سندباد بغداد يرتاح على شاطئ دجلة إلى الأبد

قاسم محمد..المحكوم بالأمل والــحالم بالمسرح في فضاء مطلق

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تميز المسرح العراقي، منذ نشأته الحديثة، بطابعه الجدي المؤثر في المجتمع، طوال عقود القرن العشرين ومراحله، إذ استمر في تبوء مكانة مهمة، نجح معها، في تعزيز أشكال نضوجه وتنويع مفردات عطائه ومستوياتها.. فأثرى، في ظل هذا المناخ، مختلف التجارب المسرحية العربية، عبر مجموعة ركائز وعوامل جوهرية، أبرزها، تقديمه العديد من المسرحيين الذين أغنوا إبداعات الفرق على الخشبة، في شتى الدول، وضمنوا لها، تحقيق قفزات ارتقاء نوعية.

 

رسخ المسرح العراقي جملة تقاليد رفيعة لدى مريديه ومنتسبيه، تتصف بقيمتها الحيوية البناءة في كينونته الممهورة بعنوان ارتباط الجدلية الفكرية وروحية الإبداع.. ويمثل الراحل قاسم محمد، في هذا السياق، أحد الأعمدة التي يعتز المسرح العراقي بها.. ولا شك أننا نفاخر به كثيرا، نحن، إخوته وأصدقاءه، بين مسرحيي الوطن العربي الكبار.

سمات متعددة شكّلت وصاغت قيمة المبدع قاسم محمد (1936 م -2009 م)، ومن ثم تركزه قامة مهمة في عوالم المسرح العربي.. فهو صاحب تجربة ضاربة العمق في جذورها وأهليتها، كما أنه امتلك ثقافة موسوعية، نادراً ما نجدها تتوافر لدى أي من العاملين في المجال. كما انه لم يكن، وفي ظل جميع هذه الأسس، مخرجاً فحسب، بل بقي منشغلا ومنهمكا بالبحث والدراسة والتقصي حول التراث وموضوعاته.

لاستنباط واكتشاف جملة قراءات ومفاهيم محكمة، تغني المسرح العربي بثيمات التراث والهوية، فتفي بغرض تمتين وتعزيز مكون الأصالة فيه. وبطبيعة الحال، لم يمل قاسم محمد، أو تهن عزيمته في سبيل تحقيق هذا الهدف، في جميع المحطات، وحتى مع مواجهته المصاعب والعوائق. فاستمر مهموما بهذه الرؤية، ومؤمنا بأنه، وإلى أي درجة ومستوى يصل، سيكون قد قطع شوطا حيويا في خطى ترسيخ هذا المشروع البنيوي، من وجهة نظره.

وربما أنه لم يكن قد حقق مبتغاه في هذا الصدد، حين دخل صراعا مريرا مع مرض مضن لا يرحم ويتسلح بأدوات وذخائر فتاكة، بينا يهاجم رجلا ليس له من معين أو درع تحصنه، سوى الإيمان بضرورة العيش والتحدي، من أجل هدف واحد هو المسرح، والذي بقي أداة مقاومته المرض، وكذا معينه ومنجده، وما يتوكأ عليه في اجتياز الألم.

يصعب تدوين وحصر تاريخ قاسم محمد في صفحات محددة، مهما كان عددها، وذلك لغنى تجربته وفرادة مكون سماتها. وأظن أن تاريخاً وإبداعاً من هذا النوع، يحتاجان منا دراسات مطولة وشاملة، تتناسب مع حجم منجز رجل أعطى بتفان وصدق، وكان، بحق، فناناً مميزاً في طبيعة تأثيره بالحياة المسرحية ضمن العراق والإمارات ودول عربية عديدة. إذ امتدت تجربته إلى كل من: الجزائر، مصر، قرطاج (في تونس).

 

أعمال لا تغيب

وتبقى أعمال قاسم محمد في العراق، ذات نكهة متمايزة بفضل توليفة خصوصيتها التي تضفي وقعاً جميلاً على أهمية الدور الذي لعبه والمهام التي اضطلع بها، إذ لم يؤطر نفسه، في سياق تلك المرحلة، في جهة عمل واحدة، بل استمر ابناً ومبدعاً باراً بالمسرح العراقي عموما، يأبى أن ينطوي أو يتوقف عند حد ما. وبذا كان ممثلاً ومخرجاً وباحثاً وفاعلاً، في أكثر من فرقة مهمة ومعروفة. وهكذا توزعت تجربته وعطاءاته لتشمل: "فرقة الشعلة"،"المسرح الحر"، "المسرح الفني الحديث"، "الفرقة القومية".

وهذا إضافة إلى متابعته مسؤولياته كأستاذ في معهد وكلية الفنون الجميلة في بغداد، حيث درس وتخرج، على يديه، مسرحيون (أصبحوا مبدعين بارزين وأسماء لامعة)، يعدون بالعشرات بل بالمئات، انتشروا للعمل مع شتى المسارح في الوطن العربي.

لم تفقد الساحة المسرحية العراقية، إلى اليوم، بريق جماليات أعمال قاسم محمد وقيمتها. ومن بينها: "بغداد الأزل بين الجد والهزل" المأخوذة عن أدب الجاحظ، "شخوص وأحداث في مجالس التراث" .

وهي عن أدب أبي حيان التوحيدي، "رسالة الطير" التي تمثل تجسيدا لأدب وفلسفة رسائل ابن سينا، "كان يا مكان"- عن الموروث الشعبي، "الملحمة الشعبية"- مأخوذة من التراث،" مقامات الحريري" وهي عن مقامات الحريري، "الزمن المسوس" التي تحكي عن محاورات السميساطي، "لا أحد يستطيع أن ينسى النخلة والجدران"- عن رواية غائب طعمة فرمان. وهناك أيضا، العديد غيرها.

 

تجربة نوعية في الإمارات

حازت تجربة قاسم محمد، في دولة الإمارات العربية المتحدة، جملة سمات نوعية، تجلت فيها أطر التجديد والابتكار، والاشتغال على رؤى مسرحية مميزة، فمعظم أعماله تركز في سياق توليه لمهام جسام في خلق رؤية مسرحية تواكب نصوصاً تاريخية ذكية ومتقنة في محمولاتها وإسقاطاتها، وأخرى ذات صبغة التزام بقضية محورية.

وهنا، ومع هذه الروحية، أخرج قاسم مسرحيات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة. وهي: "عودة هولاكو"، "القضية"، "الواقع صورة طبق الأصل". كما أنه أخرج العديد من عروض مسرح الشارقة الوطني. وقدم مجموعة متكاملة من الورش والدورات والملتقيات المسرحية.

 

مبدع ومشروع استراتيجي

عرفت قاسم محمد، عن كثب.. ولمست واكتشفت جيداً، ماهية صفاته وقيمته، إلى جانب تركيبة شخصيته ومزاياه.. إنه، وبحق، ليس فقط ذاك الفنان المقتدر صاحب المواهب المتعددة، المثقف الموسوعي المتمكن من ناصية الآداب والمعارف كافة. فطالما وجدته مثالاً خلاقاً لصورة الإنسانية بأرقى معانيها.. وأظنه من النماذج التي صعب وجودها، في أيامنا هذه.

عرفته في الستينات من القرن الماضي، عايشته وخبرته وزاملته، حين كان فنانا شابا مفعما بالحيوية ولديه الكثير من المشروعات والآمال.. وكنت تجد وتعي بيقين تام، حينها، كم هو صورة معبرة لحيوية مشروع المبدع. إذ كان مسكونا بأحلام كثيرة.

بل كان يحدثك كيف أن أحلامه هي هاجسه ومحركه نحو بذل أقصى ما يمكن: (نعم عندي حلم، وأرى الحلم جوهر حركة زمان ومكان وإنسان المسرح، فكرة وموضوعاً وتجسيداً وتجهيزاً وعرضاً، إن الحلم وحده ما يجعل من المسرح بكليته ثيمة آنية من الأمس، مفتوحة على اليوم وناجزة إلى الغد".

ظل قاسم يواكب معطيات حلمه ومتطلباته في رحاب الإبداع، فكان وفياً له، أعطاه وأخذ منه.. وطبعا تلك الأحلام الإبداعية كانت ذخره ومعينه بينما يقاوم آلام مرضه العضال.. كان يقول لي في أيامه الأخيرة، وهو مُقعد يجلس على الكرسي المتحرك: "لا أزال أحلم، كل يوم، وفي كل ساعة ودقيقة، في إخراج مسرحية".

وطالما فعل ذلك حقاً. إذ استمر يخرج نص مسرحيته تلك، متخيلا سيرورتها وأحداثها وحركاتها، على لوحة الجدار الذي كان يُصّلي نفسه أمامه، دائما، في عملية الحلم المتواصل.. إنها بالفعل مقاومة غريبة للمرض والعجز الذي يصاحبه، أثبت معها قاسم محمد أنه لا يتوقف عن الإبداع في أي من المجالات، وضمن شتى الظروف.. دائما كان يريد أن يتحدى المعوقات ويثبت تواصله وحيويته. إنه قيمة حقيقية وشعلة لا يخفت بريقها في مكون التجارب المميزة ضمن المسرح العربي.

إن قاسم محمد، يذكرني، بما قدمه من نموذج إبداع فريد، حتى وهو يواجه المرض والعجز، يذكرني بصديقنا، الفنان السوري الراحل سعدالله ونوس، الذي ابتلي بالمرض نفسه. وكان يناوئه ويتصدى له بالأسلوب عينه، وهو مفعم بالأمل وإرادة التحدي. وكثيرا ما خاطبني، عبر الهاتف، في أيامه الأخيرة:

"يا عبدالإله.. المرض شأنه شأن الاستعمار والظلم والظلام، لابد من المقاومة، كما كنا نقاوم الاستعمار والاستبداد والديكتاتورية.. أنا أدرك أنه أقوى منا، لكننا محكومون بالأمل وبضرورة أن نتواصل في الصمود في خنادقنا حتى نموت، لأن غيرنا سيتواصل بعدنا".

علاقة طويلة وعميقة، عنوانها المحبة والوفاء ومغامرة عوالم الإبداع، تلك التي ربطتني بالفنان الراحل قاسم محمد. ولم أشعر مرة، إلا أن فرادة سماته تتعزز وترسخ أكثر، يوما بعد آخر ليزداد معها تقديري له.. كان، رحمه الله، نبيلا وكريما.

وفي مجالسته كنت تجد متعة وفوائد جمة، فمحاورته الشيقة تخرجك من قيود الحاضر، وتنسيك وقفات الزمن وأحكامه وقوانينه. وأما أسلوب حديثه وطقوسه، فكانا وقع سحر خاص، إذ ينهلان من دماثة شخصه، وكذا موقفه الثابت وآراؤه الملتزمة التي تعكس شخصيته العصامية ورفضه الانحناء لأي من العواصف.

 

إباء مبدع وتحديه

تنوعت مواهب وملكات قاسم محمد، فكان يُتقن أكثر من لون إبداعي. ومن بينها، وهو ما لا يعرفه البعض، مهارته في الرسم وتوظيف الحرف العربي في تشكيل اللوحة التي قد تحتوي آيات من الذكر الحكيم أو أبياتا شعرية. وقد أنتج لوحات كثيرة، لكنه طبعا، لم يُنظم لنفسه معرضاً فنيا، بل اعتاد على أن يهدي تلك اللوحات إلى أصدقائه. فعلى سبيل المثال، أهداني شخصيا، لوحتين اثنتين.

واللافت هنا، أن قاسم محمد كان استثمر مهارته في التشكيل الفني جيدا، خلال فترة زمنية محددة، إذ كانت تلك الموهبة، خلّه وسنده وباب خلاصه، في كسر الحصار الذي ضربه عليه النظام السياسي العراقي السابق، في إطار الضغط عليه كونه ليس من رجالاته. لذا، وكما كتبت إلي زوجته السيدة أم زيدون، شارحة حاله، كان يرسم تلك اللوحات ويعرضها على الرصيف في بغداد، لتوفير خبز أولاده.

ومع كل هذه المعاناة، رفض بشكل قطعي، السماح لزوجته، كما ذكرت لي، بأن تخبرني عن ما يقاسيه، على الرغم من إلحاحها.. لكن، وبعد ما رأت من مكابدة زوجها وآلامه والغبن الذي يحيق به، كتبت إلي مستغيثة، للخروج من هذا الحصار القاتل. فبادرت، بعد أن وصلتني الرسالة، وعلى وجه السرعة، إلى الاتصال بمسرح الشارقة الوطني، وإعلامهم بتلك القصة، وما أحتاج إليه. فتولى، وعلى الفور، كل من الفنان أحمد الجسمي ومحمد عبدالله، مهمة استخراج تأشيرة زيارة لقاسم محمد، قدم من خلالها، إلى دولة الإمارات، وذلك، تقريبا، في عام 1997.

وما أن وصل الشارقة، حتى أمر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، بتعيينه للعمل في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة.. وهكذا أنقذته الإمارات من وضع مأساوي دفع إليه، ومن ثم ظل على رأس عمله إلى أن لبى نداء ربه، ولم يُحرم هو وأسرته، من كرم ورعاية صاحب السمو حاكم الشارقة، حتى بعد أن رحل.

 

..الإمارات 1984م

كان قاسم محمد قد زار الإمارات، قبل أن يقدم للاستقرار فيها عام 1997. إذ اختارته اللجنة العليا لمهرجان أيام الشارقة المسرحية، سنة 1984، عضواً في لجان تحكيم دورة العام المذكور. وكان من نتيجة مشاركته في التحكيم، ولما أصر عليه من معايير أساسية في رؤاه حول تقييم الأعمال، أن حجبت كافة الجوائز. وعلى إثر ذلك، اضطرت اللجنة العليا، إيقاف المهرجان سنوات عديدة، حتى عاد بأسلوبه وزخمه الجديدين.

ليس قاسم محمد من النوع الذي يمكن أن يساوم على مبادئ العمل المسرحي، أو حتى على المبادئ العامة.. كان رجلاً جدياً في هذه الأمور جميعاً، فهو يضعها، دوما، تحت تصنيف، وفي إطار، الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه. وأذكر أنه في زيارته تلك إلى الإمارات ( 1984)، طلب مني أخذه إلى الفنان بحر كاظم، أحد طلابه (وكان، رحمه الله، وضع في منهاج عمله.

وفي دستور حياته وإبداعه في المسرح، اعتباراً أساسياً، يتمثل في متابعة أنشطة طلابه والتعرف على حال أدائهم وماهية تطورهم بعد التخرج)، إذ كان راغباً في رؤيته والاطمئنان عليه. وعلى سجيتي، ودون أن أفكر في ما أنا مقدم عليه، أو ما يجب أن أحذر منه، توجهت إلى سوق السيارات في الشارقة، ملبياً طلبه. حين دخلناها بالسيارة، التفت إلي وخاطبني، منبهاً: "أنا طلبت منك أن أزور أحد طلابي.. واسمه بحر كاظم، شنو أنت ما تعرفه؟!".

وأجبته: "طبعاً أعرفه أبو زيدون، نحن في طريقنا إلى بحر". وعندما أوقفت السيارة، أمام محل بيع السيارات المستعملة، الذي يعمل فيه بحر، بعد دوامه الوظيفي الرسمي، التفت قاسم محمد بينما هو داخل السيارة، فرأى بحر يساوم أحد الزبائن على بيع إحدى السيارات، فغضب وترجل بسرعة، وشرع يصرخ في وجه بحر، وقال له، دون أن يسلم عليه: "شو هالوضع يا بحر، إحنه علمناك حتى تصير مخرج، لو دلال مال سيارات؟".

وهنا، تفاجأ بحر. وأجاب متلعثما: "العفو أستاذي.. هي عيشة نطلعها فوق الراتب".

فرد (الأستاذ) على تلميذه: "لكن غيرك لم ينزل إلى هذا المستوى، وظل فناناً ومسرحياً بامتياز".

كان الموقف محرجاً جداً، سواء للاثنين معا (المعلم وتلميذه)، أو حتى بالنسبة لي، ولكن لم يكن هناك ما أستطيعه، فلا مفر حينها من أن أقِل قاسم محمد إلى بحر (تلميذه)، حتى ولو في سوق السيارات.

وبطبيعة الحال، لم يدر في خلدي أن تلك الزيارة ستتحول إلى محطة أو هيئة الدرس الثاني للزميل بحر، من أستاذه، عقب تخرجه، كونه -وحسب ما رأى معلمه حينها- لم يحافظ على فنه، ويراعي مقتضيات وموجبات تخصصه العلمي الذي درسه في معهد الفنون في بغداد.. وهذا فعليا، ما دعا قاسم محمد، إلى توجيه نقده ذاك، بحدة، خصوصا وأنه يقتدي بمبادئ علمية وعملية حياتية في المسرح، لا يمكنه أن يساوم عليها، أبداً.

وربما أن هذا المنهج لم ينفصل أو يستقل عن مساقات المجالات الحياتية الأخرى لدى قاسم محمد، فكان يطبق منهجه الملتزم، على تفاصيل حياته العائلية ويومياته، وبذا كان فضاؤه المسرحي محوراً يسيّر ويحكم حياته بمختلف جوانبها، ذلك في رؤاه واعتباراته وقيمه.

وكثيرا ما انعكس هذا الأمر على أدق القضايا الحياتية وأبرزها لديه، وكان يمتد ليطال فحوى ومجريات علاقته بأبنائه وأيضا زوجته السيدة أم زيدون، والتي كان اقترن بها أصلاً، عندما كانت معروفة كواحدة من أفضل الفنانات العراقيات الرائدات، إذ خدمت المسرح طويلاً. وهي، طبعا، لاتزال سائرة على درب قاسم.

 

مسرح الحياة

كان قاسم يتنفس المسرح ويعيش وهجه وروحيته، أينما حلّ وكيف ما توجه.. هو من ارتأى ذلك وأراده.. فكان مشجعا على الفن.. حاثاً عليه، ومحفزا أبناءه على الانخراط في مجالاته. وهكذا تخصص أولاده في مجالات الدراما المختلفة.

كما تزوجت ابنته فنانا مبدعا في حقل المونتاج الإلكتروني في التلفزيون. هكذا هي حياة قاسم محمد.. استمر يعيش، معها وفيها، ضمن قلب المسرح وروحه وجسده، ذلك بموازاة تشبعه بقراءات ومعارف دقيقة ومنوعة ومتتابعة. وكذا بقي وفياً لتجاربه ومنهجه في عوالم الخشبة.

ويقول في بعض كتاباته التي لم تنشر بعد (لدي صورة منها، مهداة إلي من عائلته): " لابد من إيجاد طرق وأفكار للخروج بالممثل من واقع شغل منمط إلى واقع شغل متحرك، وطارق لأبواب اشتغالات جديدة، حسب قدرة المكان المسرحي الذي يعمل ضمنه هذا الممثل، ولعل التمرين الابتكاري كحالة اقترحها لتطوير الممثل المعني، لأن التمرين الابتكاري وثقافته النظرية والعملية، هو أحد مميزات الممثل الفاهم المولع والعاشق لعمليات عمله والناظر إلى المستقبل".

منهج فريد

لا يمكن للمطلع على تجربة قاسم محمد وكينونة إبداعه الشامل والمتنوع، إلا وأن يقر بأنه، وفي آن واحد، مزيج مبدع خلاق، مخرجاً وكاتبا وممثلا ومنظراً وأستاذا مسرحيا من الصنف الأول.

ويعد، رحمه الله، من المسرحيين العرب البارزين، الذين اهتموا بتوظيف البحث العلمي المنهجي في حقل تطوير المسرح بكافة تخصصاته. فجسد بهذا الخط، نموذج المبدع العقلاني، الحريص على تذخير شتى التجارب الإبداعية، بمساق أكاديمي يكفل تحقيق الفائدة الأكبر للشرائح جميعها.

ونتعرف على رؤيا قاسم محمد، وفهمه في سياق هذا، من خلال مضمون بحث له، لم ينشر حتى الآن (ولدي نسخة منه، مكتوبة بخط يده)، إذ يقول : "دور الدماغ في تأهيل الممثل الجديد". ومن ثم يتساءل: "أهي مواهب؟ أم قدرات؟ تلك الإمكانات الكامنة في تلافيف الدماغ والتي تعين وتحدد إبداع المبدع".

 

«ثقافية عجمان».. ومبادرة تكريمه

إن الحديث عن منهجية الراحل قاسم محمد، وكذا مآثره، لن تكفيه الصفحات، مهما امتدت وتوسعت، فنحن أمام قامة بارزة تحتاج منا الكثير من المساحات والمؤلفات لحصر إنجازاتها ومفاصل ريادتها. وكانت دائرة الثقافة والإعلام في عجمان، بادرت إلى تبني مشروع ونهج تكريم لقاسم محمد، هو من نوع خاص، مثّل سياق مهرجان فكري احتفائي ضخم.

وكانت قد تبلورت فكرة هذا التكريم من خلال حوار بيني (العبد الفقير)، وبين الصديق إبراهيم الظاهري مدير الدائرة، بحضور ومشاركة الأخ الكاتب جمعة اللامي. وعقب ذلك، تبنى إبراهيم الظاهري الفكرة التي دار حولها حديثنا، رسمياً، وطلب مني الاتصال بقاسم محمد أو بعائلته، لمعرفة رأيهم ومدى قبولهم تكريم قاسم في تظاهرة ثقافية من هذا القبيل. ورد قاسم وعائلته بالموافقة مع تقديم الشكر، ثم تبادل الطرفان عبارات التقدير والثناء.

ونجح الظاهري، بعد إنجاز جميع الترتيبات والتحضيرات اللازمة، في تنظيم واحدة من أهم التظاهرات الثقافية التي شهدتها عجمان، بل الإمارات، وذلك في أحد الفنادق الفخمة في الإمارة. وكانت المفاجأة السارة لقاسم محمد، ذات وقع ونكهة مغايرين، حيث وجد نفسه، محاطا بأكثر من 500 مبدع من مختلف الدول العربية، قدموا إلى الحفل لتحيته.

والإعراب له عن تثمينهم جهوده وعطاءاته كفنان ومثقف. وكذلك ليقفوا معه في محنته الكبرى (مرضه العضال وعجزه إذ حضر الحفل وهو يجلس على كرسيه المتحرك). وأحسست، خلال الحفل، بسعادته الكبيرة، ومدى روعة تلك الابتسامة التي كانت ترتسم على وجهه، والتي تعلن أن ما يجري، آنذاك، وقفة ولفتة غاية في المثالية، تجعله ينتشل نفسه من بئر الأحزان والألم.

 

من بغداد راجلاً وإليها محمولاً

إن الراحل قاسم محمد، تاريخ متكامل من مفردات الإبداع وصفحاته، والذي ظهر نوره في العراق وانتشر في شتى بقاع الوطن العربي، إلى أن استقر في الشارقة بالإمارات، ولعل من حسن حظ قاسم، بل من حسن حظنا نحن جميعاً، أن نتدفأ تحت خيمة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، رجل الثقافة والإنسانية. فلم يتأخر سموه أو يتوان، عن رعاية قاسم محمد ومتابعة حالته الصحية، منذ ألم به المرض. كما قدم الكثير من المبادرات التي أفادت قاسم وعائلته، خاصة في ما يتعلق بتكاليف علاجه، بل ورعاية عائلته بعد رحيله، وهو ما ضمن للعائلة، حياة كريمة.

لم يكن موت قاسم محمد وحفل تشييعه، شبيهاً بما اختاره من هدوء يواكب صخب الإبداع في حياته.. فرحيله هال الجميع، فأبت عشرات الآلاف إلا وأن تشارك في وداعه الأخير، وكان تشييع جثمانه في بغداد مسقط رأسه، التي عاد إليها محمولا، تكريما فريداً لهذا المبدع الذي أخلص للمسرح والإبداع عموما، فبقي وفياً لمشروعه الفكري، يغادر ويغامر لأجله وبحثا عن متنفسه وبيئته، إلى أن وافته المنية، فأعلنت نهاية رحلة السندباد الذي عاد إلى شواطئ دجلة لينام على ضفافها إلى الأبد.

 

 

 

 

 

 

 

تجربة مشتركة

 

تعمقت علاقتي بالفنان الراحل قاسم محمد، مهنياً وعائليا. وبقيت، على الدوام، معجبا بشخصه وبتجربته المسرحية الممتدة عقودا طويلة.. وكانت لي تجربة رائدة معه في العراق حيث كنت رئيساً لفرع فرقة المسرح الفني الحديث في البصرة (وكذلك كنت مخرجاً وكاتباً وممثلاً فيها)، فعملنا معا حينذاك.

ومن ثم امتدت وتتابعت تجاربنا المشتركة في عوالم الإبداع المسرحي، قاسم محمد وأنا، ضمن دولة الإمارات، إذ قدمت له (حكايتي صديقنا بنجيتو والرجل الذي صار كلباً)، التي كانت من ترجمته. وكذلك مسرحية (طير السعد) للأطفال. وهاتان المسرحيتان، حققتا نجاحات مهمة، وباتتا من العلامات الفارقة والرائدة في مسرح الإمارات. وأنا أقر أن جزءاً من النجاح في العملين، كان يعود الفضل فيه إلى قاسم محمد، ككاتب جيد ومبدع متميز.

Email