قطبان متناغمان شكلا جناحي التأسيس في المسرح الإماراتي

صقر الرشود وإبراهيم جلال.. تجربة غنية في أرض رخصبة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

 أعرف الفنان صقر الرشود منذ أيام الشباب.. فنحن في البصرة، نرتبط مع الأخوة الكويتيين، ارتباط الروح والحياة والمصير، وهذا ما أخذته علينا السلطات السابقة. لذا كنت على علاقة حميمة بالمسرحي الراحل، وبصديقيه، رفيقي دربنا: عبدالعزيز السريع وحسين البدر. وأيضاً غيرهمـــا من الفنانيــن الكويتيين. بل إن بعض الفنانين العراقيين من أصل "بصري"، عمل ميدانياً في الكويت وأوصى بأن يُدفن في مقابرها، مثل عازف الكمان عبدالسلام أحمد عبدالرحيم، الملقب بـ(سلومي).

استغربت حين زارني الصديق، الفنان التشكيلي عصام الشريدة، مرسلاً من قبل الفنان صقر الرشود (1941- 1978)، في حوالي العام 1977، إذ اكتشفت أن الثاني، ومع الفنان العراقي إبراهيم جلال (1924-1986)، يعمل في الإمارات، والتي كنت قد زرتها سنة 1967، وتزوجت فيها.

ولكني لم استقر هناك كوني اضطررت للعودة إلى العراق حيث كنت أعمل، حينذاك، مديراً للمسارح والفنون الشعبية للمنطقة الجنوبية في وزارة الثقافة. وكان هدف الزيارة، أن يقنعني عصام، في اللحاق بصقر في الإمارات، طبقاً لطلبه. إلا أنني اعتذرت لعدم رغبتي ترك عملي ومغادرة عوالم تجربتي، آنذاك.

قرار فخيار وتحدٍ

كانت الأيام الأخيرة التي عاشها صقر الرشود في الكويت، حسب علمي، غير مريحة بالنسبة إليه، فثمة خلافات فنية وفكرية، وكذا عوائق مهنية، اعترضته، وهدفت بمجملها، إلى محاولة الحد من نشاطه وتأطير مساقات تجربته. وكان لذلك وقع خاص عليه بحكم أنه، وكما خبره الجميــع، لم يكن يتعـــايش مـــع أي قيد، مهما كان شكله أو نطاقه.

واختـــار أن يبقى مبدعاً عاشقا حريته الفكرية وخصوصيته الإبداعية المنفلتة من أية قيود تأطير أو استكانة أو تقليدية. ولهذا تفردت أعماله بميزات كثيرة، في مقدمتها خروجها من البعد الكويتي، نحو آفاق تجربة عربية رائدة في مجال المسرح، خاصة في ظل تعاونه مع الكاتب العربي المعروف محفوظ عبدالرحمن.

والذي أخرج له صقر مسرحيات عديدة، لعل أهمها: "عريس لبنت السلطان"، التي طاف بها صقــر في المسـارح العربية، مقدماً نموذج عرض احتفاليا ظل مطبوعاً في أذهان من شاهدوه إلى الوقت الحالي.. وكنت حضرت شخصيا، عروضاً حية لهذه المسرحية، مرات كثيرة.

 .. إلى الإمارات

لم يتردد الفنان عبدالرحمن الصالح، في الشروع بتنفيذ فكرة الاستعانة بصديقه صقر الرشود، في شأن العمل المسرحي بالإمارات، وإخطاره بذلك، إذ كان يعرفه جيدا وتجمعه به، كما بغيره من مواطنيه المسرحيين، علاقة مميزة. فهو (عبدالرحمن) صاحب تجربة مهمة في الكويت.. وأصداء إبداعاته وزخمها هناك، حاضرة لا تخفت أو تغيب.. وفعلياً، لايزال أبناء ذلك الجيل، يذكرون (حبابة) عبدالرحمن الصالح.

وكان الصالح على علم بخلافات صقر مع بعض المسرحيين في الكويت، وسمع عن رغبة الأول في الهجرة، وهكذا بادر الى الاتصال به هاتفياً، من قاعة إفريقيا في الشارقة، أثناء بروفات مسرحية "شمس النهار"، في عام 1976 (وهي من تأليف توفيق الحكيم وإعداد عبدالله السعداوي). وأجاب صقر على دعوة الصالح بالإيجاب، فلبى الدعوة فوراً، كونه اتخذ قراراً مسبقاً بالهجرة.

مواجهة الخصوم

تحدث عبدالرحمن الصالح، عن طبيعة تلك الخلافات التي حصلت مع صقر في الكويت، وما تركته من أثر في نفسه، خلال الحفل التأبيني الخاص بالذكرى الثامنة لرحيل صقر الرشود، وذلك يوم الخميس- 25 ديسمبر عام 1986، في مسرح الشارقة الوطني، مؤكداً في ما استعرضه من محاور اشتمل عليها حديثه ذاك، المسجل على شريط فيديو موجود ضمن (أرشيف مسرح الشارقة)، أن صقر أراد أن يتحدى بنجاحه في الإمارات، جميع خصومه. وقد أتى تصريح الصالح في تلك المناسبة، عقب مقال كان نشره في مجلة "الحياة المسرحية" (العدد 22-23 -عام 1984).

قال فيه: إن خروج صقر الرشود من الكويت إلى الإمارات لم يكن عبثاً، بل كان حاله حال كل المبدعين والمثقفين والرواد في العالم، وفي وطننا العربي بصفة خاصة. ولو استرجعنا الذاكرة معاً لوجدنا أن جميع الرواد، على طول الساحة العربية وعرضها، إنما خرجوا بعد أن ضاقت رقعتهم بهم ورحبت بغيرهم من الأدعياء والمنافقين. وطبعاً، لم تكن الأوراق التي تقدم بها الباحثون في "ملتقى صقر الرشود الثاني"، في الكويت، في 20 ديسمبر 2004، لتغرد خارج هذا المضمون، إذ أدرجت جملة تفاصيل توضح ماهية خلافات صقر مع مواطنيه المسرحيين، وتصميمه على النجاح في أعماله في الإمارات.

مبدعان وتجربة

شهدت الإمارات، تفاعلات نوعية، بوصول صقر الرشود، ترافقت مع انطلاق سيل من التحليلات والتحضيرات والتكهنات حول واقع التحول في الإبداع المسرحي، والذي سيتخلق، بالتوازي مع حدث من هذا القبيل كانت الكويت أصلاً، قد اهتزت له.

وأول ما برز في الساحة الإماراتية ومسرحها الوليد، حماس شديد وغير طبيعي، أذكته جملة أسباب، في مقدمتها: الامتداد البيئي- الإبداعي (الكويت - الإمارات)، شهرة صقر وإبداعاته، طموح شباب المسرح إلى بناء مسرح جديد. ووضح جلياً، في هذا الخضم، أن صقر الرشود نفسه، كان أكثر اندفاعاً، إذ جاء مباشرة، من المطار إلى قاعة إفريقيا، ليلتقي شباب مسرح الشارقة الوطني، ويتعرف على كادر العمل في " شمس النهار".

وعمدت وزارة الإعلام والثقافة، لاحقاً، إلى استقطاب صقر ليكون موظفاً فيها. وكان لافتاً هنا، مسارعة صقر إلى استدعاء أستاذه إبراهيم جلال، للمجيء إلى الإمارات، والذي تجاوب مع دعوة تلميذه، واختار أن يفجر مفاجأة إعلانه بهذا الشأن، في بغداد، التي كان مسرحها متألقاً.

وكذا كانت تجربة إبراهيم يومها، أكثر تألقاً، بفضل ما حققه من منجزات في المسرح العراقي.. وهكذا تكاملت وتناسقت مقومات جدارة المكون الإبداعي المسرحي في الإمارات، نتيجة جمعها ومزجها، إبداعات وحماس صقر الرشود، مع علم إبراهيم جلال وعمق تجربته.

. وهكذا وسم صقر مرحلة عمله، القصيرة جداً، في مسرح الإمارات، بالتميز والحيوية والحماسة الموجهة بذخر عشقه العمل. وصقلت، بل تقوت وتجذرت تلك الركائز أيضاً، بما حمله إبراهيم من مفاهيم علمية وأكاديمية، دخلت مسرح الإمارات للمرة الأولى.. فتشكلت في هذا الرتم، معادلة جدلية، شملت في طرفيها حماس الشباب لدى صقر، وحكمة الزمن والتجربة العملية والخبرة الأكاديمية لدى إبراهيم.

نجاحات

حقق الثنائي صقر- إبراهيم، في هذه الفترة، ضمن الساحة المسرحية الإماراتية، منجزات إبداعية كبيرة، كان مستهلها البدء في تأسيس قسم المسرح في وزارة الإعلام، أعقبه اقتراح ركائز ومبادئ الدعم المالي للفرق المسرحية، إلى جانب استقدام المنشطين المسرحيين..

وبذا استقدمت الوزارة، عدداً من المخرجين المسرحيين العرب، الذين أثروا الساحة خلال فترة عملهم التأسيسية المهمة، منهم: خليفة العريفي، عبدالكريم عوض، فاروق أوهان، فاضل الزعبي، الريح عبدالقادر، الأمين جماع، يحيى الحاج، فتحي دياب. كما سعى الثنائي (صقر الرشود وإبراهيم جلال)، إلى تعيين عدد من المسرحيين المواطنين في الوزارة، كمتفرغين في حقل المسرح فقط، ومن بينهم:

سيف الغانم، عبدالله المناعي، مريم سلطان، عبدالله مفتاح. وغيرهم الكثير ممن شكلوا القاعدة المحورية للمسرح والمسرحيين. كما شرع صقر وإبراهيم في محاولة طرح المزيد من المقترحات والرؤى، الخاصة بجوهر ومفاعيل الحركة التأسيسية في تاريخ المسرح.

فترة قصيرة لكن ذهبية

للأسف، لم تكن فترة عمل صقر الرشود في الإمارات، طويلة. كما أنه لم يترك إبداعات مسرحية مكتوبة، جراء انشغاله بالتعرف على التربة المسرحية والبنية التحتية لهذا المجال. ولم يتعد في أعماله، في هذه الأثناء، المسرحيتين، إلا أنه أثر في الحياة المسرحية بشكل كبير، كان فعلياً، أكثر أهمية من إنتاج مسرحية ما، ذلك لأنه أرسى قواعد أساسية في الحياة المسرحية.

شعاع ينحجب

لم تستمر حالة التوهج التي أحدثها وجود قطبين مسرحيين عربيين كبيرين في الإمارت: صقر الرشود وإبراهيم جلال، إذ خطف الموت أولهما، في حادثة تراجيدية مأساوية بينما كان يقوم بواجبه المهني في المنطقة الشرقية، بصحبة الفنان الراحل عبدالله مفتاح، حيث فاجأهما الضباب الكثيف، وهما في السيارة، في طريق عودتهما بعد استكمال واجبهما، فحجب الرؤية عنهما.

وتدهورت السيارة، فنتج عن الحادث وفاة صقر الرشود، وكان ذلك في شهر ديسمبر من العام 1978، لتضع هذه النهاية المأساوية حداً لحلم المسرحيين الإماراتيين، بل إن حلم صقر ذاته دُفن معه بهذه النهاية.. إلا أن حقائق وتأثيرات نوعية، كثيرة، تركها صقر، بقيت راسخة في عمق الحياة المسرحية الإماراتية، لا نزال نتلمسها ونعايشها، حتى اليوم، وإن كان بعض شبابنا لا يدركون إلى من تنسب أو من أوجدها وعزز حضورها.

أبى ذلك الحادث المأساوي، إلا وأن يطال في تأثيراته، وإضافة إلى المسرحيين الإماراتيين، إبراهيم جلال، بشكل جوهري، إذ حرمه جناحه الذهبي الذي يحلق به في فضاءات الإبداع، بعد أن جعله وحيداً في ساحة بكر واسعة، تمتد من أبوظبي وحتى المنطقة الشرقية.. ولكنه حاول، مرات عديدة، أن يتغلب على هذا الجرح، فأخذ يبذل جهوداً استثنائية، وطفق يعمل دون كلل أو ملل أو توقف، طوال تلك المرحلة.

والتي رأى أنه اشتدت أهميتها وموازين مسؤولياتها مع رحيل صقر الرشود. وعلى هذا الأساس تسلح إبراهيم بإرادة صلبة، حرص من خلالها على تحقيق قفزات فريدة من نوعها في تطور المسرح الإماراتي، فقدم مشروعاً مكملاً لمشواره في هذا الخصوص، والذي كان بدأه مع الراحل صقر الرشود. ويعد هذا المشروع من أهم المفاصل الأساسية في بنية عمل المسرح الإماراتي وارتقائه.

وفي هذا الصدد، تتضمن الوثيقة المؤرخة بـ: 29-11-1978م، والمنشورة في كتاب "تاريخ المسرح في الإمارات"- 1960-1986، تفاصيل مشروع جلال، بشأن نهضة مسرحية متطورة، تبدأ من الممثل، مروراً بالكاتب.

فالمخرج.فالجمهور، فالبنية التحتية.. وتشتمل أيضا، على اقتراح جلال، القاضي بالحاجة إلى الدراماتور المتخصص في علم المسرح، وضوروة إدخاله إلى ساحات العمل في مسرح الإمارات، مع تأكيده على أهمية تنظيم دورة مسرحية متكاملة، طبقا لما أدرجه وشرحه في هذا الشأن. وكذا حاول إبراهيم جلال، في الفترة التي تلت ذلك، تحديدا في عام 1980، التنسيق مع وزارة التربية لتأسيس وإيجاد معهد مسرحي متوسط، يفي بغرض تمكين الكوادر المسرحية وتأهيلها، إلا أن المشروع لم ير النور.

فرق «مسرح صقر الرشود»

هول كبير وفجيعة لا توصف، خلفهما رحيل صقر الرشود، في الساحة المسرحية الإماراتية.. فكان أن تعددت أشكال ردود الفعل في هذا الشأن، فبدلت فرق مسرحية عديدة، اسمها وحولته إلى "صقر الرشود". وفي مقدمة من سار على هذا النهج، مسرح رأس الخيمة الوطني (الحالي)، إذ غير مسماه إلى "مسرح صقر الرشود في رأس الخيمة".

لا شك في أن المسرح في الإمارات، يعتز كثيرا بتاريخ وتجربة الثنائي: صقر الرشود وإبراهيم جلال، حتى مع قصرها. ذلك كونها مثمرة أفادت في تعزيز وترسيخ مقومات وركائز مفصلية، وجهت وأغنت الحركة المسرحية.. إنها حكاية جميلة ثرة في أرض خصبة، تلم في قطبيها سيرة تجربة مبدعين في أرض خصبة غناءة.. هكذا هي نقطة الجوهر في قصة نجم عالم الإخراج المسرحي العربي وصاحب المنهج والأسلوب الجاذب: صقر الرشود. وكذلك إبراهيم جلال، الأستاذ المتملك رؤية علمية أكاديمية عالية المستوى، والذي حاز على شهرة مميزة بفضل تجربته الواسعة، عربياً وعالمياً.

كلاهما رحل .. لكن لا يزال أثرهما باقياً في الإمارات وفي مسارح بلدانهما، بل وأيضاً، في العديد من المسارح العربية، وضمن التاريخ المسرحي العربي الذي يستذكرهما باعتزاز وفخر.

 

 

Email