الجبال صديقة الناس، فهي بصلابتها وارتفاع قاماتها الشاهقة، وتعرجات طرقها تشكل حماية طبيعية للساكنين في أفيائها، وهكذا حين توجهنا نحو منطقة المنيعي الجبلية كان يمكننا أن نتخيل كيف حصلت تلك القرية المحاطة بالجبال على اسمها القوي ولنا أن ندرك أنها منيعة لا تفتح أبوابها إلا لمحبيها، ولم يكن لغازٍ في الأزمنة الماضية أن يصل إليها، ففيها تتحد قوة الرجال مع قوة الجبال لتسد بوابات المدينة وتجعلها عصية على الطارقين.
وبالتأكيد كان حسن الحظ حليفنا حين أخذتنا الطرق الحديثة إلى المنطقة بسهولة لنجد أميرها وأهلها الطيبين قد عقدوا مجلسهم بانتظار القادمين من دبي ليحلوا ضيوفاً عليهم.
ومع ما في الجبلي من صلابة وقوة فقد أدهشتنا «خفة دم» شوابهم الذين أصرّوا على أنهم شباب المنطقة الباحثون عن «صبايا» للزواج، وقد كان لهذا الجو البهيج دور جميل في أن نتحدث عن أعمال هؤلاء الناس الذين عرفوا صعوبة الحياة ولم تغيرهم السنون.
وقد بدأ حديث أكثرهم مرحاً وهو الحاج محمد علي خليقي الذي تحدث عن العمل في الماضي قائلاً: كنا نزرع الغليون والذرة والحب ونستدين من تجار البحرين وعمان والحسا، ونرد دينهم في موسم الغليون الذي تستمر زراعته ستة أشهر حتى تأتي رياح الكوس، فنحن «نحش بالغربي ونحدر بالكوس».
وكنا نسقي باليازرة ونستخدم الثيران في ذلك، وكان النخيل قليلاً لكنه سد حاجة الناس وكل شخص يقدم لأهله وجيرانه من رطب نخلاته، وكنا نزرع البصل والفندال، ونأكل خبز الذرة الذي نعجنه مع قليل من طحين البر ليكون سهلاً في الخبز، وفي ذلك الزمان كان لدينا اكتفاء ذاتي، فعندنا الحلال والزراعة والعسل ومن خير الأرض كان الناس يوفرون ما يحتاجون هم وأهلهم.
* ركض وراء الأرزاق
يتحدث الحاج أحمد بن سعيد بن الأصم عن حياة الناس قائلاً: «كان الخير موجوداً في الأرض وفي الجبال وفي الحلال، لكن «البني آدم» مثل الجراد يأكل ولا يشبع، لذا تجد الناس تركض وراء أرزاقها وتطلب المزيد كل يوم، فما كان يكفينا ويزيد في الماضي صرنا نراه قليلاً اليوم.
وقد كان مهر الحرمة ثلاثة مكاييل ذرة حب، وأحياناً «مطية» ونشتري لها ملابس بسيطة وكندورة وثوباً ووقاية وبرقعاً، وأول لا يوجد ذهب و«ماشي خشل» فلا يشترط والد العروس شيئاً على المعرس، بل يخفف عنه، فالمرأة عون لزوجها وما أن تتزوج حتى تستيقظ عند الفجر تحلب وتروي وتجلب الحطب، والرجل يزرع ويكد ركاب «ويطرّش» إلى الباطنة يشتري العيش والقهوة والقاشع.
وحول رمضان في الماضي يقول ابن الأصم: كنا نحسب لرمضان بالشهور الهجرية، فبعد رجب يأتي «القصير» أي شهر شعبان وسميناه القصير لأنه ينتهي بسرعة، ثم يأتي رمضان.
ومن يرى الهلال «ينقع تفك» أي يطلع العيارات النارية وكان «التفك» في الأعراس والمناسبات، وفي حال الفزعة ووقت حدوث حادث، وعندئذ نضرب ثلاث إطلاقات، وفي الماضي كنا نتحضّر لرمضان قبل أيام.
حيث نذهب إلى دبي ونشتري العيش والقهوة، ويكون الفطور كامي أو يقط وسح وسمن وخبز ذر وأحياناً عيشاً ولحماً وثريداً وهريساً، وكان هناك مسجد واحد في المنطقة نصلّي فيه التراويح، أما صلاة العيد فتكون في الوادي، وكذلك صلاة الاستسقاء، فعندما تقل الأمطار نذهب إلى وادي المنيعي وكنا نجتمع ونصلي صلاة الاستسقاء ونذبح لوجه الله.
ويتحدث عن مواقع منطقة المنيعي وأسماء جبالها قائلاً «الجبال ميسماية» ومعروفة منها الوعب والضحيبر ووادي الطوى الذي سمي لوجود عدة طوى فيه، وأم الرم والينع وربيق وريحانه والحريمة وسكيكة والربعة والربيق الثانية وعلان سليمان، وغيرها من الأماكن التي كنا نعرف مواقعها وأسماءها .
* بيوت كالخيام
ويتحدث عبيد سالم عبد الله بن لوع عن المساكن القديمة قائلاً: كانت بيوتنا من السعف والدعون من جذوع النخل والسمر، ونعملها على شكل الخيام ونكون محميين من السيل، وفي القيظ نبني عرشاناً من الدعون ونسكن فيها أما الينز فيبنى من الجص .
حيث يصنع الجص بحرقه بالنار ويقوم بهذه العملية أشخاص متخصصون الحصى من وادي القور، ونحفظ فيه الذرة والدخن والبر والتمر، وكنت أزرع البصل في الضواحي، لكننا لا نبيع منه لأنه للأهل وللجيران، وتتوزع أعمالنا بين صناعة السخام من أشجار السمر والزراعة وجني العسل.
كان الحديث مع كبار السن يستعيد حلاوة الماضي وذكرياته وحكاياه، وقد ضم مجلس أمير المنطقة أبناء الجيل الماضي وكذلك الشباب الذين اكتفوا بالاستماع إلى أهلهم، بينما رفض أمير المنيعي والمناطق التابعة لها علي بن سعيد الدهماني التحدث قبل أن تقدم الضيافة العربية المعروفة، فدخلنا غرفة للطعام صفت بها مائدة عامرة بالرطب والذبائح والأكلات التراثية للمنطقة.
وبعدها عدنا إلى الحديث مع أمير المنطقة الذي تحدث عن المساكن في المنيعي قائلاً: بنيت الشعبيات عام 1974 بعد قيام اتحاد دولة الإمارات فقد زار المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم منطقة حتا وأمر ببناء جميع المناطق والقرى المحيطة بها ومنها وادي القور وملاح والحويلات والفشخة وأمر ببناء تسعين بيتاً في قرى المنيعي وسبعة مساجد، أما بناء مسجد ضحيبر، فتم تعميره على نفقة ديوان حكومة دبي.
* أصالة وماض عريق
حول ماضي المنطقة يقول: كانت المنيعي تمثل عاصمة الحجور في الماضي فكان الناس يأتون إليها في موسم الرطب ويقيظون فيها وكانت تمثل سوقاً في موسم الغليون، والمنيعي منطقة تتميز بالأصالة والماضي العريق فقد عرفت شعراء كباراً مثل المرحوم سالم بن سعيد الدهماني وكان أهلها مهتمين بطلب العلم فأجدادنا ذهبوا إلى عمان ليتعلموا القرآن.
وكان فيها عدد من المربعات والآثار القديمة منها مربعة المريبخ ومربعة البيام، والناس في الماضي كانوا يعيشون حياة بسيطة أدى دور الوالي في ذلك الوقت للإصلاح بين المتخاصمين وكفالة المحتاجين في الدين وتقسيم الميراث وهو دور اجتماعي بالدرجة الأولى يعتمد على احترام الناس له، وقبولهم بأحكامه.
ويتحدث الدهماني عن العرس في الماضي قائلاً: تقاليد العرس قديماً كانت متميزة بحميمية العلاقات بين الناس فالعرس يبدأ من يوم الأربعاء حيث يأتي أهل العريس إلى بيت العروس ويقوم والد العروس بتقديم العشاء وفطور الصباح لهم ويبقون في رزيف وفرح ويكون غداء يوم الخميس مسؤولية والد العريس وكذلك العشاء.
ويبيتون محتفلين أيضاً حتى صباح الجمعة حيث يأخذ العريس عروسه ويذهب إلى بيته، وبعد سبعة أيام تعود العروس إلى بيت أهلها وتقام الولائم وتبقى سبعة أيام ثم تعود إلى بيت زوجها وتبدأ حياتها الزوجية، وكانوا يرزفون ويركضون وكانوا ويقولون عند مجيء أهل العريس:
حي بشبان حلو ملتقاهم
يوم يونا طالبين الجميلة
ومن رزيفهم كذلك:
الهوى غالي يا لغالي
يبغي ناس يروفوا به
طاح في ايدين يهال
ما يعرفوا المايو به
وهكذا كان الناس يقيمون أفراحهم ويشارك بها الجميع ولا يعرفون قاعات الأعراس أو البذخ والمهور الغالية فأعراس أهل المنيعي تكون في المنطقة نفسها.
تركنا الحاضرين يتذاكرون أيام الأفراح الماضية لنخرج إلى المنطقة نشاهد تفاصيلها وامتدادات جبالها. وقد أشار أمير المنطقة إلى أن المنيعي تمثل إحدى مناطق إمارة رأس الخيمة النائية.
ولكن الفضل يعود إلى سمو الشيخ سعود بن صقر القاسمي ولي عهد ونائب حاكم رأس الخيمة الذي أقام الطريق بين الجبال التي تربط شوكة بالمنيعي وأوصل الطريق إلى النصلة، بعد أن زار المنطقة ومشى بين الجبال مسافة كيلومتر سيراً على الأقدام. ودعنا أهل المنيعي عائدين عبر الطرق الجبلية إلى المدن المكتظة بالعمل والضجيج والمشاغل المختلفة.
استطلاع : دلال جويد
تصوير: غلام كاركر


