ملهم الإبداع ومكمن التأملات وبوصلة المشاعر

البحر.. غموض وأسرار تنسج حكايـات المكـــان وقصص أهله

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين تلك الأمواج التي لا تمل من التكسر على الشاطئ، تنشأ علاقة بين الناس والبحر، متجددة بتجدد أمواجه، ومتنوعة بتنوع المشاعر البشرية، وعندما نتساءل كيف يتفاعل الناس مع البحر، نجد أن لكل منهم طريقته الخاصة، ولكنها بالتأكيد، ستتجاوز حدود الانطباع العابر، لتصل إلى الإحساس العميق، حين تتجسد كلمات في قصائد شاعر، وتكون موضوعا لوحة فنان،إنها حكايات إبداع يبقى البحر سيدها على مر العصور.

 

تمتد العلاقة التاريخية مع البحر، إلى ذلك الزمن الذي اخترعت فيه السفن، وهي تتجدد إلى الآن باكتشافات عوالم البحار المذهلة، ملونة ومتصفة بروحية الالفة، بعد أن اخترق الإنسان بمعداته، تلك الصفحة الزرقاء، في محاولة منه لفك لغز أسرار ذلك العمق. وفي دولة كالإمارات أحاطها الخليج من كل صوب، وشكل البحر لها، بالتالي، طريقة حياة الناس.

وفرز مع الزمن أشخاصا يمتهنون مهن البحر، وأشخاصا يوثقون حياة البحر. كما ألهم مبدعين تفاعلوا مع البحر وأنتجوا أدباً وفناً يتسم بخصوصية المكان الذي يحده ذلك الأزرق الكبير. وعن ذلك التفاعل الإبداعي واليومي، كشف مبدعون إماراتيون عن مضمون تجاربهم لـ "مسارات".

 

روح الأمواج

البحر مؤثر جدا في الناس ضمن دولة الإمارات. هذا ما أكده القاص إبراهيم مبارك في بداية حديثه. وأضاف: "يتأثر الإنسان عادة ببيئته، والناس في الإمارات، يتأثرون إما بالبحر وإما بالصحراء، وبالتالي يُطبع أبناء مجتمعنا ويتكيفون ضمن هذين الإطارين".

وأشار مبارك، إلى أن معظم الكتاب في الإمارات ينتمون إلى البحر أو الصحراء، فأصدقاء كثر له، مثل ناصر جبران وخالد بدر، تأثروا بالبحر وكتبوا عنه.

وأكد مبارك من منطلق قناعته، أن البحر أهم شيء في الإمارات، أنه مصدر رزق وإلهام. كما ان الإبحار يكرس التواصل، والمدينة التي لا يوجد فيها بحر لا تعرف الحياة، فالموانئ، تعكس الكثير، حتى وإن وجدت في هذه العصور، وهو ما يعرف بالموانئ الجوية التي تهب المدينة بالمؤن.

وعن علاقته الشخصية بالبحر، قال إبراهيم مبارك: "أعتقد أنني من اليوم الذي ولدت فيه وإلى الآن، على علاقة يومية بالبحر، فكل يوم أمارس رياضتي بقربه، وأشعر أحيانا كأني كنت سمكة، وأعيش على الأرض.

وكل هذه العلاقة انعكست بشكل كبير على كتابات مبارك، وقال في هذا الشأن: "95 بالمائة من كتاباتي فيها البحر، ورغم هذا أعد نفسي أنني أغرف من البحر، وكأن البحر هو المبدع ونحن التابعون له.. إن البحر رمز الحياة، ورمز الجماهير والتجدد. أمواجه التي تصعد وتنزل ترمز إلى الروح، وهو مصدر لإلهام غير طبيعي".

ومن كل ما ذكره مبارك، ينسج القصص، وقال: "تدور كتاباتي حول كل ما ذكرته، وأنا أحاكي بهذا الشبان من مختلف الشرائح، ذلك لأجل ألا ينظروا للبهرجة. وأقول لهم من خلال كتاباتي، إن جذوركم في الماء، وكل ما حولكم قد يكون زائلًا. وقد لا تجدون إلا أباكم البحر وأمكم الموجة، وفي عهد الإسمنت والسيارات تبقى الجذور في الماء، فهو الملجأ الأخير، مثلما تكون الأرض الزراعية، ملجأ لمن يسكن فيها.

وأخيرا رأى مبارك في البحر ذاكرة، وحكى عن ذلك : "الإنسان بلا ذاكرة لا يعني شيئا، فذاكرة منطقتنا ذاكرة بحرية، وكل هذه الأفكار نجسدها عبر قصص أهلينا البحارة الذين كانوا بسطاء، وأغنياء بوجود البحر".

 

المجهول المرعب

للشاعر إبراهيم محمد إبراهيم، الحاصل على جائزة الإمارات التقديرية، في مجال الآداب، نظرة تأملية مختلفة للبحر، إذ قال: " بالنسبة إلي، البحر كائن غامض جدا ومخيف، ولا شك انه عندما أنظر إليه من خلال الصور، أجد فيه الكثير من الجمال.

وعندما أكون قربه، أشعر بالرعب والقادم المجهول، لا أمانة معه أبدا، ولا أقدر أن أقول إنه غدار كما يشاع، لأنني لم أتعرض لأي حادث في البحر، بل سافرت رحلات بحرية وصلت مدتها إلى حوالي الثلاث ساعات، من دون أن يقع لي اي مكروه". مشاعر إبراهيم تتجاوز البحر.

وشرح ذلك::" لا أميل إلى البحر، بل أميل إلى الصحراء، ومن المسطحات المائية أميل إلى الأنهار. وأنا أشعر بالهدوء عندما أرى الضفة الأخرى، أي أستطيع أن أحتوي النهر بصريا، ولكن في البحر لا أدري ماذا يوجد وراءه".

ولكل ما قاله إبراهيم، انعكاس في إبداعاته، وعن هذا قال: "عندما يحضر البحر في أشعاري، أستخدمه بمفهوم الخوف من المجهول المرعب، ولم أتغزل مرة فيه، فهو يشكل الغموض".

ترمز اليابسة دائما إلى الأمان، فإذاً كيف إن كانت في الوطن؟ ويحكي إبراهيم بهذا الشأن:" كنت أسكن في شقة في الاسكندرية بمصر تقع على البحر، فكتبت في إحدى المرات:( للبحر زرقته وللشباك آلاء/ تدل على النزيل/ والوجه وجهي/ حيثما يممت لي وطن/ ولكني أحن إلى النخيل)".

وأما الجانب الإبداعي الآخر لدى إبراهيم، وهو ميله إلى التصوير الفوتوغرافي، فهو يؤكد انه لم يشده فيه البحر كي يكون موضوعا رئيسيا عنده، كما أنه حين يصور، يفعل ذلك لأسباب عدة كشف عنها: "كل تصوري عن البحر، يجعلني أبحث عن أن أضفي عليه شيئا من الوداعة، ولا شك أني أهذب هذه الشراسة، وأروضها من خلال لقطة فوتوغرافية".

 

تفاصيل الضوء

"كإنسان عادي لا أستطيع أن أتخيل أن هناك من البشر من لا يحب البحر". هذا أكده الفنان التشكيلي والمصمم محمد الأستاد الحمادي.

وأضاف: "أخص بالذات، أولئك الذين ولدوا بالقرب من شواطئه. وأنا ولدت وصوت البحر، وأمواجه تداعب مسامعي بألحانها وترانيمها، وتوسدت رماله والتحفت سماءه وتنفست نسيمه وانتشيت بنقاء هوائه".

وترسخت العلاقة بين الأستاد والبحر، كما يبين، منذ البدايات، وهو يقول حول ذلك: " احتضن البحر طفولتي، وصادقت صدفاته ونوارسه وسرطاناته، وطيات صخوره. وعشقت ألوان صخوره وقواربه الخشبية المبحرة والراسية. وأبحرت في أعماقه واحترفت صيد أسماكه".

وأكد، الاستاد، واصفا حالته الوجداية إزاء البحر: " إذا أهملتني الدنيا وضاقت بي رحابها، لجأت الى البحر، حيث مدى أفقه الذي لا ينتهي يبحر بي لداخلي وبأعماق فكري، فيرجعني الى ذاتي، ويذكرني بأن الدنيا فانية. ونحن فيها لسنا سوى أناس عابرين".

ولم يقف الأستاد عند تلك العلاقة الحسية، بل عبر عنها في أعماله الفنية، إذ قال: "كفنان تشكيلي، يعد البحر مصدر إلهام وعشق أزلي لا ينتهي، بالنسبة لي. وقد تعلمت منه التفاصيل وكيف تفصل وتجسد واقعا. علمتني أمواجه قمة التحدي في رصد التفاصيل اللحظية لتداخلات الألوان وانعكاسات الضوء، وما يولد من الشفافيات الآسرة الناطقة بالحياة.

والانتعاش الحسي". وتابع: "عندما رسمت البحر، فعلت ذلك من واقع عشق وتعلق بكل تفاصيله، وأيضا لارتباطي به منذ البدايات.. حاولت رصد كل التفاصيل الجميلة بشكل واقعي بحت، فعدم الإضافة الى تفاصيله هي بحد ذاتها جمال، كما رسمت قواربه الخشبية كنوع من الوفاء والتسجيل لواقع خشيت أن يندثر بسبب التحضر والتطور، وفعلاً حصل ما كنت أخشاه، حيث أحرقت بعض تلك السفن، وتم تغيير تضاريس بعض المناطق البحرية التي كانت مرسى للسفن، وبقيت لوحاتي شاهدة على روعة المكان الذي وئد".

وخلص الى القول: "لاحظت أنني حينما أرسم البحر.. أشعر برغبة عارمة وشوق لأرسم المزيد، وكذلك يتملكني الشعور بضرورة التعلق بهذا الاتجاه والغوص الى أعمق أعماق التفاصيل في لوحاتي".

وبتحليله لتجربته في رسم البحر، قال الأستاد: "وصلت الآن الى مرحلة إضافة شيء من ذاتي وفكري في تلك اللوحات البحرية، فرسمت لوحات تعبيرية وحديثة تتكلم عن البحر بمنظور آخر. وبوجهة نظر تجريدية أركز فيها على إظهار الجماليات من دون تفاصيل، فمن خلالها يمكن مشاهدة ما فيها من الشفافيات والتداخل في الألوان، ويمكن لمن يراها أن يشم رائحة البحر، ويسمع أصوات النوارس ويشعر بنسيم البحر".

 

لون بارد

"الماء كعنصر مغاير يختلف عن اليابسة، وهو الاختلاف ما بين اللون الأزرق واللون الصحراوي. وذلك كنقطة وصول الى حرية لانهائية للمادة". هذا ما أكده المصور الفنان جاسم العوضي، الحاصل على جائزة الإمارات التقديرية- فرع الفنون، في حديثه عن تأثير البحر في عملية الابداع. وأضاف: " أتفاعل مع البحر من ناحية بيئية، فمنطقتنا بحرية، ولون البحر البارد الهادئ يحوز طبيعة مختلفة، فالماء غير الحجر، وهذا التزاوج ما بين الرمل والبحر، هو تزاوج ما بين لونين، حار وبارد".

لم يقف العوضي عند الألوان، بل تجاوزها ليصل الى الحركة، وقال بهذ الشأن: " للبحر حركة مستمرة ومتجددة، بين مد وجزر، فكل ما فيها متبدل، ما بين الأمواج والزبد الأبيض، والكائنات التي تعيش على السواحل، إنها نواح جمالية..

وإن اختار المصور البحر، فعليه التركيز على ثلاث نقاط، أولاها المحيط وموقع التلاقي ما بين الماء والصحراء، ومن ثم وقت التصوير (أي الفصل)، وطريقة ميلان الشمس وانعكاسها على الماء، وكذا التجاور بين الماء والكائنات، مثل الطيور التي قد تكون في السماء أو ملامسة لسطح الماء".

وبالنسبة لتجربته الشخصية في هذا المجال، قال العوضي: "الماء عنصر مغاير بلونه الأزرق، وأنا أركز على غموضه، وعلى حالاته التي تتغير من ساعة الى أخرى، فالبحر طاقة إبداعية ممكن أن يستفيد منها إلى ما لا نهاية". وأما وبالنسبة لمكونات صوره، فأشار العوضي، الى انها قد تكون صورا بانورامية، أو صورا تركز على مقاطع معينة، والتقط أحيانا شكل المياه وارتفاعها، أي لا يوجد حالة معينة، فالصور مستقلة عن بعضها البعض".

من قصص البحر القديمة قدم المخرج خالد المحمود فيلمه "بنت النوخذة" في العام 2008. والفيلم، كما قال المحمود: "يتمحور حول شخصيتين، الولد والجدة التي تروي قصة البنت التي تتحول إلى سمكة، وهذه القصة الأسطورية يتداولها الكبار في منطقتنا".

وتابع :" إنها قصة فتاة جميلة جدا كانت تذهب إلى البحر، وجيوبها مليئة بالأحجار، وكلما ترمي حجرا تفقد من خاصيتها، وذلك إلى أن تتحول فعلا، إلى سمكة .. من الطبيعي أن ينسج الناس مثل هذه القصص لارتباطهم بالبحر، والذي يعد مصدرا لرزقهم، وأنا شخصيا تأثري بتلك الحياة، ورثته من عائلتي، فجدي كان طواشا يشتري اللؤلؤ من السفينة ويبيعه في الأسواق. وأضاف:

"كان لميلادي في أبوظبي، الإمارة المحاطة بالبحر، دور كبير في علاقتي بالبحر، فهو قريب من بصري بشكل يومي، وهو منفذ وموضع الكثير من ممارساتي، مثل: السباحة ورحلات الصيد. وكذلك كل ما يولد علاقة ود مع البحر الذي أفكر أحيانا بأنه غامض بالنسبة لي، وكثيرا ما يدفعني الى التساؤل، حول ماذا يقبع هناك وراء ذلك العمق، وأيضا ما الذي يحتويه؟

وتابع: " كما لعب عامل ارتباط عائلتي بالبحر وقصصهم عنه، دوراً مهماً في تعميق تلك العلاقة والتساؤلات، فالقصص كانت في كثير منها عن رحلات الغوص التي كانت تودي بحياة الناس. كل هذا دفعني لاستلهام قصة فيلمي (بنت النوخذة) من البحر، والذي عرض في دورة الخليج الأولى".

Email