ريم كولهاس:

التكرار في العمارة قلق للهوية الوطنية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يشبه ريم كولهاس، أحد ألمع منظري العمارة في العالم، المدن، بالآلات الدافعة للتحرر من القيود. ويقول في حوار أجرته معه مجلة "الشؤون الدولية"، التابعة لجامعة كولومبيا، أخيراً، إنه عندما يكون السعي للتحرر على أشده، ووعود النجاح جلية تماما، يغدو التغيير جذريا، لافتاً إلى أن المدن في الغرب، حالياً، تبدو له كالحة متجهمة ليس لديها ما تسعى إلى تغييره، على عكس ما يحدث في أجزاء أخرى من المعمورة، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث نشهد ثورة حضارية حقيقية.

لا يقف الحوار مع كولهاس، مؤسس مكتب متروبوليتان للعمارة، الذي أنجز مشروعات مهمة حول العالم، عند حدود أو أطر ضيقة في مجال فنون العمارة، إذ نجده يتطرق إلى مختلف الجوانب، عارضاً للتطورات التي طرأت أخيراً، والتي أسهمت في تبدل المدن وتحولها، ذلك بدءا من غياب القدرة على التخطيط للمستقبل (حتى عندما يكون نمو المدن او انكماشها السريع، أمرا واضحا للساسة)، وانتقالا الى خسارة العمارة تلك النظرة إلى الخير العام، بسبب انقطاع علاقتها مع القطاع العام، وتأثيرات العولمة السلبية والايجابية وما تركته من قلق على الهوية الوطنية المعمارية من خلال التكرار الذي يقف وراءه دافع تعظيم الربح.

ومن ثم انتهاء بإدراج أساليب العمارة المحلية التي كانت سائدة سابقا، مع بعض الاستثناءات، في قالب أسلوب هندسي عالمي أوسع، وذاك مسار يشبهه كولهاس بمسار اختفاء اللغات المحكية.

يشكك كولهاس في فرضية ان يشهد القرن الواحد والعشرين، صعود مدينة متميزة في مجال العمارة، على غرار مانهاتن في أميركا، التي كانت مسكونة بفرادتها خلال صعودها في القرن العشرين. ويشبه المدينة التي يعاد انتاجها على نطاق وسرعة هائلين في الصين، بالنظام الروماني، حيث يعاد تكرار عناصر بنيتها في أماكن جديدة، لكن مع تكييفها وفقا للشروط المحلية.

هواجس إبداعية معمارية متنوعة، عرضها كولهاس في الحوار، مقدما جملة طروحات ورؤى خلاقة:

 

مدن المستقبل

أتواجه المدن حول العالم، تحديات مشتركة؟

ما أراه هو عدم قدرة أي من الأنظمة السياسية على توقع المستقبل وأخذ الحذر منه، بالنسبة لقضايا العمارة، ذلك حتى عندما يكون واضحا نمو المدن وانكماشها السريع. كما أصبح عدم القدرة على التخطيط مسبقاً، منتشراً بشكل واسع، وبات يشكل صدمة عندما يحدث في حالات فردية. وهذه الظاهرة أصبحت عالمية.

هل التحدي الأكبر في القرن المقبل هو إدخال الحداثة إلى أماكن جديدة في العالم، بدلاً من إعادة ابتكارها؟

بما ان الاقتصاد العالمي هو المؤثر الطاغي على المدن وتراجعها، فيمكن توقع أماكن حدوث التطور الحضري. وما أتنبأ به في إطار محدود، يتمثل في أن تطورا واسعا سيحدث في بعض أجزاء العالم، وأنا أرى هذا الأمر ليس فقط في الصين، وإنما أيضا في أماكن متنوعة، مثل ايران وتركيا، حيث مدن المستقبل ستقام بأعداد كبيرة.

 

دورتا حياة المبنى

هل تفكر في المستقبل عندما تصمم المشروعات؟

المعماريون يعملون بطريقتين. أولا الاستجابة بالتحديد لحاجات ومتطلبات الزبون. وثانيا النظر إلى ما يطلبه الزبون وإعادة تفسيره. ويفترض أن يجري المعماري حكما حيال ما إذا كان مشروع الزبون سيوجد قيمة للمجتمع، لأنه يفترض به دوما أن يجيب عن هذا السؤال خلال عمله. ونحن دوما، نحاول اكتشاف الاحتمالات التي لم يدركها الزبون.

إن هذه المرونة الخلاقة تسمح لنا بتصميم مبان أكثر تنوعا، يمكن أن تنجح في الاقتصادات والمضامين الحديثة، فكل المباني تقريباً، قادرة على استيعاب أي نوع من النشاط. شيء بني كمنزل، يصبح مكتبا ومن ثم يصبح مجمعا سكنيا. وللمبنى دورتا حياة: المتخيلة من قبل صانعها، الحياة التي يحياها فيما بعد، حيث انهما لا يتطابقان على الإطلاق.

كان هناك تحول في قاعدة الزبائن خلال السنوات الأخيرة، من الحكومات والوكالات الحكومية غيرها.. كيف يغير هذا الأمر حقل دراسة الهندسة المعمارية والمدن التي أصبحت موقعا لمشروعاتها؟

إن هذا لتحول هائل، ولكنه سيئ بالنسبة للهندسة المعمارية. فالهندسة المعمارية تخسر تلك النظرة إلى الخير العام، بانقطاع علاقتها مع القطاع العام.

يسرد كتابي الأخير "بروجكت جابان"، تاريخ حركة طليعية يابانية تدعى "الأيض"، تشدد على المشروعات الحكومية، والحفاظ على الأسلوب التقليدي الذي ينبذ مبدأ التوحيد في الحداثة. فالزبون الحكومي هو معين ملهم لما يجب أن تكون عليه الهندسة المعمارية. والفارق الكبير بين العمل مع زبائن من القطاع الخاص والقطاع الحكومي، أن المطورين من القطاع الخاص بارعون في تعظيم الأرباح، ويعتبرون كل ما لا يسهم في تلك الأرباح، تضحية يفضل تجنبها.

العولمة تسهل للشركات الكبرى والمطورين القيام بأعمال في مدن متعددة حول العالم. كيف يؤثر الأمر على ممارسة الهندسة المعمارية في المدن أو على نوع المشروعات التي تطلبها ؟

طرأت تغييرات هائلة على الأوضاع في هذا الصدد، بكل ما للكلمة من معنى. وتأثيرات العولمة كانت إيجابية وسلبية. وجيلي من جيل المهندسين المعماريين الأول، الذي تمكن من العمل تقريبا، في كل مكان حول العالم. وكان لديه الخيار لتكرار العمارة نفسها أو الثقافة المحلية.

وبدا هذا الأمر رائعا لشركتنا، لأنه كان لدينا تجربة عميقة في الصين، من خلال ابتكار مبنى التلفزيون المركزي ومبنى آخر في قطر. إنه درس أنثروبولوجي متعدد الأبعاد. واعتقد أن مكتبنا شهد تحولا من خلال هذه الإنجازات. فالتبادل الثقافي يمكن أن يكون تجربة غنية جدا. والجانب السلبي في الأمر، شيوع التكرار الذي يحركه دافع الربح.

 

موقف مغاير

ما طبيعة تأثير المشروعات المعمارية في المدن على الهوية الوطنية والثقافية؟

إن هذا التكرار يؤدي إلى حالة من القلق حول الهوية. وهناك رد فعل طبيعي من المواطنين والحكومات، عندما لا يشعرون بانعكاس ثقافاتهم في مشروعات المباني الحضرية. وهذا يظهر غالبا في الشرق الأوسط.

وكثير من المهندسين المعماريين الدوليين تخصصوا في تبني نهج العمارة وفقا للبيئة التي تقام فيها، وتظهر ملامح مشروعاتهم على هذا الأساس، من خلال رموز لإبل وصقور وحمائم وغيرها، تشكل عنوانا حيويا في مضمون ومفردات التراث المحلي.

وهذه القضية مؤثرة، ذلك لأنه، ومنذ مئة سنة، كانت لا تزال هناك عمارة هندية وعمارة تايلندية وصينية وإفريقية وهولندية وروسية. لكن الآن، جميع تلك اللغات المعمارية، اختفت تقريبا وباتت تندرج، على ما يبدو، في أسلوب هندسي عالمي أوسع. والمسار كان شبيها بعملية اختفاء لغة محكية ما. وبقايا من هذه الاختلافات لا تزال قائمة.

فعلى سبيل المثال، إن المباني ذات الارتفاعات الشاهقة في سنغافورة، مأهولة بطريقة مختلفة كليا، عن ماهية الحال في ضواحي فرنسا أو الصين. وهذه الثقافات، التي كانت لديها فيما مضى طريقتها الخاصة في التحدث، لا تحاول إعادة إحياء اللغة القديمة، ولكنها مهتمة في تأكيد تفردها مجددا.

ومن جهة أخرى، تمكنت بعض الثقافات من الحفاظ على تميزها. ويبقى هناك معنى للقول ان احد الأشخاص هو مهندس معماري ياباني، لكن هذا لا يصح نسبيا على المعماري الهولندي أو الأميركي. إذ أدرج المعماريون الهولنديون هويتهم في الحداثة العالمية، ووجدوا صدى وتواصلا دوليا.

وبالمقابل، كان هناك في اليابان، وعلى الدوام، إصرار على احترام التقاليد. ولا تزال الأشكال اليابانية، تأخذ حذرها على الصعيد ذاك خاصة، ومصنوعة بشكل جيد. كما انها معقدة في تصاميمها، ويتضح فيها أنهم لم يستسلموا إلى القياس الكبير الصارم.

وفي الواقع تبدو مفارقة كبيرة، أن تتمكن اليابان من الحفاظ على أسلوبها المعماري. وأريد الإشارة هنا، الى انه اكتشفت في مشروع "بروجكت جابان"، أن اليابانيين لديهم فلسفة خاصة بعدم الثبات. إنهم يعيدون بناء مزارهم العظيم المقدس، كل 20 سنة، وبذا فهم لا يتعلقون بالأشياء، ولديهم موقف مغاير تماما عن الغرب، في كيفية الحفاظ على التراث. وكانوا في ذلك، افضل من الغرب.

 

نموذجان

أين سيحدث التحول الحضري بشكل مكثف.. هل يمكن أن يكون في الصين ؟

يخطر على بالي في هذا السياق، تجربتين اثنتين. إحداهما في لاغوس في نيجيريا، خلال فترة النصف الثاني من التسعينيات في القرن الماضي. فحينها كانت المدينة في حالة من التراجع في المناطق الحضرية، بدلا من التقدم، لكن الانحسار فرض شكلا من الارتجال الخلاق والمنظم ذاتيا على الشعب.

وهذا يعطيني شعورا بان المدينة أعيد ابتكارها، وجرى استخدام عناصر من المدينة بطرق غير مألوفة بتاتا. ومن بينها، على سبيل المثال، معترضات الطرق السريعة المتشعبة، المسببة للازدحام. ويمكن أيضا، في التجربة الثانية، رؤية المدينة التي يعاد ابتكارها في الصين، أو لنقل التي يعاد إنتاجها على نطاق وسرعة هائلين.

ويمكن ملاحظة نقطة أن الأشياء تتغير افتراضيا.. إنها تشبه النظام الروماني، حيث عناصر المدينة والطوبولوجيا يعاد تكرارها في أماكن جديدة، ويجري تكييفها وفقا للظروف المحلية. رأيت مدنا تبنى من الصفر في الصين.

فشنزن شمال هونغ كونغ، تحولت من قرية لصيد الأسماك في الثمانينات من القرن الـ20، إلى حاضرة تحوي اكثر من 10 ملايين شخـــص. كما أصبحت مدينة فريدة من نوعهـــا، على الرغم من أنها تفتقر إلى الفرادة عمليا. والسبب الحقيقي لهذه الميزة، كونها قريبة من هونـــغ كونغ، وتقع ضمن منطقــــة اقتصاديـــة خاصة تجذب الكثير من الشركـــات الصينية.

في كتابك الأول "هذيان نيويورك" تقول إن (مانهاتن، دلالة للقرن العشرين). فما المدينة التي ستلعب هذا الدور في القرن الواحد والعشرين؟

لا يزال من المبكر معرفة ذلك. فخلال صعودها في القرن العشرين، كانت مانهاتن مسكونة بشكل هائل بفرادتها، وقلة من المدن الآن تركز على الأمر. ولست متأكدا من أن القرن الواحد والعشرين، ستكون فيه مدينة على غرار مانهاتن، أو مدينة متميزة. ولا أعتقد أن أي شيء يحدث في لاغوس أو الصين، ينافس أو يضاهي أهمية صعود مانهاتن في القرن الماضي.

أنا أعمل الآن في الدوحة في قطر، وهي مدينة تعيد ابتكار نفسها على كل المستويات،: التعليم والسياسة والثقافة والتسلية والرياضة، ومكتبنا يشارك في هذا التحول. فعلى سبيل المثال، نعمل على المكتبة الوطنية، وعلى تحويل البلاد من خلال الرياضة، وعلى كل الأشياء التي تعطينا فرصة للمساعدة في صياغة ما يمكن أن يكون عليه المستقبل هناك.

إن إعادة ابتكار المدن وكذا تخيلها، قضايا يجري الاشتغال عليها في كل أنحاء العالم. والطاقة التي تلهم إعادة الابتكار تأتي من الضغط، عندما تلعب القوى السلبية لعبتها، وهذا ما شاهدته في لاغوس، أو حين تكتسب المدن طاقتها من سعيها الدؤوب .

 

معماري متألق

 

يعد ريم كولهاس، من أشهر المعماريين المعاصرين. ولد عام 1944 في هولندا، ودرس العمارة في جمعية العمارة بلندن ـ إنجلترا، وفي جامعة كورنيل في نيويورك، ثم عاد بعدها إلى لندن حيث أسس مكتب متروبوليتان للعمارة في عام 1975، الذي أنجز مشروعات مهمة عديدة، حول العالم، ومثيرة للجدل، كان آخرها مركز محطة التلفزيون المركزية الصينية.

 

المباني الخضراء

 

يرى المعماري الشهير ريم كولهاس، أن ما يدعى بـ "العمارة الخضراء"، حالياً، يمثل تشويها لنظرة اكثر عمقا في خصوص القضايا المتعلقة بالاستدامة. فالهندسة المعمارية برأيه، من المهن الأولى المعنية بالعمق في هذه القضايا.

وكان لديها رؤية حيالها، فمفهوم "الكرة الأرضية سفينة الفضاء"، الذي ظهر في ستينيات القرن الماضي، مثلاً، كان يملك رؤية واعية حيال اعتمادية الأشياء بعضها على بعض، والضرورة الاقتصادية المنهجية. ويجد كولهاس نفسه، منجذبا إلى هذه التقاليد، أكثر من "الثورة الخضراء " في وقتنا الحالي. ويرى أنها ليست ما يعد أمرا مثيرا، راهنا، بل ما يشكل محور الاهتمام الرئيس، اليوم، بناء المباني بشكل أفضل.

 

" هذيان نيويورك"

 

حصد ريم كولهاس، مجموعة مميزة من الجوائز، في مختلف ميادين العمارة. إذ نال في في العام 2000 جائزة "بريتزكر . ووضعته مجلة "تايم" في عام 2008، ضمن قائمة أهم 100 شخص الأكثر تأثيرا ونفوذا في العالم.

كما ألف كتبا عديدة حول العمارة، وأهمها "هذيان نيويورك"، الذي وصف فيها المدينة، بأنها آلة إدمان لا مفر منها.

Email