موهبة نبتت من رحم المعاناة

شيخة السويدي.. أم المصورين وملهمتهم

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كان التوثيق ضرورة حياتية، فإنه عبر صورة فوتوغرافية جمالية، أنفع وأجمل وأكثر قدرة على الحياة ونقل روح اللحظة أو تلك الأحاسيس التي تنطوي عليها أية وثيقة وتختفي خلف مادتها، سواء كانت وثيقة مكتوبة أو مسجلة أو مصورة.. هذا ما دأبت عليه شيخة السويدي، الملقبة بـ«أم المصورين» في الإمارات، منذ أكثر من نصف قرن.

 ضمن تجربة شيخة السويدي الفنية في عوالم التصوير الضوئي، يمكن قراءة ما بين السطور أو الخطوط، أو حتى قراءة الوجوه، ذلك عن طريق تقاسيمها وحركة العيون والجسد، وصولا إلى البيئة المحيطة ومفرداتها التي تحتضن الموضوع المراد توثيقه، ولذلك يقال رب صورة أغنت عن ألف كلمة، خاصة عندما تنطوي تلك الصورة على أبعاد وجدانية وتحمل رسالة.

إذا كانت الصورة وتقنياتها وآلات التقاطها قد باتت سهلة المنال والتعلم والاقتناء والتداول، فإن هذه الحال لم تكن هكذا دوما، إذ مرت أوقات كان كل ذلك بعيد المنال أو ضربا من خيال، فقلة هم الأشخاص الذين أتيحت لهم في أوقات سابقة، فرصة أن يلتقط لهم صورة.

فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بأن يقوموا هم بالتقاط صورة أو اقتناء آلة تصوير، لكن شغف الانسان يتكفل أحيانا بالتغلب على أي صعاب من شأنها أن تعيق تجسيد ذلك الشغف على الأرض، رغم قلة الحيلة حينا وربما ضيق ذات اليد أحيانا. 

قصة البدايات

إذا أخذنا كل تلك الظروف الصعبة التي كانت كثيرا ما تقف حائلا، أمام تحقق هواية ما، وأضفنا إليها عوامل خاصة، اجتماعية ونفسية، كون من يريد ممارسة تلك الهواية فتاة في مقتبل العمر، تعيش في مجتمع تقليدي محافظ (الإمارات)، خلال منتصف القرن الماضي.

فلنا أن نتخيل مدى قوة الشغف الذي استحوذ على تفكير شيخة مبارك السويدي، حين استعارت آلة تصوير وانطلقت في خمسينات القرن الـ20 على متن قارب، باتجاه مومباي الهندية، وراحت تلتقط الصور هناك، قبل أن تعود بحصيلتها الأولى منها، ولنا أن نتخيل كم هي جديرة بلقب "أم المصورين" أو "شيخة المصورين".

 

لوحة على الكرتون

حين نعلم أن بداية شيخة السويدي في التصوير الضوئي كانت مع الرسم التشكيلي، ذلك عندما رسمت وعمرها 15 ربيعا، لوحة على الكرتون لستارة طبعت عليها صور رجال ونساء، فإننا نعلم بالضرورة أنها ولدت وهي تملك عينا دقيقة في التقاطاتها. كما انها تتمتع بلغة بصرية فطرية لم تكن بحاجة إلا إلى شرارة أو بيئة حاضنة، كي تترعرع فيها تلك الامكانية وتتطور لتتحول لاحقا إلى موهبة واضحة المعالم لا لبس فيها.

وذلك أن مجموعة شيخة من الصور التي التقطها على مدار أكثر من 60 عاما، تشي بشكل واضح أيضا، بأن بؤرة اهتمامها بالتصوير الضوئي لم تنحصر في الجانب الكمي منه ولم تتوقف عند حرصها على تنويع مواضيع صورها، بل امتدت لتطال نوعية وجودة تلك الصور من الناحية التقنية، بما في ذلك من حسابات تتعلق بكمية الضوء والمسافة وظروف الطقس ونوعية الكرتون والأحماض المستخدمة في عملية تظهير الصورة.

نمّت شيخة السويدي موهبتها في الرسم والتصوير الضوئي، في زمن كانت خلاله الامكانيات شحيحة، لكن إرادة الفرد كانت تعوض ذلك الشح، إن لم نقل إنها كانت تشكل حافزا إضافيا على الابداع وعلى البحث عن وسائل تسمح للإنسان بالتعبير عن مكنونات نفسه وما تكتنز من جماليات الطبيعة والحياة..

وهكذا اعتنت جيدا بصقل مهاراتها ومضمون موهبتها، في بيتها وحيها، قبالة ساحل دبي، في عهد الشيخ سعيد آل مكتوم، رحمه الله. ومنذ ذلك الحين، راحت توثق بالصورة واللوحة، لحياتها ولحياة مجتمعها وبلدها، مثل ما راحت تعكس في تلك الأعمال، لحظات لم تكن الذاكرة وحدها، قادرة على حفظها لولا آلة تصوير شيخة السويدي أو ريشتها التي تمكنت من تخليدها، فباتت بمكوناتها وموضوعاتها، تشكل جزءا من التاريخ الوطني والانساني.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن هوايات شيخة السويدي لا تقتصر على الرسم والتصوير فقط، وإنما تشمل كذلك الأشغال اليدوية فضلا عن أنها تعشق الزراعة والخياطة والتطريز والاعمال التركيبية وقيادة السيارات، وفوق هذا وذاك، هي شاعرة من الدرجة الأولى، فإننا ندرك حينها، اننا نقف أمام فنانة شاملة.

.. في فريج المرر

سافرت شيخة إلى الهند لما كانت فتاة صغيرة، وشكلت تلك الرحلة العلاجية محطة فاصلة في حياتها، خاصة وأنها اصطحبت معها كاميرتها الخاصة، وهي تصف تلك الرحلة: "كانت رحلة بغرض الاستشفاء في الهند، وأبحرنا في مركب تقليدي يدعى سردانة، وكان ذلك في منتصف خمسينات القرن الماضي".

واعتبرت شيخة تلك الرحلة بمثابة فرصة لتوثيق المشاهدات، الأمر الذي أثار استغراب جميع من حولها، بمن فيهم الأطباء والممرضات، كما تقول. لكن المرحلة الأكثر أهمية في تعلق شيخة، بعالم الصورة، كانت عند بلوغها سن الـ 15، واطلاعها على الصحف التي كانت تفد من الدول العربية، وتقول في هذا الصدد: "كنت أنبهر بشكل كبير بتلك الصور، والتي حاولت تقليدها من خلال مجموعة من الألوان التي قمت بشرائها، كي ألبي هذه الهواية، ولقيت تشجيعا كبيرا من خليل قمبر".

نشأت شيخة وترعرعت في فريج المرر، في منطقة ديرة بدبي، في الأربعينات من القرن الماضي، ثم انتقلت مع عائلتها إلى بر دبي بينما كانت في سن مبكرة، وهو ما أتاح لشيخة تطوير رؤية بصرية متعددة الأوجه، ومن ثم راحت تستشعر ذلك الشيء الدفين الذي نسميه شغفاً، فبدأت موهبتها تظهر من خلال تعلقها بالصور والرسومات.

ووجدت الحل في ممارسة هواية التصوير من خلال استعارة كاميرا من شخص هندي، يدعى جيتاه، كان يعمل في مكتب كرمكنزي: "مكتب خاص بخدمة المراكب" كان تابعا للشيخ سعيد آل مكتوم، رحمه الله، آنذاك. كما ساعدها شخصان آخران من بريطانيا، أحدهما كان يُدعى جورج شبمان، وهذا الاخير شجعها كثيرا على ممارسة التصوير.

وكانت تلك الكاميرا من نوع "أغفا"، وحبها ورغبتها في التصوير دفع أحد المحيطين بها، وهو محمد الشريف، إلى مساعدتها على اقتناء آلة تصوير تجوب بها الفريج، لتلتقط ما يستهويها من مناظر. وكانت الكاميرا «أغفا»: (أم الخرطوم)، دليلها في تلك الرحلة داخل الفريج. ولم يقف الأهل وقتها، عائقا أمام ممارستها التصوير وحبها الكبير له، متخطية بذلك الحواجز النفسية والاجتماعية المحتملة لتشكل تجربتها.

وهو ما شكل مثالا حيويا على انفتاح المجتمع وسماحته. وكذلك دليلا يحكي للأجيال حكاية الآباء والأجداد وظروف معيشتهم، من خلال آلة تصوير، تقول شيخة بشأنها:"نادتني فلبيت النداء، وباستخدامها، بدأت تصوير الأحياء القديمة والفرجان التي تنقّلت بينها في فترة الخمسينات (القرن الـ20)، وكذا بيوت العريش التي عشت فيها، والبيئة البحرية وخور دبي وسفن الصيد واللؤلؤ والتجارة". وتؤكد شيخة في هذا الصدد، أنها فنانة بالفطرة، ولم تتعلم أصول التصوير.

تتمتع شيخة بذاكرة قوية تمنحها قدرة استثنائية على استرجاع ظروف كل صورة التقطتها، فهي تدهش كل من يستمع إليها، بينما تستعيد تلك الذكريات، وتسمي الأشخاص الذي يظهرون في صورها والأمكنة التي التقطت فيها وتاريخ ومناسبة التقاطها. وقد تستفيض قليلا وتوضح حتى المشاعر التي كانت تختلج في صدرها، لحظة التقاط هذه الصورة أو تلك.

تفتخر شيخة بلقب "أم المصورين". وتحرص كل الحرص، على توصيل رسالتها لمن حولها من أبناء وأحفاد، خاصة وأنها رسالة وجدانية مفعمة بمشاعر الحب للوطن والمجتمع والبلد. وتقول إنها تحرص على أن تترك بصمة فيه قبل الرحيل.

ونجد أنها حريصة بشكل فريد، على حضور فعاليات التصوير الضوئي على مختلف أنواعها، فقد التقيناها على سبيل المثال، في معرض "بعيون إماراتية"، الذي احتضنته مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية أخيرا، حيث أعربت عن فرحتها بانتشار حركة التصوير الفوتوغرافي في الإمارات، مثلما أعربت عن اعجابها الشديد بأعمال المصورات المشاركات في ذلك المعرض.

وقالت إن أبناءها وأحفادها يسيرون على خطاها ويصورون ويرسمون أيضا، ووجهت شيخة رسالة إلى المصورات، تشد فيها على أياديهن وتشجعهن على المضي قدما في هوايتهن، وتحثهن على متابعة تصوير مفردات تراثهن في المدن والأرياف، وتدعوهن للحفاظ على ملامح هويتهن الوطنية، وتقول:" إذا لم تقم بنات البلد اللواتي نفتخر بهن، بالواجب الوطني، فمن يفعل ذلك؟".

 

 

 

بداية المشوار

ولدت شيخة جاسم محمد مبارك السويدي، في عام 1936، في فريج المرر بمنطقة ديرة في دبي. وهي أم لأربعة بنات وولدين. وتهوى، بالإضافة إلى التصوير، الأشغال اليدوية والحياكة والطبخ والشِعر. انتقلت منذ نعومة أظفارها مع عائلتها، من فريج المرر إلى بر دبي في منطقة شارع الفهيدي حاليا، خلال فترة منتصف أربعينات القرن الماضي.

ذلك إبان حكم الشيخ سعيد آل مكتوم، رحمه الله، حيث كان عمرها لا يتعدى الـ 9 سنوات بعد أن فقدت أباها، فتأزمت أوضاع العائلة الاقتصادية لتنضم هي ووالدتها إلى منزل محمد شريف الملقب باسم أرباب وكيل الشيخ سعيد آل مكتوم، رحمه الله.

متابعة حثيثة 

تحرص شيخة السويدي على حضور فعاليات التصوير الضوئي على مختلف أنواعها، فقد التقيناها على سبيل المثال، في معرض "بعيون إماراتية"، الذي احتضنته مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية أخيرا، حيث أعربت عن فرحتها بانتشار حركة التصوير الفوتوغرافي في الإمارات، مثلما أعربت عن اعجابها الشديد بأعمال المصورات المشاركات في ذلك المعرض.

وقالت إن أبناءها وأحفادها يسيرون على خطاها ويصورون ويرسمون أيضا، ووجهت شيخة رسالة إلى المصورات، تشد فيها على أياديهن وتشجعهن على المضي قدما في هوايتهن، وتحثهن على متابعة تصوير مفردات تراثهن في المدن والأرياف، وتدعوهن للحفاظ على ملامح هويتهن الوطنية.

Email