة مساء ذلك اليوم واستطاع ميلخوف إنقاذ الجنين الذي جاء للدنيا قبل أوانه، أشفقت عليه جدته فربته.

وبعد شهر تأكد لهم أن الطفل يمكن أن يعيش فعمدوه في الكنيسة وأطلقوا عليه اسم جدّه بانتاليمون. كبر بانتاليمون الذي يشبه أمه هيأة ووجهاً ويجري في عروقه الدم التركي والقوزاقي، وأسس أسرته الخاصة به وكبر أبناؤه، بيوترا وغريغور واختهما الصغيرة دونيا. وراح غريغور يصاحب أباه في صيد السمك.

تعرف غريغور على اكسينا ذات العينين الزرقاوين ابنة السبعة عشر ربيعا والتي جاءت من قرية دوبروفكا التي تبعد خمسة أميال عن قريته لتتزوج من شيبان. وكانت اكسينا قد تعرضت للاغتصاب من قِبَلِ أبيها قبل سنة، ولكن أباها الفاقد الوعى إثر الشراب المفرط تعرض للضرب المبرّح من قبل زوجته وابنه على فعلته الشائنة وفارق الحياة من ليلتها.

وبعد التحاق زوجها شيبان بالخدمة العسكرية أقامت اكسينا علاقة حب فاضحة مع غريغور، وأمسك القرويون أنفاسهم في ترقب وقح، فربما عاد شيبان وأنهى هذه الصلة!

ولذلك ثارت ثائرة الأب بانتاليمون، وبعد ضربه لابنه غريغور قرر تزويجه من نتاليا ابنة كورشونوف، كما ذهب ليتوعد اكسينا حيث قابلته برد عنيف، وأصبحت هذه العلاقة حديث الناس في القرية حتى وصل صداها إلى الزوج وهو يؤدي الخدمة العسكرية، فعاد يحمل غيظه معه!.. ضرب زوجته وتقاتل مع غريغوروشقيقه بيوترا : وناضل الاخوان ميلخوف ببسالة، وانقضّا على شيبان كما تنقض الغربان على جيفة..

وافق أهل نتاليا على الخطوبة بعد تردد من الأب كورشونوف، فهم مشهورون في القرية بأنهم أغنى أسرة وكان يحدّث زوجته ويقول : كم يحط من قدري أن أُعطي إبنتي للاتراك؟! ولكن كورشونوف غير رأيه بعد أن سمع ابنته نتاليا تقول: اذا كان غريغور يحبني فلن أتزوج أحداً سواه. أما غريغور فقد فرح بعروسه بعد أن تأملها كما يتأمل تاجر الخيل فرسا يريد شراءها.. وتحدد موعد الزواج في أغسطس.

لم يستطع غريغور أن يألف جو الزواج ولم يشعر بعاطفة قوية نحو نتاليا أو نتاشكا كما ينادونها فقد أورثتها أمها دمها البارد البليد وصارحها غريغور قائلا : أنتِ غير قادرة على أن تبعثي الدفء ولا البرد في رجل، أنا لا أحبك يا نتاشكا.. لقد مضى على زواجنا كل تلك الأيام وما زال قلبي كما كان فارغا كالسفح.

وظل غريغور يحن إلى أيامه مع أكسينا التي بدأت تتظاهر أنها تألف زوجها المتودد لها في الأيام الأخيرة برود زوجة غريغور وسخونة عاطفة اكسينا دفعت غريغور واكسينا إلى الهرب بعيدا عن الدون الهادئ، ثم ليستقرا في بيت الجنرال المتقاعد ليستنسكي وابنه الضابط ايوجين واللذين يعيشان بمفردهما بعد مقتل زوجة الجنرال في محاولة لاغتياله هو راحت زوجته ضحية لها.

عمل غريغور حوذيا يساعده رجل عجوز يدعى ساشكا في رعاية الخيل التي يحبها الجنرال، بينما عملت اكسينا طباخة. التقى شيبان مع غريمه غريغور بحضور الجنرال وبعد تبادل نظرات الحقد قال شيبان مخاطبا غريغور: انك تبدو في حالة طيبة يا صاح..

لقد استوليت على زوجة رجل آخر وها أنت تقضي وطرك منها، لا تخف فلن أضربك، انتبه لكلماتي جيدا، لقد لطختني بالعار، رميت حياتي بالعقم كأنني خنزير.. لقد جلبت لي عارا يا غريغور، لن انازلك اليوم، سأنال منك عاجلا أم آجلا وأقتلك! حملت اكسينا واخفت حملها حتى الشهر الخامس، وعندما أخبرت غريغور بذلك سألها: ـ أهو طفل شيبان؟ أجابت: كلا انه طفلك.

كان غريغور يحن إلى قريته وإلى الدون الهادئ لذلك كان على اتصال بين الحين والآخر مع شقيقه بيوترا ويسأل عن أحوال أبيه وأمه وتمر الأيام سريعة وتلد اكسينا فتاة جميلة، ويحين موعد التحاق غريغور بالخدمة العسكرية التي تستمر أربعة أعوام، وعندها تبكي اكسينا لفراقه كل هذه المدة، يحاول التخفيف عنها قائلا: قديما كانت الخدمة العسكرية تستمر خمسة وعشرين عاما!

ويحضر الأب بانتاليمون لوداع ابنه غريغور قبل الالتحاق بالخدمة العسكرية، بل ويوصله إلى المعسكر مع حصانه ليلتحلق بفرق الخيالة ويعرف غريغور أن زوجته نتاليا مرضت مرضا شديدا بعد رحيله وهي تعيش حاليا في بيت أبيها ولكنها تفكر بالعودة إلى بيتهم حتى في ظل رحيل زوجها وأمام هذه الأخبار لم يحر غريغور جوابا.

وضع غريغور في وحدة عسكرية بالقرب من الحدود النمساوية المتوترة، في الوقت الذي وصلته الاخبار بعودة زوجته نتاليا للعيش مع اسرته منذ شهر مارس سنة 1914، أملا في أن تكون هذه الخطوة التي شجعها وسعى إليها والده بنتاليمون كافية لكي تجعل من غريغور يعيد النظر بعلاقته مع زوجته وهي في انتظارها الطويل له وتبودلت الرسائل التي كانت تحمل توترا كبيرا من قبل غريغور يشبه ذلك التوتر الذي يسبق الحرب الموشكة على الحدود.

وأكد غريغور صعوبة إصلاح ما فسد بطريقته عندما كتب يقول: حينما تنشب الحرب قد لا أبقى حيا.. ولا يمكن تسوية شيء قبل ذلك، وتتوالى رسائل غريغور دون أن يتحدث فيها عن زوجه نتاليا ويكتفي بنتاليمون الأب في التمعن بالأفكار التي تختفي بين السطور بعد أن يطلب من ابنته دونيا قراءة كل رسالة ترد من غريغور عدة مرات.

وتنشب الحرب ويقتل كثيرون خلال الكر والفر بين الفرقاء، وتحمل الأنباء خبر مصرع غريغور ويحزن لذلك كثيرون، إلا أنه تبين فيما بعد أنه أصيب بجروح بليغة شُفي منها فيما بعد وكُرم ومُنح رتبة أعلى وعاد للحرب من جديد، كما جرح أيوجين ابن الجنرال ليستنسكي بجروح طفيفة وقتل حصانه، وعندما كان أيوجين في دور النقاهة أقام علاقة حب مع اكسينا التي كانت قد فقدت طفلتها وبردت عاطفتها نحو غريغور.

وصلت هذه الأنباء إلى مسمع غريغور المنهمك في الحرب فزاد حماسه في القتال حتى رقي إلى رتبة ضابط في الوقت الذي ضيق البلاشفة على كتائب الدون حتى أنهكوها وهرب الكثير من رجال سرايا القوزاق وحتى غريغور ركب حصانه ذات ليلة وهرب إلى تتاراسك في بداية فصل الشتاء.

وشعر الجنرالات بالخطر الزاحف نحوهم من خلال تقدم الجيش الاحمر ببطء وثقة فاستنجدوا بالدول الاجنبية وهو الامر الذي اعتبره القوزاق خيانة لهم وللوطن بعد كل تلك التضحيات التي راحت هباءً...

كتب ميخائيل شولوخوف روايته »الدون الهادئ« التي تميزت من بين أعماله وترجمت إلى عدة لغات عالمية، كتبها في 14 سنة بدأها سنة 1926 وانتهى منها سنة 1940 بعدما نضجت في أعماقه ببطء.

وأصبحت أعمال شولوخوف هي الأكثر قراءة في الاتحاد السوفييتي السابق لاحتوائها الحس الواقعي الشفاف لتولستوي في تصوير شخصياته، وفوق ذلك الجدل المتعدد الجوانب ابّان الثورة، ولأنه اهتم بعمق في المصير الإنساني الذي تجلى في ظل التحولات الكبيرة في روسيا.

كما تميز شولوخوف بكتابة القصص القصيرة. كل هذا وذاك أهّله لنيل جائزة نوبل في الأدب سنة 1965، وهي الجائزة التي قال عنها جان بول سارتر: إنها تمييز مقصور على كتّاب الغرب ومتمردي الشرق!