الجسور.. وسائط عبور التضاريــس والأزمنه

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تكتنز عبارة (جسور) بمعاني ودلالات عدة، منها ما هو مباشر ويعني brides أي الجسور الأسمنتيّة أو المعدنيّة التي تقام بين ضفتي نهر، أو شارع، أو هضبتين، أو جبلين، أو تقاطع الطرقات، ومنها ما هو غير مباشر يرمز إلى العلاقات الطيبة التي تجمع بين الناس، فيقال جسور محبة، أو جسور تلاقٍ وتواصل ووداد ومشاركة.

 

يُقال إن وقوع جزء من شجرة على طرفي جدول هو الذي أوحى للإنسان بفكرة إنشاء جسور أو معابر عبر العوائق والموانع المائيّة كالمسيلات والأنهار والقنوات، والوديان العميقة وتقاطع الطرق وغيرها. وبدأت الجسور بدائية السمة، نُفذت لأول مرة من النباتات المرنة والحبال.

ومع تطور وسائل الإنتاج، وازدياد الحاجة لها، من أجل تبادل السلع بين الناس في البلد الواحد، أو بينهم وبين شعوب البلدان الأخرى، أصبح شق الطرق ضرورة حياتيّة، لكن هذه العمليّة، واجهتها صعوبات جمة منها الأنهار والوديان، الأمر الذي تطلب تغطية جزء منها بالجسور التي أخذت في البداية شكل القناطر المنفذة من الحجر والخشب والمعادن، ثم من الخرسانة المسلحة بالتسليح العادي وبالتسليح مسبق الجهد.

 

خامات طبيعيّة

تنتشر في سوريا والبلدان العربيّة، تحت الطرقات، وفوق السواقي والأنهار، جسور منفذة من الحجر على هيئة أقواس مترابطة، مدروسة في شكلها ومقدرتها على تحمل الأوزان، وقد جاءتنا من التراث الروماني، لذلك تدعى بـ (قناطر رومانيّة) أو (أقنية رومانيّة) منفذة في الغالب من الحجارة.

حيث لم يكن الأسمنت المسلح قد وجد بعد، وقد أوحى هذا الأسلوب الهندسي الجميل والمتميز والمؤدي لمهام عدة، للعديد من المهندسين المعاصرين، بإشادة أبنية كاملة، ومن عدة طبقات، بأسلوب القناطر وخصائصها الهندسيّة، دون استخدام الاسمنت المسلح، في الأسطح وحواملها.

بعدها ظهرت الجسور والمعابر المنفذة من جذوع الشجر، ثم من الخشب المقصوص والمشدود بعضه إلى بعض بوسائط مختلفة، ومنها جسر في روما شُيّد عام 630 قبل الميلاد. وجسر عائم على البوسفور نفذ العام 515، وآخر على نهر الدانوب، وغيرها.

 

عبور آمن

في البداية، اقتصرت وظيفة هذه الجسور، على تأمين العبور الآمن للمشاة، ثم لهم ولدوابهم وعرباتهم، وفيما بعد لسياراتهم وقطاراتهم، لهذا روعي فيها المتانة، وتحمل الأثقال وعوامل الجو المختلفة، كالأمطار والرياح وفيضانات الأنهار والسواقي، ولأنها صارت تصافح عيون الناس في الذهاب والإياب، سرعان ما تنبه المختص بتصميمها، إلى ضرورة إضافة خصيصة جديدة إليها هي: الرشاقة وجمال المظهر.

وتوافقها مع محيطها الطبيعي أو المعماري، إذ لم يعد كافياً أن تؤدي مهمة المعبر الآمن المدروس هندسياً، فأضيفت إليها وظيفة شكليّة وجماليّة، تبدت في طرز تصاميمها، ثم لاحقاً في تنوع مواد وخامات إشادتها، حيث دخلت الحجارة الكبيرة والثقيلة إلى وسائط بنائها، وقد بقيت الجسور الحجريّة على حالتها من الضخامة والوزن حتى منتصف القرن الرابع عشر.

حيث أخذت تظهر جسور حجريّة جديدة، أكثر رشاقةً، وأخف وزناً، وأصغر حجماً، وأول ما ظهرت في إيطاليا وفرنسا. في القرن التاسع عشر، بدأ استخدام المعدن في بناء الجسور، وقد ساهم في انتشارها وتطويرها، طرائق حساب المنشآت الجسريّة، وعلى الأخص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

 

أصناف وأنواع

تُقسّم الجسور من حيث الاستخدام إلى جسور طرق سيارات، وجسور سكك حديديّة، وجسور مختلطة، وجسور للمشاة، وجسور لقنوات المياه أو أنابيب الغاز والنفط، وهي إما داخل المدن أو خارجها، بعضها يُشيد في مكانه، وبعضها مسبق الصنع، يتم تركيبه من عدة قطع.

قد تكون الجسور مغلقة، أو مفتوحة. ناهضة على ركائز وأوتاد، أو مشدودة إلى أعلى بنظام هندسي خاص، وأحدث طرز الجسور وأكثرها تعقيداً، تلك التي تُبنى هذه الأيام فوق سطح البحر، لتصل مدينة ساحلية بأخرى، أو دولة بدولة ثانية، كما هو الجسر الذي يربط السعودية بالبحرين. أضيف إلى الجسور مظلات ودرابزونات ووسائل إضاءة، وقُسّمت إلى معابر للسيارات، وأخرى للمشاة، وقد تحوّل بعضها إلى ما يشبه الأعجوبة لطوله، وطريقة إشادته، وتصميمه الذي قد يجمع بين مواد وخامات مختلفة، وقد يقتصر على مادة واحدة، وهو بحاجة دائمة، لمراقبة وصيانة وترميم، ولهذا تُربط الجسور اليوم، بأجهزة قياس، تنبئ عن كل خلل تتعرض له.

 

جماليات في البال

من المؤكد أن كل إنسان منا يحمل في ذاكرته البصريّة، العديد من الصور لجسور عبرها، أو شاهدها. بعضها استخدمها مرة أو مرات، وبعضها الآخر، يستخدمها يومياً. منها ما علق بذاكرته لجمال تصميمها، وبراعة إشادتها، ومنها ما يكتنز بذكريات خاصة، أو حادثة ما. ولأن الجسور صارت من الحاجات الضروريّة المنتشرة بكثرة داخل المدن وخارجها، أخضعها المعنيون لقوانين ونظم جماليّة، تربطها بما يحيط بها من تضاريس طبيعيّة، أو معالم معماريّة، بحيث لا يشكّل وجودها (كشكل وتصميم) نشازاً في المكان الناهضة فيه.

وإنما يجب أن تنسجم وتتوافق مع محيطها. بل لقد تحوّل بعضها، إلى ما يشبه التحفة المعماريّة والفنيّة الرافلة بجماليات رفيعة، ساهم بتحقيقها المهندس المصمم، والفنان المزيّن والمزخرف، إذ طالما كانت الجسور ولا تزال، من المجالات الرحبة لإبداع المعماريين والفنانين التشكيليين والمهندسين الإنشائيين والميكانيكيين والكهربائيين الذين يجب أن يتعاونوا جميعاً، في إخراجها بشكل تؤدي فيه وظيفتها الاستخداميّة الحيويّة والضروريّة، بيسر وسهولة، ووظيفة أخرى، لا تقل عنها أهميةً وإلحاحاً، هي الوظيفة الجماليّة التزيينيّة.

فالزائر للمدن التي يعبرها نهر أو أكثر كبودابست، وبراغ، ودريسدن، وهامبورغ، ودير الزور، والبندقيّة الناهضة فوق الماء وغيرها، تطالعه فيها أجيال من الجسور المنتمية لأزمنة تاريخيّة متباينة، بحيث يُستدل من طراز تصميمها وموادها وخاماتها، على الزمن الذي شيدت فيه، وأحياناً على المهندس الذي صممها، والنحات الذي زيّن مداخلها ومخارجها. وقد جاءت مؤخراً، وسائل الإضاءة الحديثة والمتطورة، لتكرس جمالياتها ليلاً، ما زاد من جمالياتها وحضورها.

وقد ارتبطت بعض هذه الجسور، بظواهر ثقافيّة وفنيّة، كجماعة الفنانين التشكيليين الألمان الذين ارتبطوا بأحد الجسور الناهضة فوق نهر الالبه في مدينة درسدن، حيث أطلق عليهم (جماعة الجسر) نسبةً إليه، وقد أسسها عام 1905 الفنان (نولد)، وجسر تشارلز في مدينة براغ الذي تحوّل إلى محترف في الهواء الطلق للعديد من الرسامين.

 

 

Email