دبي.. البدايات والتحولات

توسعة خور دبي .. قصة كفاح أرست قواعد النجاح

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945 حتى بدأت الشركات البترولية العاملة في منطقة الخليج عامة والإمارات خاصة في العودة لمزاولة أعمالها التي توقفت خلال سنوات الحرب.

وبات واضحاً أن عودة الشركات لممارسة أعمالها يعني زيادة في حجم التجارة في ميناء دبي. فالشركات البترولية تحتاج إلى معدات ضخمة وإقامة معسكرات عمل وطعام جيد لسد احتياجات العاملين فيها. وستكون أيضاً محتاجة إلى عمالة محلية وهذا يعني أن نسبة البطالة ستنخفض والقدرة الشرائية للأفراد سوف ترتفع. لم يكن في منطقة الإمارات آنذاك ميناء كبير قادر على استيعاب المتطلبات الجديدة من استيراد وتصدير. وقد انتبه لهذه القضية الشيخ سعيد آل مكتوم الذي أيقن بضرورة انتهاز الفرصة وتحويل ميناء دبي إلى ميناء كبير قادر على توفير مستلزمات المنطقة من بضائع. وهكذا ظهرت مرة أخرى مسألة توسعة خور دبي.

لهذا أصبح وجود ميناء جديد من أهم الضرورات التي يحتاجها المجتمع التجاري من ناحية والأوضاع الاقتصادية المستجدة من ناحية أخرى. خاصة وأن فشل إقامة هذا المشروع الحيوي في الماضي جاء نتيجة لقلة الميزانية ذلك لأن مشروعاً ضخماً كهذا يتطلب أموالاً ضخمة عجزت عن توفيرها حكومة دبي آنذاك نظراً لعدم وجود دخل ثابت ومنتظم.

كان دخل الحاكم في تلك الفترة يأتي، طبقاً للتقارير البريطانية، من الضرائب المفروضة على تجارة دبي ومن إيجار بعض المباني. وكان هذا الدخل يقدر بحوالي 3 ملايين روبية هندية ولكن المشروع يتطلب أكثر من ذلك.

لذا فقد اجتمع الوكيل البريطاني في المنطقة مع الشيخ وأعيان الإمارة وعرض عليهم تولي أمر تمويل المشروع. كما دعا البنك البريطاني وهو البنك الوحيد في دبي (تم افتتاحه في عام 1946) إلى تقديم قرض بالإضافة إلى قرض محتمل من السوق أو القطاع الخاص ومساهمة بعض الهيئات البريطانية.

* صعوبات

لكن الشركات الأجنبية العاملة في دبي والمستفيدة من توسعة الخور امتنعت عن الاستجابة لتمويل المشروع. فقد رفضت شركة كري مكنزي Gray Mackenzie المشاركة في تمويل المشروع رغم أن مكاتبها كانت تطل على الخور مباشرة. فلم يكن للشركة أي اقتناع بجدوى وفوائد الاستثمار في دبي.

لذا فقد تم إرسال رسائل إلى دول الخليج كقطر والبحرين والكويت بهدف حثها على المشاركة في تمويل هذا المشروع بمنحة مالية أو قرض. لكن دول الخليج هذه لم تكن في تلك الأيام تملك عوائد مالية كافية تمكنها من المساهمة في تمويل مشاريع اقتصادية خارج حدودها حيث إنها لم تكن قد بدأت بعد استثمار نفطها. لذا كان من الصعب إقناعها بالمساهمة في تمويل مشروع كبير كهذا.

ولكن منذ منتصف الخمسينات بدأت قطر تحصل على عوائد كافية من البترول وأصبحت مسألة فتح الموضوع مع حاكمها ممكنة. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت لتوفير الأموال اللازمة إلا أن المشروع توقف.

فقد بدا واضحاً أن قضية المساهمات الخارجية لم تعد قائمة بل لا يمكن الاعتماد عليها. لذا فقد أصبح الأمر في يد حكومة وتجار دبي الذين أصبحوا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العمل معاً لتوفير الأموال اللازمة للبدء في مشروع توسعة الخور وإما تناسي الأمر تماماً. وهنا ظهر أروع مثال على تضافر الجهود الفردية والحكومية .

حيث قرر رجال الأعمال في دبي المساهمة بمبلغ يقدر بحوالي 000, 500 روبية هندية على أن تتكفل حكومة دبي بالباقي. وهكذا تم فتح حساب باسم ميناء دبي في البنك البريطاني للشرق الأوسط. وما ان حل عام 1956 حتى كان المبلغ المخصص للمشروع والذي يقدر بحوالي 000 ,400 جنيه استرلينى قد تم توفيره.

فقد بلغت تبرعات التجار حوالي 000 ,350 جنيه استرليني ووفرت حكومة دبي المبلغ المتبقي. خلال تلك الفترة تغيرت الظروف الاقتصادية في دول الخليج المجاورة كالكويت والبحرين وقطر فقامت حكوماتها بالمساهمة في هذا المشروع أيضاً. وهكذا بدأ في دبي أكبر مشروع حيوي في تاريخها ليوفر لدبي ملامح بنية تحتية حديثة وليكون شاهداً على انتقال دبي من حيز الاقتصاد التقليدي إلى حيز الاقتصاد المتقدم.

لم يكن مشروع توسعة الخور هو المشروع الوحيد الذي احتاج إلى تمويل كبير. فمعظم مشاريع البنية التحتية التي بدأتها دبي في الخمسينات كانت تواجه المشكلة نفسها الأمر الذي حدا بالحكومة البريطانية وحكومة دبي إلى إنشاء صندوق دائم لتمويل المشاريع الكبرى.

ولكن أهمية مشروع تعميق الخور والميناء فاقت كل المشاريع الأخرى. فالخور هو الشريان الحيوي الذي يغذي دبي ومن دونه لن تكون هناك حركة أو نشاط تجاري. لذا فإن تطويره كان من المهام الأساسية والأولية التي تعهدت حكومة دبي بتنفيذها وأعطتها أولوية على بقية المشاريع ولكن ذلك لم يعني أن دبي قد أغفلت بقية المشاريع الكبرى.

حازت دبي في فترة الخمسينات على سمعة كبيرة كميناء لإعادة التصدير. فكانت تستورد البضائع الأوروبية وبضائع الشرق الأقصى المحملة بواسطة السفن الضخمة عابرة المحيطات، وكانت تلك السفن ترسو على بعد ميل أو ميلين من الساحل ثم تنزل بضائعها إلى السفن المحلية الصغيرة التي تدخل بها إلى الخور .

حيث يتم تنزيلها وتخزينها أو إعادة تصديرها بالسفن المحلية إلى موانئ الخليج المجاورة. ولكن تلك السفن لم تكن قادرة على دخول الخور إلا في ساعات المد فقط، أما في ساعات الجزر وعندما تنحسر المياه فتصبح الملاحة صعبة فيه، هذا إلى جانب زحف الرمال والطين إلى قعره من جانبيه أدى إلى عرقلة الملاحة والنقل فيه. وأوشك أن يؤثر هذا الوضع على اقتصاد دبي بالكامل.

فانتدبت حكومة دبي شركة (ومبي أند كومبني) Wimpey & Company للعمل على تحسين الملاحة في مدخل الخور فقط. وأنجزت الشركة العمل في يوليو 1956 وقد تم المشروع بالتعاون ما بين حكومة دبي التي دفعت حوالي 000,40 روبية هندية والتجار الذين ساهموا بقرض بلغ حوالي 000,450 روبية هندية.

ولكن على الرغم من توسعة مدخله إلا أن الخور ككل بقي محتاجاً إلى تطوير حقيقي وشامل وتوسعة حديثة تؤهله للقيام بدوره كشريان حيوي يغذي اقتصاد دبي. فقد كانت السفن ترسو إلى جانب بعضها البعض في انتظار التحميل أو التفريغ دون وجود آلية حديثة لتنظيم تلك العملية.

ومع تكاثر زحف الرمال كاد مجرى الخور ومدخله أن يسد مرة أخرى. لذا طلبت حكومة دبي من إحدى الشركات الاستشارية البريطانية وهي شركة (سير وليم هالكرو وشركاه) تقديم استشارة حول كيفية تعميق مجرى الخور.

ولغرض توفير الأموال اللازمة لتنفيذ هذا المشروع قامت حكومة دبي ببيع سندات مالية خاصة بالخور للتجار من أجل الحصول على تمويل عمليات المسح. كما تم في عام 1958ـ 1959 تدبير قرض يساوي نصف مليون جنيه استرليني لتمويل عمليات الحفر في خور دبي. وهكذا بدأت المرحلة الأولى من مشروع توسعة الخور.

أما المرحلة الثانية من التوسعة فقد كانت في عام 1968 عندما أصدر الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم أوامره إلى شركة (هالكرو) لوضع مخطط شامل لتطوير الخور الذي يبلغ طوله عشرة كيلومترات.

وقد حصلت دبي آنذاك على مساعدات مالية من الكويت والمملكة العربية السعودية وقطر لتمويل برامج تطوير البلاد، هذا بالإضافة إلى الدخل الذي كانت دبي تحصل عليه آنذاك من مصادره المختلفة والذي كان في تزايد مستمر.

وهكذا بدأت عمليات تعميق الخور التي كانت مكلفة جداً. ولكن ما أخرج من قعره من طين ورمال تم تكديسه على جانبي الخور وبذلك صارت هناك أراض تجارية جديدة تم عرضها للبيع وبالتالي وفر بيعها مبالغ جديدة للإنفاق على مشاريع البنية التحتية في دبي.

ترصدها:د. فاطمة الصايغ

Email