مواقف وصور من الزمن الجميل..

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أُشهرت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، بموجب المرسوم رقم (4) لسنة 1994، وفتحت المؤسسة مكاتبها في دبي، في بناية تقع في شارع الرقة، من أملاك سلطان العويس. وكتبنا عن الإشكالات والمبادرات التي صاحبت هذا الحدث، في وقت سابق. وبعد سنوات ليست طويلة، قرر الراحل سلطان العويس، بناء مقر للمؤسسة، يكون بمثابة مركز ثقافي، واختار شارع الرقة نفسه، وسط مدينة دبي. وبدأت أقسام المبنى تظهر على الخرائط التي كنت أتابعها مع معالي عبد الرحمن العويس، ومن ثم كان يقدمها إلى مجلس الأمناء، وذلك كجزء من خطوات وآليات العمل المستقبلي للمؤسسة.

 برزت طموحات عديدة حول مشروع مؤسسة العويس الثقافية، حينذاك، إلا أن الخرائط الخاصة بتشييد ومراحل بناء مركزها في شارع الرقة، كانت ترسم بواقعية، وتتجسد طبقا لطبيعة الحاجة الفعلية، لتتلاءم مع رؤى وغايات تحقيق بعض الطموحات والأهداف المرسومة.

 خطة ومناقشات وعقبات

بقيت برامج التخطيط والمتابعة، الخاصة بتصور ماهية التفكير في المؤسسة، تركز على الوصول إلى مشروع مبنى متكامل، يوفر كافة الاحتياجات، ومجهز بالإمكانات جميعها. وبذا كان التفكير منصباً على تخصيص قاعة كبيرة ضمنه، تؤدي الغرض لحاجات متنوعة، في صلب الأنشطة الفكرية والفنية، المستقبلية.

وتحددت التصورات في هذا الخصوص، في مساق بارز، جوهره أن تكلف المؤسسة أحد النحاتين لإبداع نموذج فني( تماثيل فضية)، يجسد شخصيات جميع الفائزين بجوائز العويس الثقافية. ودارت محاور الخطة في هذا الصدد، حول ضرورة الاعتناء في أن توضع التماثيل في هذه القاعة، مع بيانات ومعلومات وافية عن الفائز ذاته.

وجاء هذا المقترح، عقب رأي طرح، مفاده، ضرورة العمل على إيجاد صورة فوتوغرافية مكبرة للفائز، إذ كاد هذا الرأي أن يصبح المتبنى، وأن ينظر إليه بأهمية، لولا اعتبار بارز تسيد الموقف، مؤداه أن الصورة الفوتوغرافية لا تحمل بعداً فنياً، يضاهي أو يوازي، مستوى التمثال.

 تساؤلات في محلها

ذات مساء كنا في مجلس سلطان العويس. فسأل أبو علي: « ما الذي وصلتم إليه بالنسبة للمعرض الدائم للفائزين في المؤسسة؟».

وحين شرحنا له فكرة تكليف نحاتين لإنجاز تماثيل نصفية، تجسد شخصيات الفائزين، صمت أبو علي .. ثم برزت ابتسامته العريضة.. وأردف :

«هل فكرتكم بشكل جدي في أبعاد هذا المشروع، وفي ما يمكن أن يحدث في حالة وضعنا عشرات التماثيل، في قاعة يزورها الناس كل يوم، وتتكاثر فيها التماثيل في كل عام، بالتوازي مع عدد الفائزين، والذين سيستمر بالازدياد؟».

لم يعلق أحد منا على رأي أبو علي، وهنا أكمل :

«ماذا لو جاء أحد هؤلاء المتطرفين من جماعة أو أنصار ابن لادن، وكذا من جماعات متطرفة أخرى، فكسر جميع التماثيل التي في المعرض، وذلك بدافع ومحفز اتهام المؤسسة بوضع الأصنام، وإعادة الناس إلى عصر الأوثان؟».

 حل مثالي

إن تلك الاعتبارات والآراء التي طرحها سلطان العويس، كانت كفيلة بتغيير وجهة النظر القاضية بتبني مقترح وضع تماثيل نصفية للفائزين، ضمن قاعة مؤسسة العويس الثقافية، وعليه شرعت تتفرع وتتنوع، مساقات الطرح والاقتراح. وكنا في هذا الخضم، منهمكين في البحث عن إجابة وحل لقضية غدت جوهرية:

ما العمل حيال هذه النقطة، خاصة وأن القاعة ظهرت مرسومة على الخرائط بوضوح؟ وكان أبو علي مبادراً في هذا الخصوص، إذ قال: «نستطيع أن نتحايل قليلاً لتحريف هذه الفكرة، فبدلاً من نحت تمثال للفائز، دعونا نرسم صورته بريشة فنان جيد، ومن ثم علقوا اللوحة في المعرض الدائم، وبذلك نكسب اسم الفنان، ونكسب صوراً فنية، ملونة وجيدة للفائزين، تتراكم بتراكم ونماء أعداد الفائزين في الدورات اللاحقة لجوائز المؤسسة».

 فكرة وجدوى

تلقف المعنيون بمشروع المؤسسة، آنذاك، تلك الفكرة بحماس كبير، وطفقوا العمل على ترتيب الإجراءات والمتطلبات التي يحتاجها تنفيذه. وبذا انطلقت أعمال واستعدادات الإعداد للمعرض الدائم ( الذي سيحوي اللوحات الفنية للفائزين)، بشكل علمي ودقيق وسهل.

وبناء عليه، كلفت المؤسسة، مجموعة من الفنانين المعروفين، من العراق ومصر والهند وسوريا والبحرين، بتولي المهام في هذا الصدد. وكانت النتيجة نوعية.

إذ يتضح برهان جودة وتميز ذاك المعرض، بجلاء، في الوقت الحالي، كما سابقاً، فبمقدور الزائر للمؤسسة أن يتمتع بأجواء ومشاهدات فنية، بديعة، في رحاب المعرض الدائم ضمن المؤسسة. وذلك بعد أن بلغ عدد اللوحات، حوالي 73 لوحة، وهي تمثل ثروة حقيقية، كما أنها غدت بمثابة موئل ووجهة، مفضلين، بالنسبة لكافة زوار المؤسسة.

 .. حلم يتحقق

لا بد، ونحن نستذكر المواقف والأحداث، وكذا المجريات التي اعتملت في كواليس إنشاء مقر المؤسسة، وبشكل محدد في ما يخص مشروع اللوحات الفنية في المعرض الدائم، للفائزين بجوائز العويس، ذلك عوضا عن التماثيل النصفية، لا بد لنا من الإشارة إلى أن صاحب هذه الفكرة الناجحة، المرحوم سلطان العويس، كان فعلاً، مثقفاً مسؤولاً، مرهف الحس، وأميناً في مضمون جهوده الموظفة لخدمة الثقافة والمثقفين. وبذا كان لا يعدم التوفيق في أي مقترح في الحقل، بفضل بعد نظره، ورأيه الراجح.

ومن المؤسف حقاً، أن سلطان العويس لم يستطع عملياً، تجسيد وترجمة جميع ما فكر به خلال حياته، بشأن الكثير من الأمور الدقيقة التي كان يحلم بها، لتشكل بؤر إذكاء وتعزيز جوهريين، لمسار أعمال المؤسسة التي كان يحلم بها، فالقدر لم يمهله ليرى بنفسه حلمه الذي تحقق.

 تواضع وتسامح.. ومواقف

طالما عرفت الإمارات بتواضع أهلها، وكذا سماحتهم. علاوة على رحابة صدرهم، وترحيبهم بالضيف، لذا كانت المنطقة، جاذبة ومفضلة كخيار رئيس مباشر لدى الكثيرين. وذلك طبعاً، بغض النظر عن ما تحققه إقامة الإنسان فيها، من مكاسب أخرى( مادية وثقافية واجتماعية)، لا تتوفر في مكان آخر.

أجدني سعيداً ومحظوظاً كثيراً، كوني عشت وخبرت زمناً لم نعد نجد أو نرى أهله معنا اليوم. ولكن هؤلاء، لن تغيبهم أو تتجاوزهم الذاكرة، أبداً، مهما حدث، فما أزال أستذكر بحنين فريد وشغف لا ينقص، المواقف الجميلة لهم، التي لا تنم إلا أن عن أخلاق رفيعة وتواضع كبير، مؤكد أنهما عززا وزينا أعمالهم ومستوياتهم المجتمعية في مراكزهم الحساسة، وكذا في حقيقة انتمائهم العائلي السامي.

 تجربة فريدة

لا جدال في أنني كنت وفير الحظ لعملي مع الشيخ أحمد بن محمد القاسمي في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، في بداية الثمانينات من القرن الماضي. فمن تلك المرحلة، ومع روعة وهج العطاء خلالها، كانت نقطة الانطلاق لفعاليات أيام الشارقة المسرحية، إلى جانب أنشطة فكرية وفنية عديدة، سجل لها التاريخ، ويبقى، الريادة المزهوة بطعم النجاح المتجدد.

كان مجال عملي، في تلك الفترة، في مسرح الشارقة الوطني، في مقره القديم.

وفي الصباح كنا، أنا ومريم سلطان وسيف الغانم، نوثق ما نحصل عليه من قصاصات الجرائد، الخاصة بالبرامج والأعمال المسرحية. وفي المساء نبدأ البروفات أو نشاطات وأعمالاً أخرى، وذلك بحضور يومي للشيخ أحمد بن محمد القاسمي. وكان لي شرف تفضيله الجلوس في مكتبي، على الدوام، في أثناء برامج عملنا تلك.. وفي خضم هذه الأجواء، كثيراً ما استمرت جلساتنا، في أحاديثها الشائقة وحواراتها النافعة، حتى منتصف الليل.

 رجل فكر وعمل

صحيح أن الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، كان، آنئذ، رئيساً فخرياً للمسرح، إلا أنه، أثبت عملياً، مدى تفانيه الكبير في العمل، خارج إطار أي طابع بروتوكولي، فطالما حرص على أن يبقى أكثر فعالية وإنتاجية وعطاء، بأشواط بعيدة تميزه عن الأعضاء العاملين.

وما عرفته، في تلك الفترة، وطوال عملنا سوياً، إلا جريئاً في قراره.. يعلم متى وأين وكيف يأخذه. كما انه بدا، على الدوام، هادئاً باسماً، وصارماً، في الوقت نفسه. وكذلك برز كرئيس ومدير مجد لا يتنازل عن موقفه إن أدرك صحته.. ولم يتوقف إعجابي به، آنئذ، أيضاً، لما يتحلى به من صفات عملية جوهرية، في مقدمها تركزه كدينمو محرك ومحفز لمساقات العمل.. إذ لم يتوان مرة، عن توفير مناخات دفع وتشجيع إمكانات العاملين، وجعلهم يقدمون أقصى طاقات لديهم .

ولم أجده في هذا الصدد، مترفعاً عن متابعة بروفات الأعمال المسرحية، فطالما كان مهجوساً بكافة دقائق النشاط المسرحي، وعليه، كان في مقدمة الحضور لمعظم البروفات التي نجريها، رافضاً، في الوقت عينه، التدخل في مضمون أعمالنا، وأشكالها، إلا إذا وجد خللاً أو اعوجاجاً.

وكثيراً ما لفتني تميز مستوى ثقافة الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، إذ شدتني معرفته الموسوعية، واستمتعت بجلساتي معه، لما يتملكه من مهارات تشويق في فن الحوار، ولكونه، أيضاً، مستمعاً جيداً.

وأذكر حادثة تنم في جوهرها، عن تواضع هذا الرجل، والذي أكن له حباً شديداً واحتراماً يليق بشخصيته. إذ كنا نحضر إلى المسرح في قاعة إفريقيا، لنتابع فعاليات العرض المسرحي الذي سيقدم في اليوم التالي.

وكانت القاعة، في ذاك الزمن، معروفة بفقر تجهيزاتها الفنية والتقنية، حيث كان يتطلب منا الأمر، تركيب «بورجكترات» إضاءة، يدوية، وأيضاً» ديمير» مزود بعشرة خطوط فقط. وكنا نوفر ونسهل عملية الإضاءة بالممكن المتوفر، وبقينا نؤمنها عن طريق ربط الأسلاك بخطوط الكهرباء الرئيسية، ولم يك هناك متسع من الوقت، لإتمام جميع هذه الأعمال، لا بل حتى معظمها.

ولذا، لم نأل جهداً، باستمرار، في المشاركة بأعباء واحتياجات العمل مهما كانت، لنستطيع التغلب على عقبات التجهيز والتحضير النوعي لخشبة المسرح.. ومن هذا المنطلق، لم أدخر أي طاقة، يوماً، لأكون في مقدمة المنخرطين بالترتيبات العملية.. وهكذا، كنت، مرة، متسلقاً سلماً متحركاً ومرتفعاً، ضمن « إفريقيا»، يصل الأجزاء العلوية في سقف القاعة.

وذلك بينما أنا أربط « بوجكترات» عديدة، واحدا تلو الآخر. وحينها، كان فرّاش المسرح: ميناك لال، واقفاً خلفي، في أسفل ذلك السلم المعدني الخطير، والساعة آنها تؤشر إلى الثالثة فجراً، وفي خضم العمل، وأثناء استلامي البروجكتر، لمحت وبينما كنت أظن أنني أتسلم تلك القطعة من لال، معالم لباس شخص آخر، هو من يسلمني إياها..

وعقب أن ربطت البروجكتر على القضيب الحديدي، التفت فوراً، فأمعنت النظر إلى ذاك الشخص، وإذا به الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، نفسه. وعندها، تأسفت كثيراً، وناديت لال معترضاً، إلا أن الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، أصر على أن يساعدني شخصياً، في تلك المرة، مختاراً أن يمدني بما أحتاجه من معونة، ذلك حتى عودة لال، والذي كان قد ذهب لقضاء مهمة ما.

دلالة عميقة

إنها حقيقة، حادثة بسيطة، لكنها ذات دلالة عميقة، تعبر عن غنى وتميز شخصية مسؤول ملتزم وجاد، مثل الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، الذي كان يظل مع العاملين في حقل الثقافة والفن، ليشاركهم عناءهم وهواجسهم.

ويرفض إلا أن يختار التعاطي والتعامل، بتواضع ومحبة، وذلك إلى درجة أن يقبل لنفسه، نقل وتحريك الأجهزة والمعدات، أحياناً، للمساعدة في تركيبها. وهذا بينما بمقدوره، كرئيس للعمل آنذاك، أن لا يحضر أي من البروفات أو التحضيرات، ليجد العرض متكاملاً في اليوم الثاني.. ولكن مثله لا أظن أنه يبادر إلى مثل هذه التصرفات، إلا لكونه لا يحب الطابع البوتوكولي والاستعراضي، بل يفضل الجوهر في خلاصات العمل.

ولذا، فما يحركه مستقر في أعماق روح متواضعة تحب الخير وتعشق التكاتف والتعاون، لا بل تأبى إلا أن تكون في ميدان العمل، أمام جميع الكوادر.

وطبعاً هذا لم يك ليجعله يقصر في أي من المهام والمسؤوليات الأخرى، فطالما بقي جاداً ومجداً في التصدي لأي من المشكلات، والمسارعة إلى حل المعضلات كافة.

أذكر هنا، أن الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، كان يحرص، باستمرار، على أن يقود سيارته الشخصية، بنفسه. وطالما اندفع إلى جعلها متاحة لي في المرات والأوقات التي كنت أعمل خلالها، ضمن مسارح خورفكان أو كلباء.

وكان في تلك الحالات، يصر على أن لا أقود سيارتي، مختاراً أن يصحبني بسيارته إلى تلك المناطق، ومن ثم كان ينتظرني كي أنتهي. ومن ثم نعود إلى الشارقة، وكثيراً ما كان ذلك يطول حتى وقت متأخر، وعلى الدوام، يكون هذا إلى حين منتصف الليل .

إن هذه الصورة، وتلك الحالات والمواقف الرائعة، وقعت وتكررت، معي ومع مخرجين آخرين غيري.. فطوبا لذلك الزمن الجميل.

 ماذا لو ؟

 ذات مساء كنا في مجلس سلطان العويس. فسأل أبو علي: « ما الذي وصلتم إليه بالنسبة للمعرض الدائم للفائزين في المؤسسة؟». وحين شرحنا له فكرة تكليف نحاتين لإنجاز تماثيل نصفية، تجسد شخصيات الفائزين، صمت أبو علي .. ثم برزت ابتسامته العريضة.. وأردف : «هل فكرتكم بشكل جدي في أبعاد هذا المشروع، وفي ما يمكن أن يحدث في حالة وضعنا عشرات التماثيل.

في قاعة يزورها الناس كل يوم، وتتكاثر فيها التماثيل في كل عام.. ماذا لو جاء أحد هؤلاء المتطرفين من جماعة أو أنصار ابن لادن.. فكسر جميع التماثيل التي في المعرض، وذلك بدافع ومحفز اتهام المؤسسة بوضع الأصنام، وإعادة الناس إلى عصر الأوثان؟».

 نموذج فريد

لا جدال في أنني كنت وفير الحظ لعملي مع الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. فمن تلك المرحلة، ومع روعة وهج العطاء خلالها، كانت نقطة الانطلاق لفعاليات أيام الشارقة المسرحية، إلى جانب أنشطة فكرية وفنية عديدة، سجل لها التاريخ، ويبقى، الريادة المزهوة بطعم النجاح المتجدد. كما أنني سعدت بالعمل مع رجل متواضع وجدي ومتفان، لم أجده يدخر أي جهد أو عطاء، في سبيل نجاح العمل.

Email