رسامو مونمارتر.. فنون العالم على أرصــفة باريس القديمة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يشتهر حي مونمارتر، في أعالي العاصمة الفرنسية باريس، بأزقته الضيقة التي تشكل فسيفساء جميلة في تصاعدها وتنازلها، تجعلك تلمحها من بعيد. كما تزيد لوحة جمالياته، سحراً، بيوته الصغيرة والملونة التي تعكس جاذبية خاصة. ليبدو بهذا، وكأنه صورة بديعة، تفنن رسام بمداعبة الألوان عبرها.. ولا تقف ملامح تشويق الحكاية لهذا الحي، هنا، إذ طالما عرف بفنانيه الذين تغنوا عبر العالم، بالروح العذبة التي تسكن المكان منذ سنوات، ما جعل داليدا وبيكاسو وفان كوخ، يعيشون ويموتون فيه.

 لا تنفصل أو تبعد عن روعة هذه الكينونة، حالياً، مناظر رساميه المبعثرين في أرجاء ساحة "تارتر"، التي صارت تسمى، نسبة لهم، "ساحة الفنانين والرسامين"، حيث تجدهم يستوقفون السياح الذين يمرون منها، ليجسدون في لحظات، ابتسامات ووجوه هؤلاء الزوار، على ورقهم المقوى، مقابل بعض اليوروهات.

يبلغ عدد رسامي حي مونمارتر، نحو 300 رسام، يتقاسمون ساحة "تارتر" ضمنه، وبعضهم يسكن المكان منذ زمن ليس بالبعيد، بينما الآخر ألفه منذ سنوات، وفيه يستلهمون أفكارهم. ومن زواره يصنعون شخصيات لوحاتهم.

 من هنا مر بيكاسو

أوجد هؤلاء، بفعل استقرارهم ذاك، وبفضل مهارتهم وطقوس إبداعهم، صيت الساحة تلك، في فرنسا وخارجها، منذ القرن التاسع عشر، حتى صارت تسمى نسبة لهم "ساحة الفنانين والرسامين". وفيها مر بيكاسو، ومن قبله فان كوخ، ومن بعدهما كثيرون.

دوافع وطبيعة ظروف الفنانين في ساحة (تارتر)، فبعضهم جاءت به الحاجة لكسب القوت، والكثير الآخر دفعته الرغبة لإشباع موهبة الفن بداخله، إلى التوجه نحو هذا المكان. كما يلاحظ الزائر، ان الوجوه واللغات والبلدان، لكل من الفنانين فيها، تتمايز وتتنوع، ذلك طبقا للبلدان التي جاءوا منها. ولكن جميعهم يتكلم لغة الريشة والألوان.

وفي السنوات الأخيرة صار الفنانون العرب، وجها من وجوه هذه الساحة، فهم عشرات قدموا من المشرق وشمال أفريقيا، وأتقنوا أساليب وحرفة جذب السياح نحو لوحاتهم، التي تحمل لمسات مشرقية، تنبعث منها رؤية عربية للأشياء والموضوعات.

عائلة مفقودة في الغربة

"سليم" واحد من هؤلاء الفنانين، وهو فرنسي من أصل مغربي. يمثل الرسم كل شيء بالنسبة إليه، كما يقول، وكان قد درس وامتهن مجالات وعلوم عديدة، من المحاسبة إلى القانون مرورا بالكيمياء والرياضيات، ليستقر في الأخير، وهو في الخمسين من عمره، على خيار الجلوس على كرسي من الخشب، في زقاق من الساحة، ومعه بعض الورق المقوى وأقلام الرصاص، وبطاقة تحمل رقم 325 منحت له من قبل بلدية باريس، ومتسلحا بكثير من الموهبة التي يكتسب منها قوته، منذ ثلاثين سنة.

وتجد سليم، يتحدث بشغف وحميمية، عن أقلام الرصاص التي ظلت رفيقه "الوحيد والمخلص"، طيلة عقود، ولا يفتر حماسه وهو يصف قوة تأثير وحضور ساحة الرسامين في حياته، والتي جاءها يبحث عن دفء أسرة تحتضنه في غربة أفقدته كل شيء، وفيها يكسب الكثير من المال بفضل المبالغ التي يتلقاها من الخليجيين لقاء رسوماته. ولكنه يوضح أنه هجرها فجأة، حتى لا يظل حبيسها.

ويضيف: "منذ سنيّ المبكرة، كنت أعبر عن ما يختلج في دواخلي بأقلام الرصاص، التي كانت دوماً ترضخ لأناملي، وتتركني أداعبها لأجسد شخصياتي على أوراقي البيضاء.. إن رحلتي إلى الحج كانت منعطفا مهما في حياتي الشخصية والفنية، وكنت دوما أعشق كل ما هو روحاني، ورؤية الكعبة الشريفة شامخة بلباسها الأسود المذهب، تملكتني طيلة سنوات، فجعلتها حاضرة في كل رسوماتي وجعلتني أتخصص في (الرسم المقدس) الذي أكسبني الكثير من المال، خاصة وسط الخليجيين الذين كانوا يجيئون خصيصا إلى باريس، لاقتناء لوحاتي، مقابل 1500 يورو أحيانا.

. تلك سنوات أحسست بعدها وكأنني استغل هذا الشيء المقدس والروحاني لكسب المال، لذلك قررت تركه لأتخصص في الرسوم الكاريكاتورية، والتي لا علاقة لها بالدين، إذ تعطي رؤية نقدية للأحداث والشخصيات، بالأبيض والأسود".

ويتابع : "جلت العديد من المدن الفرنسية، وكأنني كنت أبحث عن ذاتي وعائلة تحتضنني في الغربة، فوجدت نفسي صدفة، في ساحة الفنانين، في العام 1982، إذ كنت أزورها برفقة صديقة فرنسية، كانت تقطن بباريس. وأعجبني ذلك المزيج الفني الذي ينبعث منها، فالساحة كانت قبل الثورة الفرنسية مكاناً للعبادة، بدليل الكنائس الكثيرة التي تحيط بها، ففيها أهم كنيسة في فرنسا، وهي كنيسة (ساكري كور)، وفي هذه الساحة وجدت كل شيء: عائلة احتضنتني، مكسبا يضمن قوتي، ذلك الهدوء الذي يحتاجه كل فنان لكي يستلهم أفكاره. ولذلك لم أخذلها وبقيت وفيا لها، منذ ذلك الحين".

 باريس في عيون مشرقية

حط نبيل الحماد، الفنان السوري، رحاله في مونمارتر منذ 12 عاما، ويمثل الرسم بالنسبة إليه، طبقا لما يذكر، موهبة ورثها من والده الذي كان يشتغل محاضرا في الفن التشكيلي في سوريا. وكان الحماد قد جاء فرنسا قادما من تركيا، التي قصدها باحثا عن مستقبل أفضل من ذلك الذي تركه وراءه في أقدم عاصمة في التاريخ: دمشق.

ويقول في هذا الخصوص:" كنت أسمع، بينما أجول في البلدان المختلفة، خارج بلدي سوريا، عن مونمارتر، بأنها ساحة في أعالي العاصمة باريس، يلتقي فيها الفنانون والأدباء والرسامون.. وصدفة، وجدت نفسي فيها. إن الحياة لصدفة جميلة حقا، فها انا في المكان الذي مر منه كبار الفنانين، كبيكاسو وفان كوخ، ولا يزالون يمرون، حتى اليوم، فهي مدرسة عالمية مفتوحة على الجميع، تنسجم فيها الأجناس وتمتزج فيها اللغات".

بألوان ساخنة ترمز الى البيئة العربية التي جاء منها، يرسم "الحماد" عاصمة الأنوار باريس، وبعض أحيائها بنظرة مشرقية، كبرج إيفل، أو كما يطلق عليه "سيدة الحديد"، والتي جاءت في لوحاته بألوان ساخنة، عدلت طقس فرنسا البارد أو جادة الشانزلزيه التي حملت عماراتها لمسة مشرقية، كبيت من بيوت دمشق القديمة.

وعن كل هذا يقول الحماد: "صدى الشرق الذي جئت منه، ينبعث من أعمالي، فرغم كل التنوع في الفنون والأشكال التي وجدتها في ساحة الفنانين بمونمارتر، إلا أنني عرفت كيف أحتفظ بلمستي المشرقية ونظرتي العربية للأشياء، وهذا ما يجعل الكثير من الزوار والسياح يلتفتون نحو أعمالي، وكأنهم يجيئون ليبحثوا عن شيء يفتقدونه عند غيري من الفنانين الأوروبيين".

 معالم وقصص

يرسم الفرنسي أندرياس، وهو أحد أبناء الحي العتيق، في الساحة، منذ نحو 12 سنة، وهو متخصص في رسم بورتريهات الأشخاص والأماكن، وكان قد شهد تحولات ساحة الرسامين على مدار سنوات، ولكنه يؤكد على تلك "الروح الفريدة، التي تسكن المكان وتجعل الشخص يتعلق به، من اللحظة الأولى لزيارته". ويتابع:" إنه مكان لا بد من المرور منه، عند حط الرحال في باريس، فيوميا، يجيء إليه السياح بالمئات، من مناطق بعيدة، وكل واحد منهم يقول لنا بأنه سمع الحديث أو قرأ عن مومارتر وساحة الفنانين".

ويحكي عن الذين يقاسمونه الساحة والموهبة : "عدد كبير من الرسامين هم فرنسيون جاءوا من مدن فرنسية مختلفة، ولكن عدد آخر لا يستهان به كذلك، يمثل رسامين جاءوا من بلدان أجنبية، وجدوا في مونمارتر ورشة عمل ينمون فيها موهبتهم. وكذلك بيئة يسوقون فيها أعمالهم بجميع العملات". وعن موضوعات رسوماته، يبين أنها تجسد معالم باريس السياحية ومواقعها الأثرية، من برج إيفل إلى قوس النصر، مرورا بجسر ألكسندر الثالث وساحة الأنفليد.

 ترخيص

 قررت السلطات الفرنسية في عام 1990، محاربة العمل غير الشرعي، وفرض بطاقة مهنية سنوية على الرسامين الذين يرغبون العمل في الساحة ( 1 متر مربع للشخص الواحد)، تمنح من قبل بلدية باريس، وفقا لملف يتقدم به الرسام، يشرح فيه سيرته الذاتية ومؤهلاته.

ويبقى مونمارتر، بساحة رساميه وكنيسته ومقاهيه ومتاحفه الصغيرة، من الأماكن العشرة الأولى، الأكثر زيارة في فرنسا.

Email