مباني دبي القديمة زخارف تجدل الحكايات

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تنفتح دبي على حداثة العمارة، بثقة كبيرة، كونها لا تزال تبحث عن زخارفها في مخزون تراثها الممتد عبر السنين، فتنهل منه وتوظفه معيدة له روح بريق لا يخفت. وهكذا تجد أن الأبنية القديمة فيها، وبعد أن اختبرت جماليات تلك الزخارف ردحاً من الزمن، تبقى تقاوم كل مغريات الأبراج المعدنية الشاهقة. فتتحدى تأثيرات أي من الظروف، لتعود بقوة وتشويق.

كما الحادث الآن، إلى تصاميم المباني القديمة في المدينة، أو حتى الأخرى ذات الطابع العصري، من خلال الزخارف الجصيّة الجميلة المستمدة من معينها التاريخي بهذا الصدد، والذي يحاكي ويعكس لون البحر وأشكال النباتات. وغيرها من مفردات البيئة المحلية.

 

ليست دبي، وحتى في ظل ما تتضمنه من أبراج ذات مواصفات عالمية، مصممة وفق طابع عصري متقدم، ليست بغريبة عن نماذج العمارة الإسلامية ومضامينها، أبداً. فمفردات تصاميم وزخارف هذه العمارة، حاضرة في كل مكان فيها.. إذ تجد مختلف أنواع الأعمدة والأقواس والنوافذ، والمكونات المعمارية التي سادت في العمارة القديمة بالحضارة الإسلامية.

وتعلمتها أجيال من البنائين. ودبي، في هذا الرتم، لا تعاني من مشكلة استحواذ الأبراج الشاهقة على فضاء واسع، ذلك لأن بنيتها القديمة لا تزال تعيش حاضرها، بل إن هناك توجهاً عمرانياً يتضمن نقل الزخارف إلى الأبنية الحديثة، بعد معالجات وصياغات جديدة تلائم كل ما هو جديد.

 

لوحة فنية

تنسج حركة الشمس في انعكاسها على مباني دبي، التي تحوي مجموعة زخارف جصيّة تراثية بديعة، لوحة فنية تشكيلية دائمة التأثير على الرؤية البصرية. ومما لا شك فيه أن لتلك الزخارف وظيفة لها علاقة بالنفس. وهي زخارف زيّنت، طويلاً، جدران الأبنية القديمة في دبي، ونفذت تلك الفنيات، بتقنيات متنوعة: طريقة الحفر، الصب، التفريغ، التكوين. وطالما قامت الأيادي الماهرة في صياغة أشكال وزخارف تناقلتها الأجيال.

إن فنون الزخرفة بالجص عالم يهتم بالتشكيلات المتنوعة، ولذلك هو يتحوّل إلى فن قائم بحد ذاته، وتصاميمه وتنويعات تشكيلاته، في العديد من المباني بدبي، تضفي بجمالياتها على المكان، بل وتخلق علاقات جمالية جديدة في التشكيل المعماري الكلي للأبنية القديمة في دبي، ضمن المناطق التراثية التي حافظت على الهوية الوطنية الإماراتية، وتتنوع هذه التشكيلات الجصيّة من مكان إلى آخر. وبهذا هي تعطي تنوعات بصرية مختلفة، حسب العلاقة بين الضوء والظل. ولعل من مظاهر الفن الإسلامي في هذا السياق، ما يتمثل في الزخارف الجصيّة والنحت في الحجر. ولكن يبقى الطابع الزخرفي أحد مكوناته.

وتعكس التصاميم الزخارف المنقوشة على مباني دبي التراثية، بانورامية لوحة جمالية لماهية مضمون الفنون الإسلامية، والتي اقتصر فيها فن الحفر والنقش، على تصوير نقوش لأجزاء نباتية مثل أوراق الأشجار وفروعها، في قالب تشكيلات رائعة، أو في نمط زخارف هندسية رشيقة، وهو فن قائم بذاته فرض نفسة بقوة، كما تظهر فيه علامات التجريد والتحوير.

واللافت في هذا الصدد، ما تحويه تلك المباني من تفرعات لأنواع فن الحفر والنحت في الحجر، والذي ينقسم أساساً، إلى نوعين: غائر وبارز. أما الأول فهو ما كان أعلى مستوياته موازياً لارتفاع سطح اللوحة المنحوت فيها، ويمكن تسميته بالحفر. وأما الثاني (البارز)، فينقسم إلى أقسام عديدة، منها: النحت الخفيف البروز، النحت شديد البروز، النحت المائل، النحت المجسم أو المشكل من جميع الجهات.

 

فروع

إن بانورامية المشهد الذي يتجسد في مكون اللوحة الجمالية لمباني دبي التراثية، يحوز نكهة تشويق من نوع خاص، كونه يصوغ توليفة جامعة شاملة لنماذج، تضم مختلف فروع الفنون الإسلامية وتنويعاتها، في تطبيقها ضمن التصاميم المعمارية، متضمنة النحت في الحجر والجص، حيث تزين وتكلل شتى الوحدات المعمارية المختلفة، كالمداخل والواجهات والأفاريز والأعمدة والمحاريب والشرفات.

ولا تغفل هذه الصيغة المواكبة لروحية الفنون الإسلامية، ضمن تطبيقات فنون الزخارف في العمارة التراثية لمدينة دبي، تطورات العناصر الهندسية والنباتية والحيوانية، في كافة مراحلها وألوانها، ومنها تلك المبالغة في زخرفة الخط الكوفي بأشكال الأوراق النباتية والأزهار. وكان هناك أعمال من النحت في الجص تتمثل نماذج بعضها، في "محاريب "ونوافذ وعقود وقباب الأبنية القديمة في دبي.

 

مزيج جاذب

إن دبي، ومع تطورها، أبرزت تاريخ الزخرفة الإسلامية في المباني الحديثة بشكل فريد وجاذب، إذ إنها تستخدم لدرجة كبيرة، فنجدها في كل التفاصيل، بدءاً من الثريات في الفنادق، وأيضاً أسقف الغرف، ووصولاً إلى نوافير المياه المزخرفة، ويمكن أن نجدها في كل ما يحيط بالأبنية من هذا القبيل.

وحرصت دبي على اختيار أهم الفنانين لتنفيذ التصاميم المطلوبة بهذ الصدد، ومنهم أوين جونز صاحب كتاب "فن التزيين"، الذي يدرّس في كل جامعات الهندسة في الغرب. والزخرفة المطبقة في دبي، تحديداً التي نقلت من الغربيين (ذات الطابع الغربي الصرف أو الاستشراقي)، نفذت بدقة متناهية، وبالتالي فهي تعد توثيقاً حقيقياً لما كان في القدم، لأن الزخرفة بخلاف التشكيل، كانت تعتمد على النقل الواقعي والحقيقي.

فيما التشكيل الاستشراقي كان يتم أحياناً من دون أن يزور الفنان البلدان الشرقية. وتعتبر الخطوط العربية جزءاً من الزخرفة، وتحديداً الزخرفة النباتية، التي تعتبر من الزخارف المهمة التي تميّز بها الفن الإسلامي، حيث ابتكرت في تلك الفترة أشكال نباتية مختلفة خرجت عن الأشكال الطبيعية، وقد جاءت نتيجة للتأملات العميقة في الطبيعة.

ومن بين ما تحويه مباني دبي، في هذا الإطار، تبرز أنماط هندسة الزخرفة، التي اشتهرت أيضاً منذ القدم، وهي تعد نوعاً آخر للزخرفة الإسلامية، حيث برع المسلمون في استعمال الخطوط الهندسية وصياغتها في أشكال فنية رائعة، فظهرت المضلعات المختلفة، والأشكال النجمية، والدوائر المتداخلة، وقد زينت هذه الزخرفة المباني، كما وشحت التحف الخشبية والنحاسية، ودخلت في صناعة الأبواب وزخرفة السقوف، مما يعد دليلاً على علـم متقدم بالهندسة العملية، وهذا بمجمله يتجسد في صورة تصاميم خلاقة، ضمن عدة مبان أثرية وعصرية في دبي، مشكلاً لوحة تمزج جماليات الحاضر والماضي، بصيغة نادرة الوجود.

وهناك نوعان من الزخرفة: الحفر الكامل ــ الذي يسمح بالرؤية من كلا الطرفين، نصف الحفر. وكذلك فإن الرسومات الزخرفية إما أن تكون زخرفة نباتية تظهر فيها أشكال النباتات وأوراق الشجر، أو زخرفة هندسية معقدة.

 

عملية ويدوية

يستخرج حجر كبريتات الكالسيوم (الجبس والجص) من منطقة جبل علي ومنطقة القرهود بالطرق التقليدية اليدوية، حيث يتم تكسير الكتل الكبيرة من الجبل، ثم تقطع إلى كتل صغيرة لا يزيد قطرها على 25 سنتيمتراً، ثم تجمع فوق بعضها بطريقة القبو المغلاق، والتي تسمى "الكورة"، وذلك مع ترك فتحة تؤدي إلى التجويف الداخلي للكورة. وهذه الفتحة تكون بعرض 40 سنتيمتراً، وبارتفاع 60 سنتيمتراً.

بحيث تسمح بمرور الكتل الخشبية في داخلها، للبدء بعملية الحرق. ثم تبدأ عملية الحرق والتي تستمر مدة تتراوح ما بين الـ 24 والـ 48 ساعة حرق متواصل، حتى يتم الحصول على مادة الجبس، ثم تُأخذ الأحجار فتبرد، وبعدها تُطحن للحصول على الجبس الخشن. ومن ثم تُنخل في مناخل خاصة، للحصول على الجبس الناعم الذي يستخدم حالياً في أعمال الديكور الواسعة الانتشار.

كما أنه استخدم في أعمال الديكور والزخرفة كافة، منذ العصر الفرعوني وإلى الآن وهو ما أوضحه، وبينه بالتفصيل، الباحث أشرف طنطاوي، في كتابه "مدخل في علم الزخارف الجصية وأساليب ترميمها"، الصادر عن إصدار جمعية التراث العمراني في دبي.

 

إنتاج الجبس

قضت الكسارات على الطريقة القديمة في استخراج الجص، وتحكم أشكال وطرق استخدام الجص، آليات وعمليات إنتاجه، بحيث يكون جبساً ناعماً جداً، أو عادياً، ويستخدم الأول في أغراض الديكور لتكوين عملية تشكيلية بسيطة وسهلة، وأما الخشن، فيستعمل لأغراض البناء كمادة تربط بين الأحجار.

 

نماذج الزخارف الهندسية

هناك نماذج متنوعة من الزخارف الجصية أبدعتها أياد إماراتية، تطبق في تصاميم المعمار ذات اللمسات التراثية، ضمن دبي، ومنها: الزخارف الهندسية المستطيلة (أرابيسك، وردة بإطار حلقي، نموذج ترس، معينات ودوائر حلقية، دوائر متقاطعةـ مربعات متقاطعة، نموذج معين، دوائر متوازية)، الزخارف الهندسية المعقودة (نموذج نجمة ومروحة، نموذج كوكبي، نموذج دوائر مروحية، دوائر متقاطعة ومروحية، ترس مروحة، الجرة، أرابيسك ومروحة). وأما الزخارف النباتية، فتحوي:

زهرة الكاس، مزهرية مفتوحة، مزهرية بستوني، زخرف نبات الزيتون، زهرة اللوتس، تصميم نباتي مركزي. وأما التيجان والعقود والحليات الركنية، فهي تشكل تيجان الأعمدة في العمارة التقليدية، وتوظف في نمط تصاميم: عمود دائري بتاج زهرة اللوتس مزخرف بالفحم، عمود دائري بتاج ناقوس يحمل عقداً أفقياً، عمود دائري بتاج ناقوس يحمل عقداً مفصصاً، حلية ركنية مسننة، عمود ثماني الأضلاع يحمل عقداً ثلاثي الفصوص.

رسالة

يؤكد المهندس رشاد بوخش، مدير إدارة التراث العمراني في دبي، أن الحفاظ على القديم، تحديداً في إطار العمران وتصاميمه، يعني أن نتطلع إلى المستقبل، مشيراً إلى أنه لا يعتقد أن الثورة والنهضة العمرانية الحداثية التي تشهدها دبي، تؤثر على قديمها، ما دمنا نعمل على صيانته وترميمه والحفاظ عليه. ويتابع:

"رسالتنا هي الريادة في التراث العمراني، وهذا يمتد إلى صيانة النقوش والزخارف الجصية التي ارتبطت بالمباني القديمة. وذلك يعني الحفاظ على التراث، وهو جزء من هوية حضارتنا. ومن حق الأجيال الشابة أن تعرف كيف كان الأسلاف والأباء يعيشون على هذه الأرض".

ويضيف بوخش:"نحن نقدم باقتدائنا بهذا المنهج، على الحفاظ على التراث العالمي، مستفيدين من مقومات العلاقات الموجودة بين دول الخليج والعالم في هذا الصدد. وكذلك تصبح المباني المزودة بالنقوش والزخارف مرجعاً معرفياً للمهندسين المعماريين في طرق البناء".

ومن جهته، يرى المهندس أشرف طنطاوي، المتخصص في مجال الترميم، أن النقوش والزخارف تعتبر تراثاً فنياً يجب الحفاظ عليه، ولا بد من منع هدم نماذج هذا التراث أو إزالته. ويلفت إلى أن هناك بعض الشروط الخاصة لاستخدام النقوش والزخارف في المباني الجديدة، وهي تخضع لتشريعات خاصة.

 

جهود مميزة

وتقول الباحثة، الدكتورة إيمان شقيق العاصي، المتخصصة في مجال الترميم:" إن الرؤية الجديدة التي تتبناها إدارة التراث العمراني في دبي، تنطلق من جهودها في البحث والحماية والتربية والحفاظ على التراث الثقافي والهوية الوطنية، وتستمد تشريعاتها من المعايير المعاصرة المتعارف عليها عالمياً. وهي النظرة الإنسانية الحديثة التي تنظر إلى الدور التكاملي لما تحمله الثقافة الإماراتية إلى الحضارة الإنسانية.

والتي تجعل من علم الآثار جهداً علمياً بحتاً في إطار المجهود العلمي الدولي. وعمدت الإدارة إلى تبني وتطبيق سلسلة من الإجراءات الإدارية بهدف الحصول على حماية أفضل للتراث الثقافي المهدد، فمنعت هدم البيوت القديمة التي يزيد عمرها على 50 سنة، من دون الحصول على إذن مسبق بالهدم، وذلك من أجل الحفاظ على التراث الثقافي".

Email