الملابس الشعبية حكايات على القماش

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان أول عهدها بالملابس الشعبية المصرية الملونة بألوان صارخة كالأحمر والبرتقالي والأخضر الداكن، وطريقة تفصيلها فضفاضة، وذلك عندما ذهبت مع أسرتها في عيد ميلادها العاشر إلى مسرح الأوبرا العريق بالعاصمة المصرية ــ القاهرة ــ لمشاهدة فرقة رضا للفنون الشعبية التي تميزت باختيار ملابسها ومواضيع حكاياتها من التراث الشعبي المصري.

انبهرت الصغيرة وتمايلت مع النغم والإيقاع والحركات الإنسيابية التي اشتهرت بها هذه الفرقة، ولفت نظر صغيرتنا لوحة «فدادين خمسة» و«حرامي القفة» وأغنية «لقصر بلدنا.. بلد سواح.. فيها الأجانب تتفسح.. ولما يجي وقت المرواح تبقى مش عايزة تروح.

من محطة مصر العريقة حتى مدينة الإسكندرية يشق القطار طريقه وسط الحقول والمزارع في الطريق الزراعي الموصل بين القاهرة والإسكندرية، ومن نافذته يمكننا تكوين صورة بانورامية عن ريف مصر الخصب ونبض حياته، وصورة أخرى لا تقل تميزاً عنه، هي صورة وشكل الملابس الشعبية المصرية الملونة الفضفاضة التي ترتديها الفلاحات والفلاحين، قبل بزوغ الشمس وحتى المغيب وهي مساحة الزمن التي يعمل فيها فلاحو مصر في الحقول والغيطان بين الزروع وأنغام السواقي والشادوف والمحراث وقنوات الري.

فلاحات يرتدين الثياب الملونة بالأحمر والأزرق والأخضر والبرتقالي، كل لون فيها على شكل زهور، أما طريقة حياكتها فهي عبارة عن «جلبية فلاحي»، حسبما يطلق عليها ـــ مفتوحة بسيطاً عند العنق على شكل مربع، ثم تنهدل في اتساع وتنتهي بكورنيش واسع يسهل الحركة التي لا تنتهي طوال اليوم، معها يرتدى طرحه سوداء أو ملونة، تحكم منطقة الرأس ثم تتدلى في انسياب لتغطي أكثر من منتصف الظهر.

الفلاح

للفلاح أيضاً ملابسه الشعبية التي توارثها عبر عشرات الأجيال، وهي عبارة عن جلباب متوسط الاتساع غالباً ما يكون بلون العاجي الداكن أو البني الفاتح أو الرمادي، بأكمام فضفاضة ويرتدي الفلاح على رأسه «طقية»، أو «طجية» كما ينطقها باللهجة الفلاحي، لتحميه من شمس الظهيرة.

وفي يده الفأس يضرب بها الأرض وينثر بذور الخير، ووقت الغداء يضع «السريس» (يشبه الفجل) والجبن وأحياناً طبقا من الفول وخبز شمسي ويجلس تحت شجرة أم الشعور ليتناول طعامه فوق منديل، مربع كبير يأخذ رسوماته من رقعة الشطرنج ولكنها مربعات ملونة.

.. في الدراما

الدراما المصرية التي جسدت الريف في الصعيد، جسدت كذلك الملابس الريفية الشعبية، من أشهر هذه التمثيليات: «الضوء الشارد» و«العصيان» و«المطاريد» و«الوتد» وغيرها الكثير.

وهكذا نجد أن الملابس الشعبية المصرية تطايرت شهرتها عبر الحدود لتصل للعالم كله، بالإضافة لدور البطولة المطلقة في بعض من الأفلام المصرية الشهيرة التي حصدت الجوائز، وستظل هذه الملابس رمزاً للأصالة والتقليدية الإيجابية.

ويعكس الفن التشكيلي والنحت ببراعة التراث الشعبي المصري في الملابس الشعبية، فتمثال «نهضة مصر» الذي يعكس فلاحة مصرية، يعتبر من الانعكاسات الرائعة لرمز الفلاحة المصرية وهو موجود بشموخ أمام جامعة القاهرة بالجيزة، وأيضاً للمثال محمود مختار تماثيل نحتية تكاد تنطق جمالاً تجسد الفلاحة المصرية بملابسها الشعبية.

الخليجية

والأزياء الشعبية في العالم العربي، لا تقل أصالة وتاريخا عن مثيلتها المصرية، ففي منطقة الخليج نجد أن الملابس الشعبية لها عراقة وأصولها تضرب في عمق التاريخ، وتتميز هذه الأزياء بأنها فضفاضة واسعة لأنها مرتبطة بالبحر والصيد والغوص الذي له أزياء خاصة به.

والأزياء الخليجية النسائية التي جاءت محتشمة تغطي جسم المرأة، فضفاضة واسعة لها قيمة جمالية خاصة جداً خامتها راقية وصنعت بدقة ومهارة في التطريز والحياكة وتجانس ألوانها، وإن كان الأسود هو اللون الأكثر تداولاً بين النساء في منطقة الخليج.

والأزياء الخليجية الشعبية موروث قديم وحتى اليوم ترتديها الأجيال الحديثة من الخليجيات مع بعض التطور في التطريز، وأبرز ما فيه هو التطريز في مقدمة الزيّ والمعروف خليجياً باسم «الزري»، وهي وحدات زخرفية في مقدمة الثوب وفي مناطق متناثرة عليه باستخدام الخرز والكريستال والخيوط السوداء المطعمة بألوان أخرى متداخلة معها في جماليات وذوق رفيع.

اما الملابس الرجالية في منطقة الخليج تتميز بالبساطة والرحابة لتسهل الحركة وغير عاكسة لحرارة الأجواء صيفاً، وهي مصنعة من أرقى الأقمشة المستوردة من انجلترا بصفة خاصة وهي ناعمة أنيقة ذات طابع خاص، لونها أبيض، وغالباً خالية من أي تطريز، فهي انسيابية راقية يباع معها «الغترة» والعقال.

التطريز سمة حديثة عليها، بالإضافة لصرعة جديدة وهي الأكمام المتسعة عند الرسغين المطرزة بوحدات زهرية رائعة الجمال والفن الرفيع.

ويطلق على فن التطريز في الخليج فن «التخوير» أو فن «الخوار» أو فن «الكوادر»، وتستخدم فيه خيوط حريرية ومعدنية معالجة بشكل خاص جداً حتى تكون طيعة.

 .. السورية

وللملابس الشعبية التراثية السورية سحر خاص وجماليات رائعة وتاريخ عريق، وتعتبر واحدة من أجمل الأزياء الشعبية في المنطقة العربية، فهي تعكس سلسلة إبداعية في مجال حضارة هذا الشعب، وليس غريباً بأن إيحاءات كثيرة في ملابس النساء الشعبية في سوريا، وخاصة في الريف السوري ترجع إلى روائع تصاميم الأزياء لملكات عشن في تدمر أو دمشق، وهي أزياء كلاسيكية قليلة التغيير والتطوير، وذلك ربما للمحافظة على تقليدية المجتمع الريفي بسوريا.

أما «الفرميلة» فهي الجاكيت الفلاحي النسائي، ويصنع أيضاً من قماش المخمل (القطيفة) السميك، وغالباً ما تكون ألوانه زاهية كالفيروزي والبرتقالي والأرجواني، ويكون لامعاً يُرتدى فوق الثياب النسائية السوداء فتزداد أناقة وجمالاً.

ويبطن بالساتان الأسود اللامع، وله جيب، اشتهرت الحبرات بوضع المكسرات السورية الشهيرة وحلويات البونبون فيه لتوزع على أحفادها بكل الحب والعطاء. أما القنطوشة، فهي عبارة عن جاكيت يرتديه الصغار بسيط التصميم، مصنع أيضاً من قماش الجوخ (القطيفة) ويزين الصدر بمثلثات قماشية لامعة ملونة وله جيبان من الأسفل.

شمال إفريقيا والسودان

أما شمال إفريقيا فأزياؤها متشابهة إلى حد كبير، فنجد المغرب وتونس، تتميز كل منهما بأزياء شعبية رائعة الجمال والصنعة خاصة النسائية منها التي تكون على شكل عباءة تعرف «بالقفطان» في هذه البلاد، مصنعة من الكتان الملون وأيضاً الأسود أو الحرير الطبيعي، ومطرزة بخيوط ذهبية وفضية، ولها غطاء مثلث للرأس مثبت في قصة العنق ويعرف بالفرنسية باسم «كابيشون»، وهو معروف بهذا الاسم الفرنسي حتى اليوم كنتاج للاستعمار الفرنسي في هذه المنطقة من عالمنا العربي.

والقفطان النسائي المغربي غالي الثمن، واليدوي منه يصل ثمنه لآلاف الدولارات، وهو يظهر في عروض الأزياء العالمية، خاصة الفرنسية منها، ويتواجد في العواصم الكبرى كالقاهرة ودمشق، داخل محلات الفنادق السبع نجوم، ويمكن الحضور به للحفلات والأعراس.

والقفطان المغربي له حّيز كبير في جهاز العروس المغربية والتونسية، وعلى العريس إحضار قفطان لعروسه، مرصع بالذهب الخالص في حالة ثراء العريس المنتظر هذا.وللرجال قفطان أيضاً ولكنه مختلف، فهو يصل إلى الركبتين، ويرتدى تحته سروال مغربي أو تونسي، وعلى الرأس طربوش قصير، وهو أقل طولاً من الطربوش المصري الشهير. أما الزي السوداني، فهو من الأزياء الشعبية والحديثة على حد سواء، خاصة للسيدات، فهو عبارة عن ما يعرف باسم «الثوب السوداني»، ويتكون من تسعة أمتار، من القماش الخفيف، أشهره الشيفون والحرير والجاكا.

ويتميز بألوانه الزاهية ونقوشاته الجميلة، ويلف بطريقة خاصة تغطي السيدة من القدمين وحتى الرأس فوق الملابس المعتادة، كتنورة وبلوزة، وللأعراس والأعياد، وتزينه التطريزات، بالنسبة للرجال يرتدون الجلابية ناصعة البياض والعمامة التي تلف ثلاث أو أربع لفات.

 .. في فلسطين

وماذا عن الزيّ الفلسطيني؟ انه العراقة والأصالة ورمز الارتباط بالأرض، هو المظهر داخل معنى كبير، عبارة عن سروال وقميص وكوفية أو «الحطة» كما يطلقون عليها، وهي نسيج من القطن والحرير معاً بها مربعات زخرفية تحاط بالعنق أو يعصب بها الرأس وتعرف كذلك «بالعُصبة»، وهناك «البشنقة» التي هي عبارة عن منديل مثلث الشكل كبير نسبياً، وأطرافه مزركشة بزهور، ويعرف باسم «منديل أوية»، وعليه ترتدي النساء طرحة سوداء.

أما الرجال فهم إما يرتدون السروال المتسع وقميصا، أو «القنباز» وهو رداء طويل يرتدى فوق السروال ويزم عند الخصر، وهناك ما يعرف باسم «اليشت»، وهو عبارة عن عباءة ترتدى فوق الملابس في الشتاء.

 في الغرب

وللغرب أيضاً ملابسه الشعبية التي تطل كل حين من وراء تكنولوجيا حديثة جعلت العالم يتحدث بلسانها، ولكنه يرتدي ما يريد تعبيراً عن أصالته.

ففي الولايات المتحدة يعتبر «الجينز» الملبس الشعبي التقليدي لرعاة البقر في أفلام «الوسترن»، وهـــو مازال حتــى اليــوم ينتشـــر بقــوة حول العــالم كله.

أما في فرنسا، فما زالت «ماري انطوانيت» بملابسها الواسعة المنتفخة والصدرية الضيقة المعروفة باسم «كورسيه» والشعر المعكوس في منتصف الرأس، تمثل المظهر التراثي لأكثر شعوب العالم أناقة.

وأما انجلترا المفرطة في تقليديتها، فملابسها الشعبية هي عبارة عن تنورة صوفية «بكاروهات» حمراء مع الأخضر والأصفر، تعرف باسم «السكوتش» وتغلق بدبوس عملاق من الجنب الأيمن.

أما هولندا، تعكس ملابسها الشعبية فستانا بوسط مرتفع قريب من الصدر وتتسع من الأسفل وربطة رأس مميزة، ظهرت في أعمال الفنان الهولندي العالمي يوهان فيرمين في لوحته الشهيرة العالمية «خادمة بالمطبخ» التي قدر ثمنها بـ ‬80 مليون دولار، وهي موجودة في متحف أمستردام، والنسخة الأصلية هذه غير مخصصة للبيع.

وسيظل الزي الشعبي التقليدي لكل شعب على امتداد العالم، وبرغم كل مظاهر التحديث التي ألمت به، ما هو إلا انعكاس لتاريخ الشعوب، وعاداتها وتقاليدها وتراثها وبصمتها الخاصة جداً، بالإضافة إلى أنها «الملابس الشعبية»، شواهد المأثور الشعبي الأكثر تعقيداً، فهي التاريخ والعادات والتقاليد واللغة والفن جميعها معاً، بالإضافة إلى أنها تعكس الانتماء بكل معانيه، تعكس الاقتصاد والسياسة والمنزلة الاجتماعية، هي سفيرة الشعوب لخارج الحدود هي بصمة إنسان لكل العصور.

Email