الفن يغرد في حفظ الهوية الثقافية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أصبح عدد كبير من مزاولي الفنون التشكيليّة (الرسم والتصوير، النحت، الحفر المطبوع)، إضافة إلى السينما والدراما التلفزيونيّة والموسيقى وغيرها من أجناس اللغات التعبيريّة التقليديّة والمعاصرة، يولي موضوع «التراث»، بأشكاله وصيغه المختلفة، اهتماماً ملحوظاً، لاسيما خلال العقود الثلاثة الماضية. إذ انكب مبدعون كثر، على البحث والتنقيب حول أبرز مظاهره ورموزه، لتوظيفها في منجزاتهم الفنيّة (خاصة البصريّة)، مدفوعين بجملة من الهواجس والمحرضات.

 

معايير وأسباب متنوعة، غدت تغذي مسار تركيز الإبداع الفني التشكيلي، في عكسه موضوعات التراث، والنهل من مضمونه. ومن بينها: استعار السجال حول أهمية التراث وضرورة تضمينه الأعمال الفنيّة المعاصرة، الشغف الشديد الذي أبداه المتلقي العربي والغربي بالجماليات التي يكتنزها التراث. ونتبين في هذا الصدد، أشكال ونماذج تجارب فريدة، متنوعة، في دول عربية كثيرة، ومن أبرزها، تجربة مجموعة من الفنانين الاماراتيين، ومنهم: نجاة مكي، عبد الرحيم سالم. وبرز اعتناء الاخير في عكس قصة أسطورة خرافة شعبية قديمة، في موضوعات لوحات متعددة أبدعها.

 

ظاهرة تتكرس

وفي الجهة المقابلة، يتعرض التراث الى هجمة شرسة من قبل المعولمين، تهدف إلى تفتيته وإلغائه، تهيئةً وتوطئةً لتمرير الأنموذج الأممي الواحد، على شعوب الأرض كافة، لتبدو كجسد مقطوع الرأس، لا يدري من أين جاء، ولا إلى أين يمضي. أي تحويل الناس إلى عجماوات مُدجنة، كماركة واحدة.

إذ أخذت ظاهرة توجه الفنان التشكيلي العربي المعاصر، نحو استخدام مفردات تراثيّة في منجزه الفني، تزداد وتتكرس، مُشكّلةً حالةً لافتة، تتعايش مع غيرها من الاتجاهات، وفي الوقت نفسه، تسعى جاهدة إلى تحقيق مشروعها الخاص، في خلق فن قومي عربي، يغرد خارج سرب الفنون الغربيّة.

ولتحقيق ذلك، يعمد الفنان التشكيلي العربي المعاصر إلى عدة صيغ وخيارات، لعل أبرزها وأهمها (الحروفيّة) التي تتخذ من المعطيات التشكيليّة المطواعة للحرف العربي، متكأً للخروج بمنجز بصري معاصر، يحمل خصائص ونبض المكان الذي جاء منه، وكشوفات وإضافات الزمن الذي ولد فيه. ويُضاف إلى ظاهرة (الحروفيّة)، ظاهرة أخرى مواكبة لها، هي لجوء بعض الفنانـــين التشكيليين إلى استلهام المشغولات والحرف اليدويّة الشعبيّة التراثيّة، وذلك من خلال استعـــارتهم بعض محمولاتها من الزخارف والخطوط والتزويقـــات والكتابات، أو انتخاب المتميز الجميل والمعبّر منها.

وترتيبه ضمن تكوين مدروس ضمن المحترف، ثم القيام بنقله إلى لوحة تراثيّة المضمون والمحتوى، تتحول فيها الخطوط والألوان والعناصر والمفردات، إلى وليمة بصريّة ساحرة في شكلها ودلالاتها، تحتضن موضوعاً تراثيّاً أنيساً ومحبباً وثرياً. وتتكاثر هذه الأيام، الأبصار والبصائر العربيّة الباحثة عن هذه الوليمة البصريّة، نتيجة فقر الواقع الذي تعيش فيه بمثل هذه الولائم، وبؤسه، ما حوّل الأعمال الفنيـــّة المعجونــــة بروح التراث، إلى إحدى أبـــرز وسائــــل استعـــادة الإنســـان العربي لملامـــح الزمن الجميل الذي عاشه الأجداد والآبـــاء، والبعض الباقي على قيد الحياة، من مواليد العقــــود الأولى والوسطـــى للقرن الماضي.

 

توجه جديد

يعنى الانسان المعاصر في عالمنا العربي، حاليا، نتيجة للتعقيدات والهموم والمشكلات والحصارات التي تعصف بواقعه، في البحث، وبشغف شديد، عن كل ما يمكن أن يوفر أنماط حفاظ على الموروث الثقافي. ومن جهة أخرى، بعضهم أخذ يعتمده كونه يذهب به بعيداً عن هذا الواقع الضاغط، وبالتالي عن كل ما يُقرّبه من الزمن الجميل المنسحب تدريجياً من هذا الواقع، سواء كانت لوحة فنيّة، أو منحوتة، أو محفورة مطبوعة، أو صورة ضوئيّة أو فيلماً، أو مسلسلاً إذاعياً، أو تلفزيونياً، أو أغنية، أو مشغولات تنتمي إلى هذا الزمن البعيد والقريب الذي لم يعد الرحيل صوبه، بهذا الشكل أو ذاك، مقتصراً على من عاش جانباً منه، وإنما طاول الجيل الشاب الذي يعاني من حيرة الانتماء.

وفقدان البوصلة. كل هذا دفع عددا من الفنانين التشكيلييـــن العرب المعاصرين، الى البحث عن الجماليات المترفة التي احتضنتهـــا الفنـــون والمشغـــولات القادمة من أزمنة وأحقاب تاريخيّة مختلفة، ومن ثم إعادة طرحها في منجزاتهم الفنيّة، مدفوعين بهاجسين اثنين: تناغمهم وإعجابهم وارتياحهم الشخصي لهذه الجماليات، الإقبال الشديد الذي لمسوه لدى المتلقي العربي- على هذه الجماليات المُجسدة في جنس من أجناس الفن التشكيلي، أو على المشغولة اليدويّة الشعبيّة، ومن ثم نقل هذا الأثر الفني إلى بيته. أي أن الفنان، توجه إلى هذا النوع من الفن، بتأثير من الحالة التسويقية النشطة التي طاولته، وتسويق العمل الفني.

وبات ينظر إليها كقضية مهمة بالنسبة لله، خاصة عندما يكون يعتاش من فنه. وهكذا بدأت ظاهرة استلهام التراث (بأطيافه المختلفة) في الأعمال الفنيّة المعاصرة، تتنامى، لامةً حولها المزيد من الفنانين الذين ظلوا إلى حين، منشغلين بقضايا وأمور أخرى لا تمت إلى التراث بصلة. والعديد منهم، انخرط في هذا التوجه من دون قناعة، وإنما تماشياً مع الرائج والمطلوب في السوق المحلية والعربية. وهذا ما أدى إلى تفاوت كبير في سويّة الأعمال الفنيّة التي اتخذت من التراث مادة لها.

لاسيما تلك التي اتخذت من جماليات عمارة البيت الشعبي العربي ومحتوياته، مادتها الرئيسة، إضافة إلى الحياة الشعبيّة نفسها التي كانت ولا تزال الحاضن الحقيقي للتراث الحي، فهي رحمه الحنون الذي يتوالد فيه ويستمر، تارة في الإنسان الشعبي نفسه (في عاداته، وتقاليده، وتفكيره، وسلوكه). وتارةً أخرى، في عمارته، ومشغولاته اليدويّة، وحِرفه التقليديّة، وما تحمل من محسّنات جماليّة تعكس نظرته الفلسفيّة للحياة، وتُمثل في الوقت نفسه، رداً طبيعياً على محيطه الطبيعي والاجتماعي، الأمر الذي جعل حاجاته الماديّة والروحيّة تتشابك وتتماهى، إلى حدٍ بعيد.

هذا التراث الحي المستمر في الإنسان الشعبي وبيته ومحتويات هذا البيت، هو ما يشتغل عليه الفنان التشكيلي العربي المعاصر، باحثاً ومنقباً فيه عن العناصر والمفردات القادرة على أن تسعفه في الخروج بمنجـــزٍ بصـــري جديد، يجمع بين الأصالة والحداثة، وبين التراث والمعاصرة، مدفوعاً برغبـــة داخليّة عارمة، للانعتـــاق والتملـــص من التبعيّـــة العميـــاء للقرين الفني الغربي، الذي دأب على استنساخه، والنسج على منواله، منذ استعاد تواصله مع هذه الفنون، أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.

 

تجارب إماراتية فريدة

ونجد الفنان سالم، حريصا، على الاستلهام والاستقاء، من مخزون التراث وقصصه، ليحول مكنونها، إبداعات تشكيلية، تحاكي المعاصرة، وتجسد موضوعات تراثية. وهو طالما تحدث عن ماهية رؤاه في هذا الصدد، لافتا إلى اعتنائه، خاصة، بالتركيز على الموضوعات التي تخدم قضايا المرأة. ويقول الفنان الاماراتي، في هذا الصدد، في تصريح له لصحيفة "البيان"، شارحا طبيعة رؤاه وتوجهاته: " سألني أحد الأشخاص: من أين تأتي بهذه الموديلات المختلفة، ويقصد موديلات المرأة التي أرسمها في لوحاتي، فأجبته: هذه الموديلات جاءت من خيالي..

وهي مستوحاة من المرأة (العاشقة) في الذاكرة الإماراتية، وهو بذلك، يرسم الجسد الغائب، الوهمي، الجميل، الموجود في اللاوعي، وليس في الواقع لأن الواقع يضفي الكثير من التشوهات على جسد المرأة، بينما نراه صافياً، نقياً، منحوتاً، ومتراقصاً في رؤية الفنان ولوحاته. ولا توجد لوحة تشبه أخرى، بل كل واحدة منها قائمة بحد ذاتها، تعبر عن عوالمها الداخلية، وتعكس عالم الفنان. وهي بالألوان الساخنة والباردة، واللوحات المرسومة بالأسود والأبيض".

ويسبر عبد الرحيم سالم، من خلال لوحاته التراثية، التي تعكس قصة مهيرة، أغوار المرأة من خلال علاقتها بالحياة والحركة والرقص والرؤية، إذ يمزج بين الطبيعة والتراث في رؤية المرأة، فهي: منزوية، خجولة، متطلعة، جريئة ومتحضرة وواعية، في آن واحد. ولم تخرج هذه المرأة من الفراغ، بل من معايشته وفهمه لها عبر حياته. وهي تفتح رؤى فنية جديدة للفنان. فالمرأة هنا رمز، يقوم على التجريد، والتعبير في آن واحد. ويوضح ماهية خطه في هذا الخصوص:

"أسعى إلى التعبير عن المرأة بطريقة غنية، تجسد اللحظة: مثلاً وهي جالسة في مكان أو واقفة أو وهي راقصة، ورسمتها في البداية بشكل واقعي، ثم حولتها إلى رمز، واليوم أعيد تجسيدها ولكن من خلال إخفاء الملامح". وأما بالنسبة للفنانة نجاة مكي، فتتميز تجربتها في هذا الشأن، بأنها استثمرت عوالم اللوحة، لتجسد قيم المكان، وتحكي عن مفردات البيئة المحلية. فصورت المرأة والصحراء والبحر، ولكن بطرق متنوعة. وهي تجه في بعض لوحاتها، إلى استحضار المرأة بلباسها التراثي، ومثالها في تطريزات التلي.

ونتبين أنه، حين حادت في مجمل أعمالها، عن موضوع المرأة، اقتربت من ثنائية البحر والصحراء، أي ما يميز البيئة المحلية. وقالت عن إحدى اللوحات الدائرية التجريدية، في تصريح ل" البيان": إنها حركة أسراب السمك في القاع. . وبالنسبة لسر طغيان الأزرق في لوحات محددة لدي، فالسبب أنه ذات مرة كنت في كوريا، وهناك كانت تلك المسافة بين المحيط والسماء لا تتضح فالألوان متداخلة، فجاءت لوحتي كإسقاط لكل ما شاهدته.

 

صيغ متعددة

أخذت ظاهرة التململ والبحث عن ما يمكن أن يمنح المنجز التشكيلي العربي المعاصر، هُويّة محليّة، جملة أشكال وصيغ . ففي التشكيل السوري (على سبيل المثال) قامت غالبية الرواد المعاصرين بمعالجة الموضوعات التي اشتغل عليها الفنان التشكيلي الغربي، ما قاده هؤلاء، ومن دون قصد، إلى هذه الهُويّة المتمثلة باستلهام التاريخ البعيد والقريب للأمة العربيّة، لاسيما محطاته السياسيّة والعلميّة البارزة (معركة حطين والقادسية واليرموك والقدس، ومجالس العلماء والأندلس). أما الفنانون الذين عالجوا مثل هذه الموضوعات في أعمالهم، فهم كثر، ونذكر منهم:

توفيق طارق، سعيد تحسين، عبد الوهاب أبو السعود، خالد معاذ. كما توجه البعض الآخر، نحو الأوابد الأثريّة والتاريخيّة، والحياة الشعبيّة، منهم: صبحي شعيب، محمود جلال، زهير الصبان، ميشيل كرشة، أنور علي الأرناؤوط، ممدوح قشلان، ناظم الجعفري. وحرص الجيل التالي، على البحث في تفصيلات ورموز بارزة في الفنون الشعبيّة العربيّة والإسلاميّة، لاستخدامها مُتكآت في أعمالهم، تشير إلى هذه الهُويّة، كالوحدات الزخرفيّة الهندسيّة والنباتيّة والخط العربي، إضافة إلى الأشكال المشخصة، كما فعل : ناجي عبيد، عبد القادر أرناؤوط، تركي محمود بك، عيد يعقوبي، معد أورفلي.

وهناك فنانون آخرون، اكتفوا باستخدام الحرف العربي عنصراً أساساً في بناء لوحاتهم، وهم الذي عُرفوا بـ (الحروفيين)، ويمثلهم: محمود حمّاد، محمد غنوم، سامي برهان، سعيد نصري، سعيد الطه، محمد الحسن الداغستاني. وهكذا تتالت أجيال الفنانين التشكيليين السوريين الراغبين بالتمايز، عن طريق توظيف عناصر ومفردات تراثيّة في أعمالهم الفنيّة، أو عن طريق رصد الإنسان الشعبي، ضمن حالات حياتيّة يوميّة يعيشها في منزله، أو مكان عمله، أو تصوير عمارته القديمة.

 

القرين الغربي

سكن هاجس توظيف التراث في العمل الفني المعاصر، القليل من الفنانين التشكيليين في العالم العربي، وبشكل واضح التشكيليين السوريين. وأما غالبيتهم، فاكتفت بتلقف ما تفرزه الفنون الغربيّة من اتجاهات ومدارس وأساليب، والنسج على منوالها، ما جعل لكل من الفنانين في هذا الحقل، قريناً فنياً في الغرب، يقلدوه في موضوعاته وتقاناته وأسلوبه وانعطافاته، مع ذلك، ظل التشكيل السوري المعاصر، حتى اليوم، بعيداً عن الاتجاهات المتطرفة في عبثيتها واستعراضاتها البهلوانيّة المُغرقة بذاتية أصحابها.

والتي غالباً ما تأتي تقليداً أعمى، لكل ما هو غير مألوف، رغبةً من ممارسها بإثبات وجود لم يتمكن من إثباته بوساطة وسائل التعبير التقليديّة السائدة والمعروفة، القائمة على تاريخ الفن الطويل، وتراكم معارفه النظرية والتقانية الدائمة الحراك والتطور، ومرد ذلك، وعي الفنان التشكيلي السوري.

والتزامه الذاتي بالفن القادر على أن يخدم قضية وطنيّة أو اجتماعيّة أو جماليّة، والقادر في الوقت نفسه على أن يتواصل مع القطاع العريض من الناس، رغم أن مغريات كثيرة تُقدم لهذا الفنان من جهات محليّة وعربيّة وعالميّة، للانزلاق إلى فنون الحداثة المتطرفة الهادفة إلى تحويل الفن مجرد استعراض وتهريج، عبر لافتات ومقولات مُضلِلَة، تسهم فيها جهات وطنيّة وعربيّة وعالميّة، تعمل جميعها ضمن جوقة المعولمين الهادفين إلى تدمير قيم الفن الرفيعة، وجمالياته الخالدة، لصالح بشاعة منفّرة، تزيد يأس الإنسان المعاصر يأساً، وحصاراته حصاراً، بدل أن تساهم بخلخلتها وتقديم أسباب جديدة له للحياة وحب الحياة.

Email