«العويس الثقافية» أعادت قنوات التواصل مع المبدعين المغاربة

عبور الحواجز الوهمية بين المشرق و المغرب

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لاحظت الأمانة العامة لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، عدم فوز الأدباء والكتاب من دول المغرب العربي حتى الدورة الثامنة، 2002-2003، إضافة إلى ضعف الترشحيات، مما شكل مؤشراً لابد من دراسته جذرياً وتجاوز أسبابه. ففي الدورة الأولى ساهم بعض المغاربة بترشيح أنفسهم، إلا أن أحداً لم يفز منهم، خاصة في حقل الدراسات الإنسانية.

حيث اقترح الدكتور محمد عابد الجابري على أعضاء لجنة التحكيم أن تحجب الجائزة عن هذا الحقل لضعف مستوى المشاركين، حسب تعبيره، وكانت اللجنة تحرص على أن يكون لها دور تأسيسي في وضع اللبنات الأولى لمستوى المشاركة في هذه الجوائز.

 دورات العويس التالية لم تستقطب المبدعين من دول المغرب العربي، وظل المبدعون المشرقيون هم من يتصدر الواجهة الأمامية في الفوز في كل الحقول، وتكرست الحالة دورة بعد أخرى، مما شكل ظاهرة اضطرت الأمانة العامة لدراستها، ووجدت أن حواجز وهمية تحول دون ترشيح هؤلاء المبدعين، وقررت المواجهة الميدانية الهادئة والمبنية على الحضور والحوار الديمقراطي وسماع الآخر.

 مهمة إلى فاس

رشحت الأمانة العامة الأمين العام عبد الحميد أحمد والعبد الفقير كاتب هذه السطور، للقيام برحلة مكوكية تشمل تونس والمغرب كمرحلة أولى، وكانت على ما أذكر في ابريل عام 2000، وكانت محطتنا الأولى فاس في المغرب، التي وصلناها بالسيارة من الرباط بعد أن غادرت طائرتنا إلى مطار الرباط ولعطل مفاجئ اضطراريا ونجونا بأعجوبة، في فاس وجدنا لدى المثقفين حميمية اللقاء والتعاون واحتضنتنا الجامعة وانبرى أكثر من أستاذ أكاديمي وأديب لتقديم المساعدة لنا، وتنظيم لقاءاتنا مع أدباء المغرب، وكانت أمامنا عراقيل عديدة، منها عدم ثقة بعض المبدعين بالمؤسسات العربية،.

وعلينا أن نجتمع بمنتسبي المؤسسات في مؤسساتهم ومن منهم خارج المؤسسة يرفضون الحضور في فندق الإقامة ذي الخمس نجوم، لذا اقترحنا أن نجتمع بأية مجموعة من الأدباء لشرح وجهات نظر المؤسسة، وبالفعل ضمتنا مقاهي الرصيف، وبعض المطاعم الشعبية بالعديد من المبدعين، وفتحنا حواراً شفافاً مع كل مجموعة من تلك المجاميع وتحدثنا بصراحة، وأكدنا أن لا فرق لدى هذه المؤسسة بين مبدع مشرقي أو مغربي، إنما نحن على الحياد والحكم للنص وحده.

 جسور ولقاءات

في فاس كان دور الدكتور عبد الله بنصر العلوي واضحاً في محاولة التوصيل بيننا وبين تلك المجاميع المتفرقة من الأدباء والأكاديميين، وقد حرصنا أن لا نمانع عن أي اجتماع في أي مكان أو زمان، فالمكان مفتوح والزمان غير محدد، حسب طبيعة الطرف الآخر، ووقت تفرغه للحديث معنا.

ثم انتقلنا إلى الرباط والدار البيضاء، وكان دليلنا ومساعدنا الدكتور محمد برادة الذي بذل جهداً واضحاً في تقريب وجهات نظرنا للمبدع المغاربي وبنفس الروحية التي بدأنا بها في فاس كررناها في الرباط والدار البيضاء، وانتقلنا من اتحاد الكتاب إلى المقاهي والمطاعم ومكاتب الجامعات، كالعادة تجاوزنا الزمن والمكان وكل الرسميات التي ربما كانوا يعتقدون أنهم سيواجهون موظفين بيروقراطيين.

في حين استغربوا حينما وجدوا أن الطرف الآخر من نسيجهم ومستواهم الاجتماعي والمادي، وليس من باب التكبر أو التضخم، وما زاد إيمان الأدباء بنا أننا كنا نرافق زملاءهم أمثال محمد برادة، واسيني الأعرج، محمد الدناي، عبد الرحمن طنكول، محمد الأشعري، عز الدين ميهوبي، محمد الولي، يونس لوليدي، وكذلك عثمان بدري في الجزائر.. وغيرهم، مما كانوا يحيطون بنا ويحاولون فتح الطرقات أمامنا، ويبنون الجسور بيننا.

 

في تونس

تركنا المغرب واتجهنا إلى تونس، وكان في استقبالنا الأديب والشاعر الراحل الميداني بن صالح، وكان يومذاك يرأس اتحاد أدباء تونس، ولعلنا نذكر لهذا الزميل مواقفه ونشاطه وتحركه، في إطار وعي عربي كبير وسعي تجاوز حدود عمره الذي كان قد تجاوز عقده الثامن.

حرص الميداني أن نجتمع مع أكبر عدد من المبدعين التونسيين تحت سقف اتحاد أدباء تونس، وفي تلك الندوة المفتوحة واجهنا صعوبة عدم الثقة بين المشرق والمغرب أكثر مما هي مع المؤسسة، فالأديب المغاربي يشعر بثمة حساسية مفرطة تشكلت وتضخمت عبر التاريخ العربي الإسلامي، أضف إلى ذلك الأصول الثقافية التي تربى عليها المبدعون المغاربة، والتي اعتمدت المرجعية الفرنسية بينما كانت ثقافتنا المشرقية مرتبطة بالمرجعية الإنكليزية نتيجة الفترة الاستعمارية التي هيمن فيها الفرنسيون على الشمال الأفريقي العربي، بينما استعمرت الأقطار العربية المشرقية من قبل بريطانيا.

طرحت في ذلك الاجتماع أوراق كثيرة كلها تكرس زيادة الحساسية وتضخم الحواجز الوهمية، وترسخ مفاهيم لم تكن أصلادً تدور في حساباتنا ونحن نفتح ذراعينا لأخواننا المغاربة، كان الميداني بن صالح نجم تلك الاجتماعات والمحاور الأساسي، والجبهة التي تخندقنا بمتاريسها، وهو الشاعر الذي يمتاز بلغة وحوار ومنطق، وأحياناً تطفو إلى السطح بعض ما فيه من دكتاتورية تلطفها شفافية روحه التونسية.

وانفتاح على أوسع العوالم وإيمانه بحرية الرأي والرأي الآخر، هو الميداني المتميز في كل مراحل حياته الجريء في كل مواقفه، إذ لم يكن يخشى يومها بتوجيه اللوم والنقد إلى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي علناً وبصوت عال وفي الأمكنة العامة.

وبواسطة جهود الميداني انتقلنا إلى القيروان وهناك برز دور الروائي التونسي المعروف الدكتور صلاح الدين بوجاه وكان يومها عضواً في البرلمان التونسي.

إضافة إلى كونه أستاذاً أكاديمياً، وهكذا استطعنا أن نفتح قلوبنا وملفاتنا أمام أدباء وكتاب القيروان الذين استقبلونا بكرمهم وناقشونا بصراحتهم دون لغو أو تعدي، لقد كانوا فعلاً حضاريين إنما الظروف التي يعيشها العرب عبر كل المراحل هي التي تجعل من الحواجز سبباً في عدم تلاقي المغاربة والمشارقة وهم أخوة وأولاد عم لنا.

بشائر ترشيحات

لقد بلغت عدد الاجتماعات ما بين مدن المغرب ومدن تونس أكثر من 25 اجتماعاً خلال عشرة أيام مع تنقلاتنا الداخلية والخارجية، حتى أننا في بعض الأحيان نصل إلى الفندق في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، لنبدأ اليوم التالي مبكراً في حوالي الثامنة صباحاً، إلا أننا استطعنا أن نقابل معظم الأدباء والكتاب في تونس والمغرب.

وقد استطعنا أن نكسر بعض الحواجز الثلجية، وأن تصل إلى الأمانة العامة بشائر ترشيحات المبدعين، علماً أن الأمانة العامة ومجلس الأمناء لم يهملا دول المغرب وكان تمثيلهم بشكل جيد ومؤثر في كل لجان التحكيم، واللجان الاستشارية ومنذ الدورة الأولى.

 كسر جمود

نتيجة لذلك فقد توالت الترشيحات من دول المغرب العربي، بل جاءت من كبار المبدعين الذين بدؤوا يحصدون جوائز مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية من دورتها التاسعة 2004-2006، ففي هذه الدورة فاز عز الدين المدني ومحمد مفتاح ثم الدورة اللاحقة فاز محمد بنيس وعبد الفتاح كيليطو وهشام جعيط وفي الدورة الحادية عشرة فاز عبد السلام المسدي، وهكذا استمرت الحركة الديناميكية بين أدبائنا في المغرب وإخوانهم في المشرق.

وبدأت المنافسات تظهر بين مبدعي مشرق ومغرب الوطن ولعلنا في النظر إلى عدد الذين حكموا في الجائزة من دول المغرب ما يؤكد الجهد الذي بُذل لكسر هذا الجمود إذ بلغ عدد المحكمين 21 محكماً من دول المغرب من مجموع 123 محكماً على مستوى الوطن العربي عموماً.

 ذكريات ومواقف

هذا ما أحاول أن أوجزه من ذكريات تلك الفترة وإن كانت الأحداث أوسع بكثير مما هو موجز على هذا الورق، لعل جزءا منها تلك الأحداث البسيطة التي تقع على هامش هذه الزيارات، ولعل معظمها أذكرها في تونس واحدة منها أننا (أنا وزميلي عبد الحميد أحمد) عدنا من القيروان بعد منتصف الليل في موسم الرمان،- وتونس مشهورة برمانها الذي يضاهي أحسن سلالات الرمان في العالم.

واكتشفت أن عبد الحميد يعشق الرمان مثلي، فتوقفنا عند الفلاحين قرب الفجر، قبل أن يضعوا الرمان في الصناديق لإرساله إلى الأسواق وجلسنا بينهم وبين تلال الرمان وبدأنا نأكل، بل كان الفلاحون كرماء أيضاً فأصروا على أن نأخذ معنا إلى الفندق، واضطررنا أن نهدي لهم قليلاً من المال أخذوه، بعد أن توسلنا بهم وكهدية وليس ثمن ما أكلناه من الرمان، وأهدونا شريط الهادي الجويني حينما علموا بإعجابنا بهذا الموسيقار التونسي الخالد.

أما حكايتي مع الميداني بن صالح وأعرف أنه مزواج، إلا أنني لم أتوقع أن يكون قد جدد زيجة جديدة وقد تجاوز الثمانين، إذ اتصلت به في منزله ذات صباح لحاجة من الحاجات ورد علي صوت شاب لصبيةٍ في العشرين تقريباً، فطلبت منها أن توصلني بوالدها الميداني، فتضاحكت الصبية وأخبرتني بأنها زوجته الجديدة، وهنا ظهر الميداني معاتباً.

- شو يا عبده.. تريد تخرب بيتي.. هذي زوجتي الجديدة مش بنتي

- قلت يعيشك يا ميداني .. أعذرني .. ما اعرف أنك عريس.. وقد تجاوزت الثمانين، فضحكنا، وبدأ يعيد ذكرياته وبعض القصص عن حياته، ومواقفه السياسية والنضالية، خاصة وهو من العرب الذين شاركوا في أكثر من حدث وزمن عبر سلسلة من مواقف اقتضاها عمره الذي تجاوز العقد الثامن، واستغربت منه حينما أخبرنا أنه كان عضواً في حزب البعث في العراق، وكان مسؤولاً عن تنظيم صدام حسين مباشرة قبل أن يكبر صدام ويتضخم، وسألناه إن كان قد قابله بعد أن أصبح رئيساً. قال الميداني:

- نعم قابلت صدام حسين وأنا أترأس وفد أدباء تونس في واحدة من المناسبات في بغداد، وحينما صافحته مسلماً عليه طالع وجهي وتذكرني قال لي صدام:

- هذا أنت الميدان بن صالح لو غيرك.

- نعم رفيق صدام.. أنا الميداني

- بس ما متبدل شكلك.. بعدك قوي وشاب

ثم رحب بي واحتضنني .. وجلست ولم نتحدث بشكل شخصي، وهذه كانت هي المرة الأولى والأخيرة لمقابلتي لصدام، خاصة بعد أن ترك الميداني حزب البعث في منتصف حياته وعاد إلى تونس، وأصبح مستقلاً في مواقفه السياسية.

إنني اعتقد أن الميداني بن صالح والعديد من الفعاليات الثقافية في دول المغرب كانوا عوناً لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في إذابة جبال الثلج الوهمية، التي كانت تحول دون تواصل المؤسسة مع المبدعين في هذا القسم الغالي من الوطن العربي الكبير.

 

Email