الناعورة خادمة جميلة لا تتعب أو تتقاضى أجراً

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تعد الناعورة من أقدم الوسائط التي استخدمها الإنسان في رفع المياه من السواقي أو الأنهار، ومن ثم توزيعها على قنوات، للاستفادة منها في أكثر من مجال، لذلك أطلق عليها تعبير (دولاب الماء: water wheel).. وهي ذات حركة دائمة، ومزودة بصناديق أو دلاء أو مغارف مجوفة، مهمتها الأساسيّة غرف المياه من مستوى سطح الساقية أو النهر، ورفعها إلى الأعلى لتصبها في قناة تفضي بدورها، إلى أخرى فرعيّة توصلها إلى البيوت والبساتين، بغرض تأمين مياه الشرب أو ري المزروعات.

 

جاء اسم الناعورة لغوياً من فعل (نعر)، أي أحدث صوتاً فيه نعير، والنعير هو الصوت الصادر من أقصى الأنف، وربما يكون صياحا، أو صراخا في حرب أو عراكا أو ألما.

 

تاريخ طويل

يعود تاريخ وجود النواعير إلى نحو 4000 سنة قبل الميلاد، حيث أوجدها الإنسان لعدة أغراض، منها: ري المحاصيل، طحن الحبوب، تزويد البلدات والقرى بمياه الشرب. ثم في ما بعد، استخدمت لتشغيل آلات نشر الخشب والمضخات ومنافيخ الهواء اللازمة لصهر المعادن. بمعنى أن النواعير كانت الوسيلة الأولى للحصول على الطاقة الميكانيكيّة المتفوقة على طاقة الجهد العضلي للإنسان أو الحيوان، فهي تقوم بتوليد قوة مائيّة بوساطة مجموعة من المجاديف المركّبة حول عجلة تحرك بقوة الماء، فتنتقل الدورة المتولدة إلى الآلة، من خلال عمود العجلة.

 

آلية عمل دقيقة

توجد أقدم صوــرة للنواعير، لا تــزال محفوظة حتى الآن، في لوحة منفذة بتقنيـــة الفسيفــساء، يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، عُثر عليها في مدينة أفاميـــا السوريّـــة، واللوحـــة موجودة اليوم في حديقة متحــف دمشق الوطني، إذ توضح أن البنية العامة للناعورة، لم تتغير أو تتبدل منذ وجدت وحتى اليوم.

وهي تتألف من دواليب مائيّة دائريّة الشكل والدوران، كانت تُصنع من أخشاب صُلبة مختلفة القياسات، يربط بعضها بالبعض الآخر بأكثر من وسيلة، ثم تُربط جميعاً مع محور خشبي ضخم، بقطر كبير من الخشب القاسي أيضاً، يدعى القلب، يرتكـــز على قاعدتيــن مركبتين على أساسات ثابتة منفـــذة من الحجر، تدعى الكفتان. وأما الأخشاب المركبة على محيط الناعورة، بشكل معترض، فتدعى الفراشات.

حيث تلتقي مع تيار الماء المتدفق الذي يقـــوم بتحريك الناعـــورة حــول قلبها بشكل دائم، وهذه الحركة تسهم في دخول الماء إلى الصناديق أو الـــدلاء أو المغـــارف الخشبيّـــة، الموزعة على أطرافها بشكل متلاصق، حين دخولها بمياه النهر، وعندما ترتفع الصناديق إلى أعلى قمة في الناعـــورة، وتبدأ بالانحـــدار، تسكب الماء في حوض واســع يفضي إلى قناة مرتفعة على قناطـــر تسمـــى الحجريـــّة. وكي يتسارع دوران الناعــورة، يبنى سد، في العادة، قبل المكان الموجودة فيه، لحجز المياه وجعلها تتدفق بسرعة نحو فتحة شديدة الانحدار، تفي بغرض ازدياد حركتها.

 

كتلتان

تتألـــف الناعورة من كتلتين رئيسيتين، أولهما، الكتلة المثلثيّة أو الكفتين، وهي التي تحمل محور الناعورة. والثانية هي كتلة البرج الذي يحمل الساقية ويتصل بالحجريّة المرفوعة على القناطر. ويوجد بين الكتلتين فراغ تنصب الناعورة فيه، ويدعى القسم السفلي منه البيب.

وكأي شيء في الحياة، تحتاج الناعورة إلى رعاية دائمة، وصيانة مستمرة، تبدل من خلالها، القطع المهترئة، لا سيما الصناديق والفراشات، ولكي تجرى عملية الصيانة هذه، يجب إيقاف الناعورة عن الدوران، وهذا يحدث عبر إنشاء سد مؤقت يوقف المياه عنها.

نوعان

تتنوع النواعير وتختلف حجومها، وفقاً للوظيفة المنوطة بها والهدف من وجودها، لذلك، تختلف أقطارها وتتباين، لكنها، بشكل عام، تتراوح بين المترين والعشرين متراً. والنواعير نوعان، أولا: عموديّة المحور، وهي التي تتألف من مجاذيف متصلة بمحور خشبي يعمل تيار الماء على تدوير مجاذيفه، وتالياً تدوير محوره الذي يقوم مباشرة بتدوير الطواحين الحجريّة. وهذا النوع من النواعير سائد في نيبال وشمال الهند.

أما النوع الثاني فهو عمودي أفقي المحور، وينقسم بدوره إلى ثلاثة أنواع رئيسة. وأولها، النواعير التي تُدار بالدفع السفلي، وهو أقدم أنواع النواعير وتمثلها نواعير مدينة حماه السوريّة التي تدعى مدينة النواعير، لكثرة ما تضم منها، وتصنف نواعير حماه ضمن فئة النواعير المناط بها وظيفة الري والسقاية.

حيث تقوم بنقل مياه نهر العاصي الذي يخترق مدينة حماة في أكثر من مكان أو مطرح، جاعلاً منها مدينة جميلة مقسّمة إلى جزر وأحواض مائيّة، تنهض على حوافها النباتات والأشجار والأزاهير. وتتراوح أقطار نواعير حماه بين الـ 15 و الـ 21 متراً، وعدد الصناديق التي ترفع المياه بوساطتها بين 50 و120 صندوقاً، وربما تحمل النواعير صناديق إضافيّة، بمعدل 6 أو7 صناديق.

ويبلغ عدد نواعير حماه تسع عشرة ناعورة مصنفة في خمس مجموعات هي: البشريات، الجسريات، الكيلانيات، شمال القلعة، وباب النهر، وتعد ناعورة المحمديّة أكبرها، تليها ناعورة المأموريّة. تقوم نواعير حماه بتأمين المياه للبساتين والمساجد والحمامات، والمناهل المختلفة. أما النوع الثاني من النواعير العمودية والأفقيّة المحور، فيدار بالدفع الجانبي، حيث تصطدم المياه فيها بدولاب الناعورة جانبياً، وفي منتصفه، وهذا النـــوع من النواعـــير أعلى من نواعير الدفع السفلي. ويدار الثالث بالدفع العلوي، حيث تصطدم المياه بصناديقها وتملؤها من أعلى، لتعود وتفرغها من أسفل نقطة.

 

وظائف

للنواعير مهام ووظـــائف مختلفـــة، فهي تؤمن المياه لري الحقول والبساتين والمرافق المختلفة، من أحواض الأنهار منخفضة المستوى، كنهر العاصي في حماه، ويمكن الاستفادة من قوتها المحركة في إدارة المطاحن، وتأميـــن الهواء للمنافخ المتعددة الاستخدام، وإدارة المصانع الخاصة بالحبوب وندف الصوف وصنـــع الـــورق..

وغير ذلك. كما يمكن لأنواع خاصة منها رفع المياه من الآبار العميقة، وأحياناً توليد الكهرباء. وتدعى (دواليب الهواء) إذ تصنع من المعادن، وهي منتشرة بكثرة في المناطق الجافة والفقيـرة بالمياه في أميركا اللاتينيّـــة وفــي منطقة القلمون بسوريّا. ويطلق على مثل هذه النواعير أو الدواليب عبارة (خدام ببلاش)، كونها لا تحتاج، كي تعمل، سوى إلى الرياح.

 

غياب وسبب

أثّر التقدم العلمي، واختراع مضخات المياه التي تعمل على الطاقة الكهربائيّة، أو مشتقات النفط، على النواعير، فغاب العديد منهـــا، ويناضل ما تبقى من أجل البقاء، علماً أن الناعورة هي الأخرى، خادمة ببلاش، جميلة الشكل، حزينـــة الصوت، تشيخ قليلاً، لكنها لا تتعب ولا تمـــل من خدمة الإنسان، ليلاً ونهاراً، وفي كل الفصول، كل ما تحتاجه، بعض الصيانة من حين إلى آخر.

 ومنظرها على حوافي الأنهار، ومشاهد المياه النازلة عليها، والإضاءة المتقنة لها ليلاً، يحوّلها إلى مظهر جمالي أخاذ، الأمر الذي جعلها معلما سياحيا يجذب العديد من الناس إليه، وخير مثال على ذلك، نواعير حماه التي تنتشر حولها المطاعـــم والمنتزهات، وتُشكّل اليوم، الدافع الأساس للسوريين في باقي المحافظات والزائريـــن العــرب والأجانــب، لزيارة هـــذه المدينة، التي ارتبط اسمها بهــذا المعلم الخدمي والجمالي الذي أوجده الإنسان، منذ آلاف السنين.

 

.. في الأغنية

كانت الناعورة، وتبقى، محط إلهام الشعراء والمغنين، الذين وضعوا حولها، العديد من كلمات الأغاني، ولعل أشهرها أغنية (سمعت عنين الناعورة) للمطرب الشعبي السوري معن دندشي. وهناك الكثير من الاغاني لمغنين سوريين وكويتيين وعراقيين، تصف جمال النواعير، وتدلل على رمزية ما توحيه، في شكلها وصوتها، من ألوان جمال وحنين وشغف.

 

.. في الأدب

لم يكن الأدب والشعـــر، بمنـــأى عن التغنـــي بجمال الناعورة، ولكن الغالب في ذلك، أن الشعـــراء الذين وصفوا الناعورة، قرنوها بالحنين الى المكان أووصف ملامحه ومعالمه، واشهـــر الأمكنة في هذا الصدد، حماه في سوريا. وقال جد أبي العلاء المعري، وكان قاضيـــاً في حمـــاه، واصفــا نواعيرها :

وباكية على النهـــر تئن ودمعها يجــري

تذكرني بأحبــــابي وحالـي ليلـــة النـفــــر

وأذري مثلما تــذري وأسعـدها وما تدري

 

وكتب الدكتور عمر خلوف (من شعر الصبا):

أحماةُ كمْ أهفو إليكِ وكمْ أصبو

فيكِ الجمالُ، ومنْ جَوارِحيَ القلْبُ

يا طيبَ أيّامِ الوِصالِ بقُرْبِهمْ

نَلْهو.. و(عاصِينا) الجميلُ لنا تِرْبُ

ويَهيمُ منْ طَرَبٍ بصَوتِ (عروسِهِ)

فَيَخِرُّ تحتَ شُموخِها نَهِكاً يَحْبو

فتَبوحُ بالشكْوى إليهِ، وترتمي

جَذْلى عليهِ.. وصَدْرُ عاشِقِها رَحْبُ

 

كما نلمح في هذا البيت الشعري، من جميل التورية عن النواعير والعاصي :

وإني على نفسـي لأجْـدرُ بالبُكــا

إذا كانت الأخشابُ تبكي على العاصي

 

وفي تورية جميلة أخرى يقول أحدهم :

ناعورةٌ في النهـرِ أبصرتُـها

تُشوِّقُ الدانيَ والقاصِـي

قد نبّهتْنـا للهُدى والتّقـى

لأنها تبكي على العاصِـي

 

وفي المعنى نفسه، نقرأ للأديب صلاح الدين بن عثمان البعلبكي، الشاعر المشهور بالقواس:

 

وناعـورةٍ رقّـت لعظـمِ خطيئـتي

وقد لمحتْ شخصِي من المنـزلِ القاصِي

بكـتْ رحمة لي ثمّ ناحتْ لشجْوهـا

ويكفيكَ أن الخُشْبَ تبكي على العاصِي

 

وفي رحلة ابن بطوطة، عن أحدهم (في تورية جميلة):

يا سادةً سكنُـوا حمـاةَ وحقّكمْ

ما حُلتُ عن تقوى وعن إيمـانِ

والطرفُ بعدكـمُ إذا ذكرَ اللّقـا

يُجرِي المدامعَ طائعـاً كالعاصِي

 

ويقول ابن سعيد الغرناطي الأندلسي:

 

حَمَى اللهُ مِن شَطَّيْ حماةَ مناظراً

وقفْتُ عليها السمعَ والفكرَ والطّرْفا

تُغنّي حمامٌ، أو تميلُ خمائلٌ

وتُزهَى مَبانٍ تمنحُ الواصِفَ الوصْفا

وأشدو لَدَى تلكَ النواعيرِ شدْوَها

وأغلِبُها رقصاً، وأشبِهُها عَزْفا

تئنُّ، وتذري دَمعَها، فكأنّها

تهيمُ بمرآها وتسألُها عطْفا!!

 

تشكيل هائم بالنواعير

تزخر ألوان الفن التشكيلي السوري، وغيره الكثير من مدارس وألوان التشكيل العربي، بلوحات عن النواعير. لكن يتضح جليا، مدى هيام وتعلق التشكيلي السوري، والحمـــوي خاصة، برسم النواعير وعكس جمالياتهـــا وإيحاءاتها. وبذا رسخت لدى التشكيليين فيها كهاجس وموئل ومتنفس. ولا تكاد تجد مرسما في حماه، يخلو من لوحة تصور النواعير. ومن بين هؤلاء: عماد جروا، مصطفى الراشد نجيبة، وائل المصري، عبد العزيز الطويل.

 

 

 

محط إلهام

 

حرّكت الناعورة بشكلها وصوتها، قرائح الشعراء والفنانين، فوضعت حولها الأغاني، ودبجت القصائد، ورُسمت في العديد من اللوحات، وشكّلت مادة مغرية للمسلسلات والأفلام.

Email