باحث متخصص يعنى بتصحيح المعلومات التاريخية للمنطقة

محمد النقبي: الآثار مرآة الشعوب

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

التنقيب عن الآثار.. مسؤولية وطنية تتعدى حدود كونها أعمالاً هدفها الكشف عن المجهول في تاريخ المكان وأحداثه. إذ يشكل في برامجه ورؤاه، خصوصاً في دولة ذات موقع حيوي، كالإمارات، نافذة حيوية نطل من خلالها، على مخزون ثمين من الحقائق التي تعرف بالمنطقة وأهميتها الجغرافية.

وكذا بماهية ثرواتها الفكرية في مكنون أعماقها. وتمثل جهود الباحث محمد خميس بن عبود النقبي، على مدار 20 سنة، قضاها في البحث الآثاري العلمي في خورفكان بالشارقة، قيمة جوهرية في المجال، إذ عكسها وسرد تفاصيلها في إصداره الأول: «خورفكان في ذاكرة الزمان».

 يحصي محمد خميس بن عبود النقبي، في حواره مع (مسارات)، جملة إضافات نوعية، يقدمها كتابه إلى المكتبة الوطنية، وكذلك مكون الثقافة المحلية، في حقل الآثار والتنقيب، تتميز بارتكازها إلى منهج علمي مدروس، يقوم على أسس شتى. ومن بينها، طابعه التوثيقي المدعم بصور دقيقة، يرى أنها تشكل، في حد ذاتها، صيغة تفرد جديدة ضمن نمط الإصدارات في هذا الشأن.

ويؤكد النقبي، أنه يأمل في اعتبار «خورفكان في ذاكرة المكان»، الصادر، أخيراً، عن مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي، مرجعاً للدارسين المتخصصين، مشيراً في هذا الخضم، إلى أن الآثار مرآة الشعوب، باعتبارها قيمة ثقافية تكشف عن غنى منطقتها، وأيضاً لكونها تشتمل على رموز تشي بمختلف مفرداتها المعرفية ودلالات مكانتها.

وذلك بفضل قدرتها على تقديم تفاصيل وافية وموسعة عن المكان وأهله وتاريخه وقصصه، في قالب صيغ معطيات وتجسيدات متنوعة، تحكي عن ألوان الأنشطة الإنسانية في أشكال عديدة: المساكن، الكتابة على الصخور، مواقع المدافن، الحصون والأبراج، العمائر التراثية، والكهوف وأشكالها، مصائد الحيوانات.

 مغالطات

الحديث مع الباحث محمد النقبي، حول سيرته وأعماله، في مجال التنقيب، على مدار 20 عاماً، لا يمكن أن يتوقف أو يتأطر عند حدود سرد معلومات تاريخية عن منطقة خورفكان في الشارقة. وهكذا انطلقنا معه في رحلة معرفية استهلالية للتعرف على مصادر وحوافز شغفه بمعرفة تفاصيل الحياة البشرية في منطقته (خورفكان)، عبر الحقب التاريخية كافة.

ولدى سؤالنا عن السبب الرئيسي لتبنيه هذا المشروع البحثي، الضخم بالمقياس العام، أجاب النقبي: «الرغبة في توثيق تاريخ منطقة خورفكان، والتي تعد مسقط رأسي، مسؤولية تحملتها من دون تكليف، بل إنها بمثابة نتيجة فعلية لإحساسي بأهمية البحث في هذا المجال..

إنه عموماً، شغف فريد، يقوده توجه جدي لدي، معياره التفاني في العمل، غاية نسج مقومات أرضية لحالة الاتصال والتواصل بين ما هو قديم وما هو جديد. وذلك خصوصاً، في ظل ما نعانيه من قلة في المراجع والمصادر العلمية في حقل التنقيب الاثري تحديداً، كما نجد، وبالرجوع إلى بعض المتوافر منها ( المصادر)، أن هناك مغالطات تحتاج إلى مراجعة دقيقة. وذلك لأن غالبية تلك المراجع لم تدون من قبل أهل المنطقة، بل إن مصدرها هم المستشرقون والرحالة والمؤرخون، من الذين زاروا منطقتنا قديما، فسعوا إلى تقديم مشاهداتهم.

. وفعلياً لا ننكر فضل شريحة منهم، إذ استمديت من كثيرين بينهم، أسس التعرف على الموجودات في المنطقة ومحتوياتها، ولكني لا أزال مؤمنا بأن هذا الدور منوط بابن المنطقة. وهذا ما أسعى الآن، إلى توثيقه عبر أربع إصدارات جديدة، قادمة».

 اكتشافات

محاور مختلفة تضمنها إصدار محمد خميس بن عبود النقبي، الأول، اتسمت باعتنائها في عكس البعد الجغرافي والوجود البشري ضمن المنطقة (خورفكان)، وكذلك ما يبين أهمية موقع خورفكان والقرى المجاورة، وأهم ما ورد عنها في المصادر القديمة.

إضافة إلى الآثار وخارطة متكاملة، أنجزها النقبي بنفسه، عن مواقع المدافن والنقوش الحجرية. كما يتضمن الكتاب، توضيحات عن العمائر التراثية فيها، والتحصينات العسكرية والآبار. وبالنظر إلى محتوى الكتاب، نتبين أن النقبي اعتمد مجموعة من الصور حول تلك المحاور، أعدها بنفسه.

ويقول في هذا الخصوص: « كنت مغامراً للوصول إلى أعماق المنطقة. وقررت أن لا أتوقف عند حد معين، بل رأيت انه يجب علي أن أتحمل هذه المهمة بكل أبعادها، فكنت أضع الكاميرا المخصصة في الحقيبة إلى جانب أوراق لتسجيل جميع المشاهدات، وحرصت دوما، على التقاط صور متنوعة، عن ما كنت أكتب وأستقصي بشأنه. ومن ما جاء في ما سجلته، مجموعة اكتشافات أثرية حول خورفكان، تفردت بها، ذلك مثل مصيدة الحيوان المفترس.

والتي تعد جزءا من عادة تاريخية لدى أهل خورفكان، والذين اعتادوا، منذ قديم الزمان، على إقامة مساكنهم بالقرب من الحيوانات الأليفة (الماشية الأغنام والماعز والغزلان ونحوها). ويعود ذلك إلى أمرين، أولهما حمايتها من الحيوانات المفترسة، والثاني، التعايش معها.. ومع ذلك، كان لا يمر عليهم يوم، من دون أن يتعرضوا إلى غارة من الحيوانات المفترسة التي تهدد حياتهم أو تكون حيواناتهم فريسة لها، ولذلك فكروا في إقامة المصيدة، ومن ثم ابتكروها من خلال أدوات بسيطة وبدائية.

وكانوا يطلقون عليها اسم «لف». وهي عبارة عن حجارة جبلية حادة، ترص ببعضها البعض في خط مستقيم، يبلغ طوله نحو المترين بعمل خط مستقيم يتشكل، بالتوازي، من فرعين متوازنين، وكأنه فلج. ويوجد في مقدمة المصيدة، فتحة تتيح دخول الحيوان إلى داخلها. وصممت لها أحجار خاصة تسد المنافذ، تلقائيا، بمجرد دخول الحيوان المفترس بعد أن يكون انجذب إلى الداخل بتأثير طعم، هو عبارة عن دجاجة أو قطعة من اللحم».

 الدعم المنهجي

لم تتوقف السيرة البحثية للنقبي، عند هذا الحد. إذ يبين في هذا الخصوص، أنه كان يطلب من مختلف أصدقائه والمهتمين، الذهاب إلى تلك المناطق البعيدة، والاستمرار في البحث، إلا أنهم كانوا يرفضون، لتخوفهم من تلك المناطق، معتبرين أنها مجازفة غير مأمونة.

ولم يكتف محمد النقبي بالتقاط الصور الفوتوغرافية للمكتشفات الأثرية، بل أعد لها مكتبة فيديو متنقلة، يضمن فيها البعد المرئي للموجودات. ويشير النقبي هنا، إلى أن استمراره، كان نتيجة الإيمان بالمسؤولية الوطنية، حتى رغم عدم تفاعل المؤسسات المعنية، كما قال.

وويشدد على انه يجد أن البحث الآثاري المتخصص في الإمارات، يحتاج إلى دعم غير متناه، ويتطلب الالتزام بمنهجية حقيقية وواضحة. وذلك عبر توفير مختلف الاحتياجات لتسهيل عملية البحث، من أدوات وأجهزة ومساعدين مؤهلين جيداً.

يقول الباحث محمد النقبي، حول المواد الحية المكتشفة، خلال أعماله البحثية الأثرية، ومدى أهميتها: «إن العمل الاكتشافي، خاصة في مجال الآثار، يحتاج إلى مجازفة، فأنت لا تقدم أو تركز على مادة جامدة، بل تنكب على التنقيب والتعمق في دراسة مرحلة حية للمنطقة، وذلك بظروفها البيئية والمكانية.

ومنها على سبيل المثال، في حقل ومحور المعالم الأثرية في خورفكان، والذي يبرز اكتشافات (النقوش الصخرية)، الموجودة على سفوح الجبال أو بالقرب من الأفلاج والعيون أو على ضفاف الأودية والأماكن القريبة من الشواطئ البحار، متخذا أشكالاً مختلفة. فمرة نجدها تتخذ تجسيدات نقش رسمي، لبشر أو حيوانات.

أو ربما تكون على شكل رموز وإشارات: كالأسهم والمربعات والمستطيلات. أو طبقا لأشكال كتابية لها هوامش، ويعود أقدم هذه النقوش إلى الألف الرابع (ق م)، حسب ما ذكر أحدهم، لكن غالبية هذه النقوش، ترجع إلى الألف الأولى قبل الميلاد، ومنهم من يقول انها مجهولة التاريخ، مثل: نقوش الرفيصة وسيح لواسط ووادي شي وجبل المكسر وجبل الخرست وجبل أبو العبس وميناء خورفكان ونقوش جبل الحوامي.

 خرائط

المتغيرات العمرانية واتساع رقعة البناء في خورفكان، ساهما في دفن وردم العديد من المواقع الأثرية في المنطقة، إلى جانب جهل بعض الأشخاص بأهميتها التاريخية، وهو ما سبب تعرضها للنهب والسرقة والتخريب، وعلى أثر ذلك، سعى النقبي إلى وضع خرائط لمعظم الاكتشافات، ومنها المدافن. ويتحدث النقبي عن ذلك: «جلست كثيراً، وبتأثير اهتمامي العميق بمادة البحث (التنقيب الأثري في خورفكان)، مع خبراء التنقيب عن الآثار، الذين توافدوا إلى المنطقة.

وتعرفت خلالها على معلومات متشعبة ومهمة. ومن هنا أجزم، بأني نلت القليل من الخبرة المتواضعة في بدايات المشوار في هذا الشأن. ومن ثم عملت، طوال السنوات الماضية، في عمق مفاصل هذا الاتجاه، سعياً إلى تأسيس وإنجاز خريطة متكاملة، ترصد مواقع المدافن والنقوش الحجرية في مكون آثار المنطقة، وذلك بهدف ضمان بقائها متاحة أما الباحثين في التاريخ، تمدهم بما يريدون من معلومات.

وكذا لأجل توثيق مجمل تلك المواقع، بعد أن تعرض البعض منها إلى عمليات هدم وتخريب. وأرى أن زخم الوفرة في المنطقة، بالمدافن والقبور، يعود إلى الاستيطان البشري الهائل فيها، إذ تكاد لا تخطو قليلاً، باتجاه البحر أو السهل أو الجبال والوديان، إلا وتجد العديد من المقابر التي تعود إلى أزمنة بعيدة، ويصل عددها إلى 20 مقبرة.

ولا يستطيع الشخص غير المتخصص التفريق بينها. وهكذا قررت تجنيد نفسي لاكتشاف مدينتي خورفكان، من أعلاها إلى أدناها، وقمت بالصعود إلى قممها وتسلق الجبال واستكشاف الوديان والسهول. و(جدولت) الأيام والأوقات، وأفردت برنامج عمل وخططا محكمة، لهذا الغرض».

 4000 سنة

يحكي النقبي، عن مضمون اكتشافاته الأثرية، وما حواه كتابه من ركائز علمية معرفية بارزة: «من خلال اطلاعي على تقارير أعدتها فرق التنقيب عن الآثار، والتي كانت قد قدمت إلى خورفكان، اتضح لي وجود مستوطنات ومقابر فوق قمم جبال، مطلة على ميناء خورفكان، ومن المتوقع أن عمرها يصل إلى 4000 سنة:

أي منذ الألف الثانية قبل الميلاد، ولم تكتشف إلا في العام 1996. ومع هذا الاكتشاف، تبادر إلى ذهني سؤال عن السبب الذي جعل الأهالي يدفنون موتاهم فوق قمم الجبال وسفوحها، بدلاً من سهولها، وبالنظر إلى طبيعة منطقة خورفكان، ودراسة شتى المعطيات والأسس حول سمات البيئة المحلية، تبين لي ان السبب يكمن في ان هذه المنطقة، كانت مغمورة بالمياه منذ أزمنة غابرة.

وهو ما جعل سكانها يتوجهون إلى الاستقرار فوق الجبال، ذلك لنقاء الهواء، وغاية الحصول على المزيد من الأمان. وهو ما جعلهم يدفنون موتاهم بالقرب من مساكنهم. وفي هذا المقام أقدم نموذجاً، حول اكتشافات نوعية جرت في عام 1995.

إذ وُجد مستوطن واسع الانتشار، يضم ثلاثة جبال مطلة على ميناء خورفكان. وتبين أنه حدث في المنطقة المذكورة، قتال شديد، حدث بين قاطنيها ومجوعات من الراغبين في استعمارها. وهو ما جعلهم يدفنون موتاهم الذين فارقوا الحياة على إثر القتال في المعركة تلك، عند مكان إقامتهم».

 حصون وأبراج

يتعرف المتصفح لكتاب «خورفكان في ذاكرة الزمان»، على خارطة موسعة ومفصلة، تعنى برصد الحصون والأبراج في منطقة خورفكان. وهي خارطة توثيقية متقنة، مزودة بالصور الفوتوغرافية، كما تتضمن توضيحات وتحديدات عن الاتجاهات الدقيقة لموقع كل منها.

ويشرح مؤلفه، محمد النقبي، ملامح ومحطات قصة رحلته مع البحث في آثار منطقة خورفكان، مؤكداً أن إعداد الخريطة، أتى بدافع التحصن والاحتياط من تأثيرات التوسع العمراني، والذي ساهم في إخفاء بعض معالم تلك المكتشفات. وذلك إضافة إلى رغبته الملحة، في أن يجعل مفردات هذه المعالم الأثرية مدرجة في صيغ توثيقية متخصصة.

كما يوضح النقبي، في ما يخص التنقيب عن الحصون والأبراج، أنه بذل مجهودات خاصة، ركز خلالها على أن يسير، ولأوقات طويلة، على ضفاف الأودية والربى، بهدف معاينة تلك الحصون والأبراج بنفسه، ومن ثم قام بتدوين مشاهداته عبر الفيديو والصور الفوتوغرافية. وعرضها، في خطوة لاحقة، على رجال ذي خبرة، غاية التمييز فيها بين ما هو حديث وقديم، إلى جانب الحرص على معرفة بانيها، على مر السنين، مشيرا في هذا الخصوص، إلى خصوصية بناء تلك الحصون والأبراج، والتي تتخذ أكثر من شكل، ومنها ما يسمى:

البوم والمربعات والمقابض. ويلفت الباحث الإماراتي إلى انها، توجد بكثرة في خورفكان، بفعل اعتبار الحصن، مركزاً للسلطة ومعقلا يحتضن المهاجرين من مختلف المناطق، ومقرا للقائد أو كبير القوم. كما انها كانت تشكل، مع المساجد والسوق، نواة للمستوطنة التي مثلت مع الحصون والبيوت المشيدة باللبن، السور الممتد، تحفة نوعية. إذ تنتشر فيها الشوارع المتعرجة التي تؤدي إلى البساتين.

 نماذج

يقدم النقبي في كتابه، نماذج متعددة للحصون والأبراج في خورفكان. ومنها، الحصن البرتغالي. ويقول في هذا الشأن: «عندما وقعت بلدة خورفكان في قبضة البرتغالين، في عام 1507 م، أرادوا أن يؤسسوا فيها قاعدة عسكرية تشدد قبضتهم على البلدة، وأن ينضم أهلها إلى خدمتهم، وينقادوا لأوامرهم التي تمكنهم من السيطرة التامة على البلد، وتدير شؤونهم الداخلية والخارجية على حد سواء.

ولأجل ذلك، أقاموا حصناً في هذه البلدة، وهو حصن مثلث الشكل في عام 1638، وأقاموا فيه ثكنات عسكرية، من غرف وأبراج وحمامات وجنود، لتحرسهم من الداخل والخارج، وبني من حجارة الجبل ومن الطين والجص، ولا تزال بقايا جدرانه قائمة إلى اليوم». ويشير النقبي، أن توصيفاته تلك، حول الحصن البرتغالي، ذكرها طبقاً لما أفاد به الباحث عيسى عباس، رئيس بعثة التنقيب الأثرية المحلية، في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة.

 سلسلة جديدة

 يؤكد الباحث محمد النقبي، انه، وفي سياق جهوده ومشروع عمله الفكري المعني بدراسة وتوثيق تاريخ وآثار أهم المناطق الساحلية في دولة الإمارات، يعتزم متابعة طريق البحث والتأليف، إذ إنه، حالياً، في صدد إصدار سلسلة بحثية متخصصة في الحقل نفسه.

 سيرة

محمد خميس محمد علي بن عبود النقبي، باحث وكاتب إماراتي. متخصص في مجال الآثار والتاريخ، ومصمم للخرائط التراثية والأثرية. وهو حاصل على بكالوريوس من جامعة الإمارات ـ قسم التاريخ والجغرافيا. عمل مشرفاً إدارياً في مدرسة عبدالله بن ناصر. وخضع إلى عدة دورات في مجال التربية والتعليم. كما أنه شارك في عدة ورش لفن التصوير الضوئي.

Email