«مسارات» ترصد محطات رحلة عائلة إماراتية من دبي إلى رأس الخيمة

«طلعات» البر والتخييم..ترفيه وثـــقافة ينعشان الروح

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

"يا جماعة يانا البرد، يباله سيره للبر، وقعدة شويّ، شو رايكم نرتب لنا يوم جي في نهاية الأسبوع، ونظهر كلنا يميع".. هنا..

وهكذا، تبدأ حكاية أهل الإمارات مع "طلعة البر"، التي يقصد بها، قضاء يوم للاستجمام في أحضان رمال الصحراء. إن البحث في طقوس وتفاصيل هذه العادة الشتوية، المحلية ورغم خصوصيتها، يوضح أنها لا تحمل فعلياً، طابعاً حصرياً، يجعلانها مقصورة على منطقتنا فقط، فهي ممارسة ونشاط ترفيهي نشهده في جميع دول العالم، مرماه ومؤداه، خروج الأسرة أو الفرد، من البيت، لعيش تجربة استرخاء خارجية، مع تناول وجبة غداء أو عشاء، في حدائق عامة أو منتزهات، أو في مناطق وأماكن الطبيعة البكر، في الصحراء وفي الجبال.

 "مسارات" اختار تبين كنه "طلعة البر"، والغوص في تفاصيل جمالياتها، بأسلوب مغاير، يبتعد عن طابع التوثيق النظري. وبذا كان لا بد من رصد تفاصيل الحكاية ودقائق تشويقها، من خلال رصد تحضيرات ومحطات رحلة إحدى العوائل الإماراتية في هذا الصدد، متخذاً لقصته بهذا، نموذجاً يحمل جانباً تصويرياً درامياً، يغتذي من الخيال المقترن بروحية جمال الواقع في حقائقه وأحداثه.

 حاجة ومتعة

أبطال قصتنا أربعة أشخاص، يشكلون قوام عائلة واحدة، انتوت الخروج في " طلعة البر"، ولم تتأخر في تنفيذ العملية : أبو جاسم وأم جاسم والابن جاسم والابنة فاطمة. طبعاً، لم يكن تتبعنا مفردات وحكاية وأجواء رحلة العائلة، يهدف في مضمونه إلى إعادة دبلجة الملامح العامة لرحلات البر الصحراوية وتبيان فوائدها وتكرار ذكر طبيعة مسبباتها، وإنما غاية التقاط جماليات اللحظة وروح العاطفة في تلك الأوقات.

وكذا بعض التفاصيل الشائقة المخفية، ضمن تلافيف طقوس "طلعات البر" في الإمارات، لنضيء عبر هذا النهج، على جوهر العادة الترفيهية تلك، برؤى محلية تسرد التوليفة البانورامية لليوم واللحظة، في مثل هذه الرحلات، وكذا تجيب عن أسئلة القراء كافة، حول ماهية برنامج الأسرة الإماراتية للقيام برحلة برية، آملين عبر هذا المسار، نيل مبتغانا في السعي إلى تقريب المفاهيم الانسانية للتلاقي والتلاقح، ضمن بوتقة إبراز معاني وجماليات ثقافة الترفيه الإماراتية.

والتركيز على توضيح أوجه الغنى التي تفرزها في أبعادها المجتمعية.إذ تتبدى فيها، قيمة محورية، تتمثل في كون رحلات البر هذه، مزيجاً ثقافياً ترفيهياً، يجمع بين تقاليد المجتمع وتلبية غايات وحاجات الإنسان في تغيير منوال روتين حياته اليومية،.

ومن ثم إعادة التوازن النفسي إلى شخصيته، بعد أن يجلي هموم العمل والحياة، من خلال الاستجمام والاستمتاع في حضن الطبيعة في ظل توفر حالة طقس مثالية، تزيدها فرادة، متعة "طلعات البر" وهي تعانق ظروفا مناخية تجمع بين طبيعة البر والبحر والجبل، وكذلك تلم شمل أفراد الأسرة الواحدة، في جلسات مسرة وراحة، عقب انهماكهم في دوامة انشغالاتهم وتعبهم الكبير في أثناء مجريات واحتياجات الحياة اليومية.

 قرار ..وخطة محكمة

من دبي، وعبر محطات عديدة في رحلة برية واقعية، انطلقت عدسة "مسارات" وريشته، في تصوير ورسم، خطوط ومنحنيات ومشاهد، تشويق الحكاية، لتمر بنا الطريق، مع رحلة "طلعة بر" عائلة أبي جاسم، في مناطق كثيرة، إذ تعبر منطقة خورفكان في الشارقة، لتصل إمارة رأس الخيمة. دون سابق إنذار.

وبينما كانوا يتحدثون في غرفة الجلوس، إذا بأبي جاسم وزوجته، يقررون أصطحاب الأبناء في رحلة إلى الصحراء. وهنا يخاطب الزوج أفراد عائلته: "شو رايكم انروح رحلة برية، ومره وحده أنخيم، نبداها صوب منطقة الورقاء في دبي، بنكمل صوب خورفكان الشارقة، وعقبها عوافي في رأس الخيمة". وترد عليه أم جاسم: " يالله صدق يباله من زمان، محتاجين هالطلعات، بس ترى، يبالها روحه للجمعية التعاونية، عسب الأغراض".

 لا يتأخر الابن الأكبر، جاسم، عندها، والبالغ من العمر 17 سنة، في مشاركة والديه، الحديث: "الصراحة أنا خاطري، إذا رحنا، أركب الدراجة الرملية". أما فاطمة، الابنة الصغرى، البالغة من العمر 15 سنة، فتطلب من أبيها جلب الكستناء والذرة، على رأس قائمة الأطعمة الرئيسية، التي يرغب الأبناء في الأسرة الإماراتية، عادة، في توافرها ضمن "السفره".

 .. منذ اللحظة الأولى

لم يتخلف "مسارات"، عن مواكبة وتسجيل أي من خطوات العائلة في التحضير لهذه الرحلة، ومن ثم خوض غمارها. وبذا كان حاضراً، شروعها في شراء الموزاد والاحتياجات المطلوبة.

فرافقها بينما كانت تتجه إلى الجمعية التعاونية للتبضع. وكانت المشتريات كالآتي: الفحم، علب وصحون بلاستيكية، الشاي والقهوة، الشعيرية- لصناعة ما يسمى محلياً "البلاليط"، اللوبيا ( نوع من البقوليات)، البنزين الخاص لاستعمالات إشعال حطب الشواء، صناديق مياه الشرب، الحصير، "الفلاس" - لوضع الماء وضمان حفظه بارداً، صابون الغسيل، البهارات المحلية( لصناعة الأرز في وجبة الغداء)، أنواع أطعمة المشويات لفترة المساء.

.. خط البداية

ها هو أبو جاسم يوجه مقود السيارة، وهو يبدو منشغلا برسم خط سير ما، بينما تجلس أم جاسم، إلى جانبه وهي منشغلة بهاتفها النقال.. ذاك هو المشهد الأول في حكاية رصد "مسارات"، انطلاقة رحلة "طلعة البر" لعائلة أبي جاسم.

حيث الوجهة الأولى هي الورقاء في دبي.. بدت أم جاسم، وهي منهمكة بالكتابة والمراسلة باستخدام هاتفها النقال، في تلك اللحظات، منقطعة عن الاجواء في السيارة، مؤقتاً، إذ كانت منكبة على التواصل مع صديقاتها لتخبرهن، عبر خدمة التراسل السريع، أنها خارجة الآن برفقة أسرتها، إلى البر. ولا يطول الأمر بأبي جاسم، حتى نجده يسألها: "شو قاعدة تكتبين؟". فتجيبه: "

ما شي يالسه أخبرهم عن رحلتنا للورقاء، وناسة، خلهم يعيشون ويانا الجو". ويرد أبو جاسم: "متفيجين أنتو الحريم.. المهم ياعيال، ترانا خذنا إذن من البلدية، وبنحط الخيمة في مكان بعيد عن الدراجات، جاسم إذا ودك تلعب بالدراجات، خلها على العصرية". تصل العائلة المكان المخصص للرحلة، فتبدأ نصب خيمتها فوق تلة صغيرة، ومن ثم تباشر جمع الحطب لإشعال النار وطهي الطعام. كما حددت أم جاسم، مكاناً للغسيل..

ووضعت، بمساعدة أفراد الأسرة، الحصير في داخل الخيمة. وأما مستلزمات الأطعمة فرُتبت في زاوية من الطرف الخارجي للخيمة. وبعد مرحلة تنسيق وترتيب المكان، تجلس العائلة تتأمل تفاصيل المكان، متنعمة برحابة وجمال منطقة الورقاء، التي تعد من أبرز الأماكن التي يتوجه إليه أهل دبي، لقضاء أوقات عطلاتهم والاستمتاع بالجلسات على الرمال، ذلك كونها تتوسط منطقة مردف باتجاه جسر القرهود ومعبر الخليج التجاري ومنطقة ند الحمر، وهي جميعها مناطق تقع في قلب مدينة دبي.

ويجد المتابع، منطقة الورقاء، مليئة بالعوائل التي تقضي أوقاتاً خاصة برحلات" طلعات البر"، على امتداد شارعين، من اليمين واليسار، خاصة في ظل الحال المثالية لأوضاع الطقس في هذه الأيام من العام. كما تتميز المنطقة بتجمع الشباب مرتادي سيارات الدفع الرباعي، بشكل غالب من نوع "نيسان"و "تيويوتا" ، إذ يتبارون في مغامرات الصعود والنزول بالسيارة على التلال الرملية، وتجد بينهم في تلك الأجواء، من يعتزم خوض سباقات رملية.

وفور ذلك، لا بد وان يدهمنا السؤال عن قيمة السباقات التي يجريها الشباب في هذه الرحلات البرية: أتراها تصب في خانة رغبة الشباب في إثبات ذاتهم الرجولية وإبرازها، على طريقتهم القاضية بتجسيد الشغف بالسرعة وعكس روح المغامرة، أم أنها فعلياً، جزء من تقليد إماراتي اجتث من حياة البدو الذين يعشقون ركوب الرمال بالجمال والخيول في وقت مضى، وأصبح اليوم احتفاء بادياً ومعروفاً، عبر سباقات عالمية ومحلية، تشهدها الإمارات في هذا المضمار؟

ربما أن هذا مرجح، فالسيارة غدت في هذا السياق، بديلاً للجمال والخيول، لتجسد وجهة تعبير عصري عن مضمون إرث مجتمعي، وكذا نسج خصوصية علاقة نوعية مع الرمل كدلالة على الالتصاق بالبيئة المحلية وعناصرها، ليغدو تفسير التعايش مع المكان على أنه ليس بمثابة مطرح للعيش فقط، وإنما محطة متعة في التغني بتقاليد التكيف معه، والتي أصبحت جزءاً من شخصية الفرد في الإمارات. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار رحلات السفاري واستخدام السيارات ذات الدفع الرباعي لصعود الرمال، نموذجا لاستثمار تقليد مجتمعي في قالب وجوهر ثقافة سياحية متكاملة.

جلسة و"كرك"

قرر أبو جاسم إشعال النار بعد ضم الحطب في موقد مخصص، بهدف طهي الـ « الكرك »: شاي بالحليب، الذي يعتبر الأشهر بين المشروبات الساخنة في الإمارات.

وبذا لا تخلو رحلة بر منه كعنصر أساسي. وطفق أبو جاسم ينادي زوجته: "أم جاسم.. تعالي زهب الكرك.. يا سلام، أسميه يعدل الراس، جسوم.. فطامي.. تعالوا أبيكم اتجربون شاي أبوكم". تبدي أم جاسم رأيها في الحليب الساخن: " أسميه الحليب غاوي، جي عيل ما ترضى اتسويه لنا في البيت". فيرد عليها:" أسميكم أنتو محد يدلعكم.. أخبرج سيري هاتي اللحم والعيش.. خلنا نرتب كيف بنطبخه".

وفي تلك الأثناء، يشتد الجدال بين جاسم وفطوم، اللذين يظهران جالسين على الرمل، ودون وعي منهما، يعلو الصوت. وإذا بجاسم يخاطبها: "قلت لج الآي فون راح زمانه، ألحين زمن الجلاكسي". تقاطعه فاطمة:" أضحكتني تراك، نسيت أن تقنية الجلاكسي تقليد بالكامل للآي فون". وتتدخل أم جاسم: "أحيدنا ياين البر مب قاعدين في كوفي شوب بمول تجاري، شفيكم حتى هني سوالف أجهزة". ويؤيدها أبو جاسم، مضيفاً: "صدقوني الطبيعيه هني بتخبركم شي ما اتعرفه الأجهزة".

 أبعاد ودلالات

ولا شك أننا نجد ذواتنا، وفي أثر الحديث عن انشغالات الحياة اليومية، وما يطرحه أو يمثله كل من جاسم وفاطمة، من حالات ونماذج وأفكار، عبر الحوار السابق، أمام سؤال مهم يبقى مفتوحاً، يتلخص مضمونه ب: ما طبيعة الدوافع أو المشاعر والرؤى التي تبعثها في النفس والعقل، بعض الجلسات والأجواء، كالتربع على قمة هضبة رملية.. فهل يحثنا ذلك على التركيز على الخلوة بأنفسنا،.

فالتفكير والتأمل ملياً، ربما، بعيداً عن ضجيج وزحمة ومتاع المدينة؟ إنه، وبحق، سؤال يباغتنا ويلح في اختراقه ذواتنا، بينما نحن نعيش تجربة الاستمتاع في رحلة" طلعة البر" في الورقاء في دبي.. فهنا سنعي مدى وكيفية نجاح العائلات الإماراتية في البر، في صوغ أجواء فريدة، تؤمن لها مخارج مثالية مشكلة من ألف لون ولون، لتنفصل قليلاً، معها وبفعلها، عن الحركة السريعة في المدينة، فتطرب بسمفونيتها الخاصة، بينما ترتع خارج دائرة الزحام والسرعة.. وكل ذلك، لا لهدف وغاية الهروب كما تعتقد غالبية الناس، ولكنه نزع إلى خلق فضاءات تبني روحية اتزان الداخلية في دواخل الإنسان.

. ولا تغيب عن بالك طقوس وأبعاد تلك الجلسات، فأنت، وبينما تسير في أركان المكان، لا تعدم الفرصة، لتصادف في كل محطة أو مرحلة، أحد براهين التركيز على خيار خلق أشكال للوحدة البناءة. فعند مرورك بالخيم المنصوبة في منطقة الورقاء، ستجد من يضع سماعات كبيرة ويسمع فيها أغنيات محلية، مختارا الانقطاع عن الاجواء المحيطة.

وكذا هناك من تراه يتعمد القدوم إلى المكان، صحبة أصدقائه الذين يتقنون العزف على الآلات الوترية العديدة، فيحظى وإياهم، بفرح جلسات مسائية مفعمة بالنغم والكلمة المغناة، المحليين، في قالب أغنيات شجية، يؤديها هؤلاء العازفون، وهي للفنان ميحد حمد وحسين الجسمي، وغيرهما من فناني الإمارات.

وتسمع وأنت تراقب هؤلاء الشبان، في جلسات الغناء والفرح تلك، عبارات ومقولات خاصة بإضفاء جو من الفرح، ومنها: عاشوا، لا يوقف، سمعنا يا عمي، على راسي والله، يسلم لي الصوت، يا ريال عليك عزف رهيب.

 .. ومحطة جديدة

" يله يا أم جاسم، حطي دبات الماي في الدبه، عسب نتلاحق لين خورفكان على المساء". ها هو رب الأسرة يستعد، وعائلته، للرحيل باتجاه لخورفكان، في المحطة الثانية ل"طلعة البر"، للمبيت هناك. وتبدأ السيارة تلتهم الطريق، وفي الأثناء لا تمل عدسة مسارات وريشتها، تصوير وتوثيق كافة المشاهد واللحظات:

إنها الخامسة عصراً، ونحن نسير في منطقة الذيد، بين دبي والشارقة، باتجاه خورفكان. وتبدو الطريق، بملمح مغاير قليلاً. إذ تظهر أطراف الشارع وكأنها أشبه بدرب صحراوي، فهناك بعض من شجيرات الغاف وحشائش الأرض..

إلا أن هذا الملمح، لا يمكن، وفي وهج إحساس عميق تبعثه قيمة المكان، إلا إدراك تميز الأهمية التاريخية لهذه المنطقة، الثرية بعمقها التراثي وبمزيج حضارتها البارز في كينونة وسمات أبناء منطقة الذيد، والذين يحملون الصفات نفسها التي تجتمع في بدو الإمارات. فلا تزال سمات الشهامة وفطرة السلوك وأصالة العادات، راسخة وصامدة، لديهم، تتحدى جميع متغيرات الانفتاح السريع الذي شهدته الإمارات، في سنوات قليلة. أخيراً.. ها هي عائلة أبو جاسم، تحط الرحال في خورفكان.. ويعلق جاسم بصوت هادئ:" يا سلام البحر.. يعني وصلنا الخور".

إن كورنيش خورفكان معروف لدى الإماراتيين، إذ تعلق وارتبط الاماراتيون، من كل المناطق، بعلاقة خاصة مع البحر المحاذي، لجمال موقعة. كما تعمقت تلك العلاقة، بفضل تميز صفات وبساطة أهل المنطقة، علاوة على سمة الملمح التاريخي التراثي لمعالمها، إذ تصنف بالمنطقة السياحية والتاريخية، في آن واحد. يخاطب أبو جاسم عائلته، بينما هو مشغول في قيادة المركبة، وتدقيق النظر إلى جانب الطريق: " لحظة.. المكان زحمة، ما نقدر ننزل صوب البحر، يله عاد وين بنحصل بارك للسيارة ألحينه".

 وتجيب أم جاسم: " خل عنك الزحمة، لازم نقعد حذال الخور، خاطري أشوي فيه الليلة". وتتدخل الابنة: فاطمة، فتنهي نقاش أبويها في هذا الخصوص. وذلك قبل أن يقرر الأب التوقف في مكان قريب من الكوريش. إذ تقول : "الصراحة المكان روعة". وهكذا تقرر الأسرة الترجل، ومن ثم اختيار مكان للجلسة، فتشرع في التحضير و الإعداد للشواء على شاطئ بحر خورفكان.

وهنا تبرز جمالية الرحلة، حيث يتحلق الجميع حول القاعدة المخصصة للشواء، ويعمد كل من أفراد الأسرة إلى الاشتراك في متطلبات تحضير طعام الشواء، فيبادر الجميع إلى تقليب قطع اللحم فوق وهج النار، حتى تتم مرحلة طهيه بشكل كامل . ومن ثم تبدأ قصص وألوان التعبير عن المودة والمحبة، وكذا المعاتبات والخصام البسيط، وحينها، تأخذ العائلة في كشف الأسرار بين أفرادها، فكل يفعل ذلك حسب قدرته وقراره بشأن مدى ومستويات البوح. وهنا لا تطول الحالة بأبي جاسم، ليخرج الأسرة من تلك الأجواء، عامداً إلى إضفاء المرح. فيخاطب الأبناء: "ما كنت متخيل إني باخذ أمكم أبدا، كنت حاط عيني على وحده ثانية، لكن ..."

. وفوراً، ترد أم جاسم:" ألحينه ما تحلا هالسوالف إلا ونحن طالعين بالجو الحلو.. وبعدين بذكرك ترى أنت إلي ذبحت روحك عشاني". يضحك جاسم، ويعقب : " بدوا عاد، أنتو من تفتحون هالسالفة ما نخلص، وبعدين أبوي بعد هالعمر خلاص لا تذكرها". فيقول الأب ضاحكاً: "

والله انسولف، أنتي على العين والراس يا أم جاسم". وتستغل فاطمة فرصة انبساط الأجواء، وفرحة الأهل، لتخاطب أبيها بصراحة : "بس تراني أبوي ما نسيت موضوع وعدك لي". فيرد : "خير أي وعد، بيزات ما عندي". وعندها، يتغير وجه فاطمة. وتعقب : "ما يخصه بالبيزات، بس تراك وعدتني بنجاحي في المدرسة.. هالسنة أدخل أتعلم فروسية". يضحك جاسم. ويتابع : "طالعوا هذي أونه بتتعلم فروسية".

ويتدخل الأب: "ما عليج منهم أبنيتي، بوديج إن شاء الله". وهكذا تستمر لحظات الحديث، وهي ربما تأخذ مناحي أبعد، لتصل عمق صلة القرابة، فتتجسد قيم شتى في الاحتواء الرائع بين أفراد الأسرة، والذي لا يكاد، أحيانا، يجد له متسعا من الوقت في صيرورة ربكة ازدحام الحياة المدنية السريعة، التي، ورغم جمال واقع إنجازها التنموي، إلا أنها تتبدى كوجه آخر مفعم بالرتابة والروتين وسرعة الإيقاع، والذي جرد بعض اليوميات، من بريق اللمحة الإنسانية الدافئة.

 .. ولا بد من "عوافي "

استقرت العائلة على رأي جماعي، بعد جلسة الشواء والتمتع بتجاذب أطراف الحديث، على المبيت في خورفكان، ومن ثم الانطلاق في الصباح الباكر لليوم التالي، إلى منطقة عوافي في إمارة رأس الخيمة ، وذلك طبقا لخطة سير الرحلة. هكذا إذا، فالعائلة اختارت أن تختم تلك الرحلة، بمحطة، لا بد منها لتمام متعة "الطلعة"، فعوافي، المنطقة الأشهر في الإمارات بجوها العائلي وباحتفالها برحلات البر في رأس الخيمة.

وهي تقع بالقرب من منطقة سهيلة والدقداقة، نحو طريق مطار رأس الخيمة الدولي. ولم تعرف عوافي سابقاً، كمنطقة ترفيهية، إلا إلا من قبل سكانها. ولكن خطة شاملة ومدروسة، وظفت ورصدت منذ سنوات، للتسويق لها، عبر وسائل الإعلام المختلفة، كوجهة سياحية رسمية لمحبي التمتع برحلات السفاري في الصحراء:"مرتادي الرمال". وينظم، في هذا السياق، مهرجان سنوي، تقدم في مجموعة مختلفة من الأنشطة، ومنها : البيت التراثي.

وذلك إلى جانب المسابقات الرسمية لأصحاب السيارات المعاد تجهيزها من خلال "التزويد"، لتغدو قادرة على التسلق والمواجهة والسير بقوة في تضاريس جبال من الرمال، ومؤكد أن لهذه السيارات وأعمال التزويد التي تجري عليها، متعة خاصة بالنسبة لمن هم مهتمون بهذا المجال، ومن ينخرطون في المسابقة الخاصة به، حيث يستطيعون معها، اجتياز مرتفع معين، فيحققون انتصاراً مهماً في المنافسة. ونذكر هنا، أنه أطلق المنظمون والمشاركون في الحدث (المسابقة )، على الجبل الرملي المعد للسباق ذاته، تسمية «تل عوافي» .

حيث يجتمع الناس من إمارات الدولة، وهناك أشخاص من قطر والسعودية، فيتركزون حول موقع الحدث المتوضع ضمن سياج يمنع دخول غير المشاركين ليضمن الأمن والسلامة للجمهور، كي يشاهدوا الاستعراضات التي يقدمها الشباب، ويجري هذا الأمر بموازاة ظاهرة تشجعية، وهي استخدام الشباب لزمور السيارة، أوما يسمى محلياً " الهرن "، في حالة إعجابهم بأحد المشاركين، مشكلين بذلك، رابطة تشجيع، كما يحدث مع الأندية الرياضية.

بدا جاسم مشغولا بأمر ما يعتمل في دواخله، فمنذ وصوله وهو يحاول محادثة أبيه بشان شيء ما.. لا شك أنه يريد ركوب الدراجات الرملية في منطقة عوافي، حسب ما كان قد طلب من والده، منذ البداية، وها هو جاسم يقف بالقرب من مطعم صغير لبيع الشطائر، هامسا إلى نفسه : " ألحين أروح وأقول لأبوي أنه خاطري بالدراجة، وله أخبره بسير أشوف ربعي من رأس الخيمة وأخطط أأجر دراجة، وأسير صوب الند".

يحضر جاسم الشطائر، ويعود إلى داخل السيارة، فينظر إليه الاب. ويخاطبه : "أدريبك ..تبي تروح تأجرلك دراجة، أسمعني بخليك، بس توعدني ما تسرع، وتاخذ أختك وياك". يرد جاسم بسرعة:" أكيد والله ما أسرع، بس شسوي بفطامي خلوها معاكم ". تتدخل فاطمة في الحديث : "

يعني شو الواحد ما يستانس، أنا بعد أبي أركب الدراجة معاك ". وفعلاً، تنجح فاطمة في تحقيق مرادها في مشاركة جاسم بألعاب الدراجة النارية على الرمال. إن منظر عائلة أبي جاسم، وهي تنعم بالرحلة في منطقة عوافي برأس الخيمة، يعكس الكثير من المعاني، ذلك وسط جمعة كبيرة من العوائل الإماراتية، والتي تجدها لا تبخل على الأبناء، فتيانا وفتيات، بالاستمتاع بكافة أنواع الترفيه. هناك زوايا عديدة تحملها عدسة " مسارات " .

وهي تلتقط مع عائلة أبو جاسم، تفاصيل المكان في محطات رحلة" طلعة البر"، في خضم التجمعات الحميمية للأسر الإماراتية، في الورقاء وعوافي وخورفكان. وفي هذا السياق، يذكر أن لعوافي حكايات نوعية منها ما يرصده كبار السن عن المنطقة، ومنه ما يحفظه الأطفال. فلا يمكن أن تغيب عنا قصة تلك العجوز التي اشتغلت في بيع الألعاب النارية والمفرقعات الممنوعة، والتي تقطن في إحدى " العزب ".

وهو مصطلح للمنطقة التي يقوم الأشخاص فيها بالتخيم أو بناء بيوت صغيرة، بترخيص رسمي، في منطقة عوافي، ويقبل عليها الجميع ومن كل الفئات، لشراء الألعاب النارية. وتعددت مصادر الأخبار عن أحوالها، فمنهم من يقول إن بائعة الألعاب النارية أوقفت من قبل الشرطة، ومنهم من يؤكد اعتزالها المهنة، فبعد الرقابة الشديدة، باتت هذه السوق شبه مفقودة، حفاظاً على الأمن.

 اجواء فريدة

يبرز المطعم الشعبي الشهير، للمشجع الرياضي خالد حرية، في منطقة عوافي، إذ يقدم جميع أصناف الأكلات الشعبية. ويلقى إقبالا وشعبية، كبيرين. توقف عنده أبو جاسم وطلب " البرياني ". وأثناء ذلك، قرر الوالدان، بعد انتهاء الأبناء من جولة الدراجات النارية، المكوث في الشاليهات.

وطبعا، هناك أجواء متعة متمايزة لهذه الشاليهات في عوافي، إذ استثمرت مجموعة من رجال الأعمال تلك الأراضي الشاسعة حول المجمعات لتوفير الترفية للأفراد والأسر، من خلال نموذج بناء سكني يلبي رغبات واحتياجات من يريد أخذ قسط من الراحة أو المبيت.

 .. عند حلبة " التفحيط"

بعد استراحة بسيطة ولطيفة، ذهبت عائلة أبو جاسم إلى الحلبة المخصصة ل"تفحيط" السيارات، والمقصود بها :تحريك السيارة بشكل دائري أو استعراضي، بشكل يحتاج إلى مهارة فائقة من السائق. وهذا الحدث يقام بالتوازي مع الأنشطة المتعددة لموسم احتفالات عوافي في رأس الخيمة. وتقف سيارة أبو جاسم إلى جانب الحلبة، ويفتح نوافذ سيارته مباشرا الاستمتاع، هو وعائلته، بالحدث.

 مواد ضرورية

 تحرص العائلات الإماراتية، على التزود بمواد خاصة، وشراء مجموعة مستلزمات مهمة وضرورية، لرحلة "طلعة البر" والتخييم. وتتمثل مكونات قائمة الاحتياجات في هذا الخصوص، وبشكل تقريبي، ب : الفحم، علب وصحون بلاستيكية، الشاي والقهوة، الشعيرية- لصناعة ما يسمى محلياً "البلاليط"، اللوبيا ( نوع من البقوليات)، البنزين الخاص لاستعمالات إشعال حطب الشواء، صناديق مياه الشرب، الحصير، "الفلاس" - لوضع الماء وضمان حفظه بارداً، صابون الغسيل، البهارات المحلية( لصناعة الأرز في وجبة الغداء)، أنواع أطعمة المشويات لفترة المساء.

 «أبويه ..مشكور»

 هدوء كبير يسيطر على الاجواء، في داخل سيارة أفراد عائلة أبو جاسم، في طريق عودتهم، متجهين من عوافي إلى دبي. إذ أرهقهم التعب. وفي خلالها، قال جاسم: " أبويه مشكور، حسيت براحة وتونست، أهم شي الدراجات". أما فاطمة، وهي تطالع وجه والدها عبر المرآة الأمامية: " شكراً بيه على أنك خليتني أركب الدراجات واستانس". وتشاركهم أم جاسم الحديث، فتقول بينما تبتسم : " وأنا مالي شكراً...".

 مراحل وخطوات

 تتمثل المرحلة الأولى لرحلة البر، وبعد الحصول على الإذن مسبقاً، في اختيار مكان للتخييم، ومن ثم تشرع العائلة في تنسيق وترتيب المكان، وتخصيص مطرح الموقد. وترتيب كافة الاشياء المحمولة. ووضع الماء في المكان المناسب، ومن ثم تهيئة أجواء الجلسات، والتي نتبين جمالياتها خاصة، في منوال توزع وجلوس العائلات في منطقة الورقاء في دبي.

والتي تعد من أبرز الأماكن التي يتوجه إليه الناس، لقضاء أوقات عطلاتهم والاستمتاع بالجلسات على الرمال، ذلك كونها تتوسط منطقة مردف باتجاه جسر القرهود ومعبر الخليج التجاري ومنطقة ند الحمر، وهي جميعها مناطق تقع في قلب مدينة دبي.

 حكايات تروى

 هناك زوايا عديدة تحملها عدسة " مسارات " وهي تلتقط مع عائلة أبو جاسم، تفاصيل المكان في محطات رحلة" طلعة البر"، في خضم التجمعات الحميمية للأسر الإماراتية، في الورقاء وعوافي وخورفكان. وفي هذا السياق، يذكر أن لعوافي حكايات نوعية منها ما يرصده كبار السن عن المنطقة، ومنه ما يحفظه الأطفال.

 عبق

 رصدت رحلة "مسارات"، في مرافقة عائلة أبي جاسم، خطوطاً وملامح مميزة، في خلال خط سير رحلة العائلة في رحلة "طلعة البر". فكانت البداية من من دبي، لنعبر بعدها، عبر محطات عديدة في رحلة برية واقعية، إلى خورفكان ورأس الخيمة، مصورين منحنيات ومشاهد تشكل روحية تشويق الحكاية وهي تنثر عبقها في جنبات الامكنة، على امتداد طريق الرحلة.

 ميزات

يجد المتابع، أن منطقة الورقاء، مليئة، في هذه الأوقات من العام، بالعوائل التي تقضي أوقاتاً خاصة برحلات" طلعات البر"، على امتداد شارعين، من اليمين واليسار، خاصة في ظل الحال المثالية لأوضاع الطقس . كما تتميز المنطقة بتجمع الشباب مرتادي سيارات الدفع الرباعي، بشكل غالب من نوع "نيسان"و "تيويوتا" ، إذ يتبارون في مغامرات الصعود والنزول بالسيارة على التلال الرملية، وتجد بينهم في تلك الأجواء، من يعتزم خوض سباقات رملية.

Email