كانت رحلتنا نحو «وادي الحلو» تجربة جديدة محفوفة بالدهشة والمغامرة، فالقرية البيضاء تقع في عمق الجبال، ولابد من الوصول إليها عبر طريق طويل يمتد حتى كلباء ثم النفق الذي يصلها بالحياة في الخارج، وتلك الرحلة تستغرق حوالي الساعتين، لكننا آثرنا أن نسلك طريق شارع الإمارات الممتد نحو الذيد من دون أن نعرف أين تصل نهاياته.
فلم يكن العمل فيه قد اكتمل، فلا تجد إشارة دالة ولا معلماً يعرفنا وجهتنا، وبعد أكثر من نصف ساعة دخلنا المناطق الجبلية ونحن نأمل أن نكون قد اقتربنا من إمارة الفجيرة أو كلباء، ودخلنا قرية ذات أبنية حديثة أشارت مساكنها المتألقة تحت ضوء الشمس إلى أنها المكان المنشود فتلك قرية وادي الحلو التي تملك من اسمها النصيب الكبير، إذ إن للمكان سحراً يصعب وصفه، فلا تجد إلا الجبال أنّى اتجهت.
كانت المنطقة قد بنيت بطريقة هندسية تتناسب وتلك الطبيعة الجبلية الملونة باخضرارها البهي، فقد اصطفت المساكن البيضاء على مرتفع أحيط بالمزارع والشوارع الحديثة والأبنية الخدمية التي جعلت من تلك القرية أشبه بالحلم وأقرب إلى الخيال الساحر.
استقبلنا والي منطقة وادي الحلو بترحاب بالغ أشعرنا بأننا في بيتنا وأن جمال المكان وعذوبته قد انعكست على نفوس أهله فأصبحوا يمثلون الصورة الإنسانية الجميلة له، وبدأ الوالي الحاج خميس سعيد سيف المزروعي حديث الذكريات عن الماضي، فقال: كانت حياة الماضي شاقة وصعبة، فالنخل قليل في الوادي ومن يمتلك منه شيئاً يسد حاجته وحاجة «ربعه» وكنا نصنع كل شيء بأنفسنا فنبني بيوتنا من سعف النخيل.. «الدعون» ونؤسسها من الحصا ثم «نخرصها» بالرمل الأحمر ونبني سقوفها بالسعف والسدر ونضع الأبواب من جريد النخيل.
وكنا نصنع الفرش والأدوات المنزلية وأدوات الزراعة من المواد الطبيعية المتوفرة حولنا، كذلك نبني «الينز» أي مخزن الأطعمة من الحصا والخشب والليف بطريقة تجعله يحفظ التمر أو الحب أو العيش من تقلبات الجو والأمطار لفترة طويلة وكذلك يغطى حتى لا يكتشفه اللصوص فيسرقونه.
وكانت المرأة مثل الرجل تعيش حياة التعب، فهي تطحن وتروي وتحطب، وتقوم بأعمال المنزل وتربية الأطفال ورعي «الحلال» والخياطة وغيرها من الأعمال التي كان البيت يحتاجها في ذلك الوقت».
ويتحدث الوالي عن المنطقة فيقول: «بنى صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة شعبيتين في المنطقة هما شعبية الحصين وشعبية القلعي ووفر فيها المدارس والمباني المختلفة التي تفي بمتطلبات المجتمع في تلك المنطقة فضلاً عن النفق الحديث الذي ربط السكان بمدينة كلباء، فقد كنا لا نصل إليها إلا بشق الأنفس.
والحمد لله تغيرت الأحوال الآن وأصبحت أفضل بكثير، فبعد أن كانت الحياة تعتمد على الزراعة فقط وما يتيسر من أعمال، صار الشباب اليوم يعملون بوظائف جيدة تؤمن حياتهم وحياة أسرهم، وفي الماضي كان معظم سكان وادي الحلو يعملون في زراعة الغليون ويبيعونه لتجار البحرين.
وقد كان بعض المزارعين يطلبون سلفاً أو قروضاً يسددونها في موعد جني المحصول، وهي في الغالب تكون كمية من التمر، لأنه الطعام الرئيسي للناس في ذلك الزمان، كنت أكفل المزارعين حتى يسددوا ديونهم، وكان الجميع يدخنون الغليون بينما انتهت زراعته اليوم بسبب المعرفة بمخاطره وضرره على الناس».
* دخول رمضان
يتحدث الحاج خميس المزروعي عن رمضان الماضي ومعرفة الناس للشهور الهجرية فيقول «في ذلك الزمان كنا نعرف التاريخ بالحساب فنحسب لرابعة رجب وإذا كانت تصادف السبت على سبيل المثال قلنا غرة رمضان تصادف الثلاثاء، إضافة إلى ان الناس يصعدون عند الغروب إلى قمم الجبال العالية.
وإذا دخل الشهر الفضيل أقاموا بريزة أو سبلة يجتمعون فيها ويفطرون فيها وكل شخص يحمل ما قدّره الله له من رزق ثم يصلون التراويح وبعدها يتسامرون ويتعشون ويفترقون كل إلى بيته ويتسحر ثم يمسك على النجم، ولم يكن هناك مطوع ولكن كل «فريج» يصلي جماعة.
ومن يحفظ من القرآن يقرأ ما يتيسر له، وكان الطعام في رمضان بسيطاً فالتمر يأتي أولاً ثم العيش واللحم والفريد والخبيص وفي الأعياد والمناسبات يجهز الناس نوعاً من الطعام يسمى التنور، وهو لحم يوضع وسط التنور حتى ينضج تماماً.
وكان كل شخص يضع علامة على اللحم الخاص به لكي يعرفه عند انتهاء طهوه بهذه الطريقة، وكانت الزكاة تؤدى بمقدار معلوم من السح أو العيش أو الحب أو اليقط، فلم يكن الناس يمتلكون المال لذا يؤدون زكاتهم بما عندهم من طعام، ويقدمونها لفقراء المنطقة.
ويذكر الحاج خميس انه «لم تكن هناك أدوية أو صيدليات أو أطباء كما هو الحال هذه الأيام، فقد كان الطب بالاعشاب والوسم، ومن تلك الأعشاب الحرمل واليعدة والصخبا، والكسر نجبره بجمع بعض الأعشاب مثل الظفر والشعر والمهتدي مع أوراق السدر .
ونطبخها معاً فتكون غليظة القوام ونسمح بها الكسر حتى نلفه تماماً وتكون العجينة حارة، وتكون تلك جبيرة جيدة نستخدمها لكسور عند الإنسان وكذلك «للحلال».
ونستخدم الوسم للسعال والعرق البارد و«اللصة» أي السرطان فقد كان الناس يوسمون المنطقة حول الورم ويثقبونه لكي ينتهي عند هذا الحد، وكانت هناك داية تساعد النساء على الولادة، ولا تتحرك المرأة سبعة أيام بعد ولادتها.ومن يلد له ولد كان «ينقع تفك» وعند الختان يعمل رزفة حيث يحتفل معه الناس ويهنئونه بالمناسبة.
أما النباتات الجبلية فقد كنا نعرفها ونستخدمها في العلاج أو طعاماً للحيوانات، وبعض الثمار تجمعها النساء للأكل في مواسمها مثل الصقب الجبلي، ومن النباتات الأخرى الكوثر، والأرى والحرمل والقضب والحعي إضافة إلى أشجار السدر والسمر الكبيرة».
* معالم
لكي نتعرف على معالم وادي الحلو خرجنا في جولة بين المناطق الجبلية دليلنا فيها حمدان بن خميس المزروعي الذي كان يقود السيارة ذات الدفع الرباعي بمهارة فائقة في الطرق الجبلية .
حيث ذهبنا إلى اطلال المسجد القديم الذي بني من الصخور والبيوت الصخرية التي لم يتركها أصحابها إلا منذ سنوات قصيرة، إضافة إلى مخازن الحبوب التي بنيت بطريقة محكمة تمنع وصول الأمطار إليها وتبعد اللصوص عنها.
وكذلك شاهدنا بعض المعالم القديمة التي نسجت حولها الحكايات مثل سدرة الصنم التي يروي الأهالي انها كانت تحمل حكاية فتى تركه سيده في بيته وذهب إلى الحج فلما وصل هناك شاهده في مكة فعاد وروى لزوجته الحكاية واعتقدوا ان الفتى ساحر فقتلوه، ثم ندموا وبنوا قبره وصار بعض الناس يعتقدون بكرامات كانت مدعاة للخيال القصصي الشعبي.
ووجدنا صخرة عليها بعض آثار الأقدام يقال ان مجنوناً مشى عليها، وكذلك صخرة أخرى تحمل صوراً وحروفاً انجليزية يروي الأهالي انها كانت منذ زمن أجدادهم وكان دليلنا يعرف بقاع المنطقة فقد بدأ بتسمية مكان نمر به فهنا «الشيا» ثم «المطوية» ثم «الخرا» ثم «طلس» ثم «ظهرة الشكاع» وبعدها «السويعة» ثم «شعره».
و«فريج الفلي» والمسكونة والزروب و«شعبة الحبلى» و«الميسديه» و«القرينطية» و«قعاب» و«يامر» و«الروخى» و«يشقار» و«الصريمة» و«سيله» و«القبال التي تمثل اخر مناطق وادي الحلو حيث يلتقي وادي سهم ووادي صفي ووادي الحلو يجمعهما جبل واحد.
كذلك توجد في منطقة الوادي القديمة قلعة عمرها ثمانون عاماً بناها محمد بن عيسى الزباحي، وبالقرب منها انتشرت مزارع النخيل القديمة التي ضمت أنواع الحمضيات والهمبة وبعض المحاصيل التي تحقق الاكتفاء الذاتي لأصحابها.
وبين مساكن الوادي القديمة وأبنيته وبيوته الحديثة بون شاسع فقد احتفظ القديم بنكهة الماضي وذكرياته وأشرف الجديد ليشكل لوحة مدهشة من تجاور الألوان المفرحة فبياض الأبنية انسجم مع خضرة المزارع وبهاء الجبال التي شهدت كل هذا الازدهار.
عدنا إلى مجلس الوالي حيث كانت الضيافة العربية تؤكد حضورها في الترحاب الكبير والوجوه الباشة تنادي «أقرب، اهبش» والمائدة عامرة، والبيت كما الوادي «حلو» عامر بأهله.
استطلاع دلال جويد


