العمر.. مرآة الفصول ومركب للعبور

ت + ت - الحجم الطبيعي

"العمر" كالفصول الأربعة، لكل جمالياته وعبقه. كما أن طعم العمر يجمع الحلو والمر. وكلٌ يحسب مروره على هواه، فمن يحتكم إلى العقل يقيسه بالسنوات، ومن يستند إلى القلب يقيسه بالروح، ومن يميل إلى التفاؤل يتوقف الزمن عنده. اما من يجنح إلى التشاؤم، فيشيخ معه العمر في ربيعه.

 يمثل العمر في بدايته، برعم أمل وفرح وإقبال على الحياة، وفي كهولته ذاكرة لتاريخ شفاهي، وحقبه من حياة. وفي منتصفه، يفقد صاحبه الإحساس بالزمن إلى حين، تحت عبء مسؤوليات الحياة.

والعمر بمعاييره، نسبي مرتبط بثقافات وحضارات الشعوب وتطورها، ومنها من كان يرى أن عمر الشباب، خاصة في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، يمتد حتى السادسة عشرة للفتاة، والعشرين للفتى. لينتقل بعدها إلى الكهولة. ثم تغير هذا المفهوم في القرن الحادي والعشرين، تحديدا في العالم المتقدم، ليستمر عمر الشباب حتى سن 35، عند الجنسين.

سنون وأحكام

ترتبط نسبية العمر، أيضاً، بمفهوم الإنسان له، فمن عاش سنوات الشباب دون بناء نفسه، علمياً أو مهنياً. ومن ثم كرس نفسه لمتع الحياة، يدخل المرحلة التالية عاجزاً عن التأقلم مع الواقع، لتكون أية عقبة بمثابة كارثة. ولتنهار روحه، ويمضي ما تبقى من حياته، إما في شبح ذكريات الماضي أو الندم والحسرة على ما هدره من فرص.

 عمران

لا يختلف العمر عن أي منتــــج في الحيــــاة، فكم مـــن أناس عاشوا حياتهم بعمرين أو أكثر، ولم يترددوا في سرقة أعمار غيرهم، ليعيشوا عمرهم بالطـــول والعرض. وكـــم من بائسين سلبوا شبابا من حولهم، سنيهــــم الحلوة، بدافع الغـــيرة والبغضـــاء والنقمة من زمنهم، الذي بخل عليهم بفرحة أعمارهم.

وتتجلى إشكالية العمر هذه، في كتابة السيرة الذاتية "زيلدا" للكاتبة نانسي ميتفورد. إذ كانت زيلدا ساير، زوجة الروائي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، فتاة جميلة مفعمة بالحيوية، وهي من جنوب الولايات المتحدة، إذ أصبحت وسكوت، بعد زواجهما وانتقالهما إلى نيويورك، أيقونة لجمال وتألق الشباب في عصرهما الذهبي لتحيط بهما هالة من الرومانسية.

وعاش كلاهما متع الحياة حتى أقصاها، دون ترو أو اقتصاد، فاستهلكا طاقتهما واستنزفا رصيدهما المالي، لتكتشف زيلدا أنها أضاعت عمرها هباء، من دون أن تحقق أي نجاح خاص بها، فهي تعتمد في استمرارية حياتها المرفهة، على نجاح زوجها. أما سكوت فاكتشف بأنه هدر سنوات شبابه في اللهو والطيش، ما فاقم حجم وعبء المسؤوليات المادية والمعنوية، خاصة وأن موهبته وإلهامه لم يكفيا للإيفاء بديونه.

كما حاولت زيلدا بفعل غيرتها من نجاح زوجها، تدميره، ذلك لتفوقها عليه، على الرغم من حبها الكبير له. وفي أكثر من فصل تردد زيلدا أن ألق شبابهما فتح لهما بوابة المجتمع المخملي في نيوريورك.

وما يثير دهشة القارئ أن عمر زيلدا، حين كانت تردد هذه العبارات، لم يكن يتجاوز ال 35 عاماً! ومع أول أزمة نفسية تواجهها، انهارت دفاعاتها، وفقدت توازنها وجمالها. إذ لم تجد في حوزتها ما يعينها على متابعة حياتها كإنسانة مستقلة. فأمضت ما تبقى من العمر تتحسر على زمن الشباب، الذي ضاع منها بلا عودة.

" أوكي.. مع السلامة"

يتناول الروائي اللبناني رشيد الضعيف، هواجس التقدم بالعمر، من زاوية أخرى، في روايته "أوكي .. مع السلامة"، التي نشرت عام 2008. ونجد فيها أن البطل، والذي تعدى الستين من العمر، يحاول تجاوز فارق السنين الذي يفصله عن الفتاة التي تصغره بعشرين عاماً.

وفي الوقت نفسه، يدأب لتخطي مخاوفه من مرض الزهايمر الذي بدأت تعانيه والدته. وتصل أزمته إلى أقصاها حين تهجره حبيبته، من دون سبب. وحينذاك، يشرع في الغوص بهواجس المعاناة من العوارض الصحية التي تواجه المتقدمين في السن، كمرضي البروتستات والنسيان .

تمثل رواية "النص السري" 2008 للإيرلندي سيباستيان باري، أحد أبرز الأعمال الروائية المعاصرة، حول ذاكرة التاريخ الشفاهي في الأدب. ونجد فيها، أن بطلتها روزين ماكنلتي، تبلغ من العمر مائة عام في بداية القرن العشرين. وتعيش في مستشفى للأمراض العقلية، لأكثر من 50 عاماً. فتقرر روزين في هذا العمر، كتابة سيرة حياتها كشهادة لنفسها، لتعود إلى مرحلة الطفولة مع والديها في أيرلندا.

وتكتشف البطلة والقارئ، من خلال سردها وكذا سرد الدكتور غرين، الطبيب المقيم في المستشفى- والراوي أيضاً، تاريخهــا، ذلك عبر ومضات من ثقافــــة المجتمع والعادات والتقاليد التي أوصلتها إلى المستشفى، رغم سلامة عقلها. وذلك نتيجة حدة الخلافات السياسية والدينية، بين المذاهب المتنوعة، في العشرينيـــات والثلاثينيات من القرن الماضي. وتـــأتي نهاية الروايـــــة المكتوبة، في قالب لغة أدبية راقيـــة، مفاجئـــة للقارئ والطبيب، في الوقت عينه.

 استغلال تجاري

استثمرت شركات التجميل، في الوقت الحالي، مفهوم وجوانب وارتباطات قضية التقدم في العمر، لتحقيق أرباحها الطائلة، إذ أطلقت مفهوماً جديداً للشباب الذي ينسحب على مختلف مراحل العمر المتقدمة، وبذا أوجدت إرباكاً جديداً في ثقافة الحياة.

وهكذا باتت زيادة الوزن الطبيعية، مع مرور العمر، أو تجاعيد الوجـــه التــي تؤرخ لسنوات الإنسان، أزمة حقيقية، وعائقــــاً أمام كينونة الإنسان في المجتمع، الذي فرضت من خــــلاله تلك الشركات، معايير لا تنطبق إلا عـــلى مرحلة الشباب،.

وذلك حتى العشرين من العمر. كما باتت المرأة، مع تجليات تلك الرؤى التجارية المتسيدة والسائدة، تحديدا التي في الخمسينات من العمر، معنية بالانهماك في أن تصارع نفسها وعمرها، لتحتفظ بوهم إطلالة العشرين. فهي تحارب وزنها وتجاعيد عمرها، وتٌسخِّر ميزانيتها لشراء الكريمات وزيارة عيادات التجميل وتعريض نفسها لمخاطر العمليات الجراحية البلاستيكية.

كما أن الرجل غدا يستبدل هوس عنايته في سيارته، بهاجس مراقبة ليونة وانسيابية جسده وكذا رشاقته. كما استبدلت المرأة عبوديتها للرجل، التي تحررت منها بعد كفاح طويل على مدى أجيال- دفعت خلالها مجموعات كبيرة من النساء الثمن غالياً- بعبوديــــة وهــــم الشبــــاب والمنتجات والعمليات والرشاقة.

 " معجزة الزمن والوجود"

خلقت محددات وإفرازات تلك " الصناعات العمرية" الاستهلاكية هواجس كثيرة لدى الجنسين. فباتت تحرمهم من إنسانيتهم، ومن سكينة الحياة وجمالياتها، كما سلبتهم روحهم أو ماء الحياة، كونها أخذت تحصر تقييم الإنسان ووجوده في قميص المقاييس الظاهرية الجديدة.

وبذا فقد الإنسان جزءاً مهما من جماليات عمره وإنسانيته التي يهدرها في لهاث وسباق مع الزمن. يقول الكاتب البرازيلي باولو كويلي، الذي حقق شهرة واسعة في السنوات العشر الأخيرة: "نشتري الكتب، نذهب إلى النادي الرياضي، ونصرف الكثير من طاقة العقل في محاولة لوقف الزمن، في الوقت الذي علينا فيه أن نحتفي بمعجزة وجودنا في هذا العالم".

واللافت انه أسهمت الثقافة الجديدة في الترويج لصلاحية العمر، والذي يبدأ وينتهي بمرحلة الشباب، لتهمش خبرات وتجارب من يفوقونهم سناً. وتأتي هذه المبالغة بعد تغييب دور الشباب، وسلبهم حقهم المشروع وموقعهم الفعلي في الحياة، على مدى يتجاوز مئات السنين. وبالتالي تخسر المعادلة الجديدة، ناتجها، كالسابقة. فإحداهما تنفي الأخرى، بلا استفادة من التكامل فيما بينها.

 سينما إيكورا

من أجمل الأفلام العالمية التي تناولت العمر: الفيلم الياباني "إيكورو"، للمخرج آكيرا كوروساوا (1910 1998)، الذي عرض عام 1952. وبطل الفيلم تاكاشي شيمورا"، الذي لعب دور القائد في فيلم "الساموراي السبعة"، رجل بيروقراطي مسن، يعيش في عالمه الخاص، بين أبراج من ملفات المعاملات والسجلات، ويستمر ذلك إلى اليوم الذي يخبره فيه الطبيب، أنه مصاب بمرض السرطان.

ومع الخبر يسترجع البطل شريط حياتها، ليدرك أنه كان كالجرذ، يعيش في جحر الوظيفة، وبمبادرة شجاعة يقرر أن يترك ذكرى له، ببناء ساحة ملعب لمجموعة من الأمهات والأطفال، الذين قدموا رسالة استرحام بشأنها، والتي كانت تأخذ عادة، طريقها، أسوة بغيرها، إلى أحد أبراج الملفات المنسية.

 "يوم بلا غد"

 تتجلي في فيلم "يوم بلا غد"، للمخرج هنري بركات، الذي لعب البطلة فيه، الموسيقار الراحل فريد الاطرش والممثلة القديرة مريم فخر الدين، وعرض عام 1962، ملامح جاذبية خاصة في استيعاب مفهوم العمر. ويتناول العمل إشكالية العمر، بين زوج الأب: "زكي رستم"، وليلى: "مريم فخر الدين" ابنة زوجته المتوفاة، التي رباها منذ كانت رضيعة وحتى أصبحت شابة.

ويرفض حبها للشاب ممدوح: "فريد الأطرش"، إذ تهيمن عليه نزعة التملك والإعجاب بصباها. ويقرر زوج أمها، عزلها في "العزبة"، فيبعدها عن ممدوح.. وتتدهور حالتها الصحية، وترجع إلى ما كانت عليه، خاصة بعد أن منع عنها كل اتصال، وأخفى كل خطاباتها. لكن ممدوح يذهب، سرا، إلى العزبة.

ويقابل ليلى، وعندما تحين الليلة التي أدركت فيها حقيقة نوايا زوج والدتها.. تطلب من أخيها عادل أن يساعدها على الهرب والزواج من ممدوح، وحين يعلم الأب بذلك، يقرر قتلهما. إلا أنه يتراجع في اللحظة الأخيرة، ليواجه واقع انتمائه إلى جيل تجاوز مرحلة الشباب.

 العمر والحكمة

 «تقدمك بالعمر لا يعني توقفك عن الضحك، لكن إذا توقفت عنه تصبح مسناً».

جورج برنارد شو

 «الحكمة تأتي مع الشتاءات».

أوسكار وايلد

 «شهدت 45 عاما، وخلالها استخلصت شيئاً واحداً. إن قام الإنسان بأي جهد، يعني تعلمه شيئا من كل شيء، حتى الأشياء والأمكنة العادية فيها ما نتعلمه منها».

Email