تمثل صحة نفسيّة وروحية جمالية

الإضاءة.. علم وفن وفلسفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تعد الإضاءة مجرد إنارة لسوق، أو شارع، أو حي، أو بناء، أو ممر، أو غرفة، أو صالون .. وإنما باتت علماً قائماً بذاته، يسعفه في ذلك الفن، وتدعمه الفلسفة وعلم النفس، حيث صارت تسهم في توفير الجو الصحي لبدن الإنسان ونفسه، الأمر الذي يرفع من إنتاجيته، ويقلل من إصابته بأمراض عديدة، أولها ضعف النظر، والكآبة، والارتخاء.. وغيرها.

صارت الإضاءة المدروسة، إحدى وسائل التشكيل الفني، وإبراز جمالية العمارة، والتماثيل، والنصب التذكارية، واللوحات الفنيّة الجداريّة المنفذة بالألوان الزيتيّة، أو بالتمبرا، أو بالفسيفساء والخزف، والنحت النافر أو الغائر، أو اللوحات الإعلانيّة الطرقيّة... الخ. فالإضاءة الجيدة، هي التي تؤكد وتبرز الأشياء، وتكون فعّالة ومؤثرة بالعناصر التي تسقط عليها أو حولها، لتؤكد ما تحمل من أفكار ومضامين، أو لتبرز تشكيلها وجمالياتها الفنيّة، الأمر الذي أخذ يتطلب إيجاد نظام جيد لمخطط الإضاءة، مدروس بعناية وترو. والإضاءة إما مباشرة تصدر عن لمبة توهج مركب فوقها عاكس معدني، أو غير مباشرة تصدر عن لمبة توهج مركب فوقها غطاء نصف شفاف. وهناك إضاءة مزدوجة أو مختلطة، وأخرى شبه مباشرة.

الإضاءة وعلم النفس

مؤكد أنه كون النظريات (السايكولوجيّة) تهتم بعملية الإدراك المعقدة المتكونة من إحساسات مبسطة، هي مرتبطة بصفات الأشياء الماديّة لتكوين بناء ذهني للعالم، اعتماداً على بناء آلية للفعل الإدراكي المعرفي، ومدى تأثير الضوء في النفس، وبالتالي، منح الإنسان الإحساس بالفرح، أو السرور، أو الحزن، أو الغضب، باعتبار أن الإدراك هو استجابة مباشرة لصورة الشبكيّة المتشكلة بوساطة الضوء الساقط عليها، نتيجة لعلاقات الترابط الماديّة للمصدر. وبناءً على ما تقدم، باتت الإضاءة عنصراً أساساً في العمارة الداخليّة والخارجيّة، وفي المسرح، والسينما، والتلفاز، والمحال النجاريّة، والإعلانات المتعددة الوسائل والأشكال والوظائف، ووسائل التعليم ... وغير ذلك من مرافق الحياة الحديثة.

أنواع وأشكال

أخذت وسائل الإضاءة، أنواعاً وأشكالاً مختلفة، واعتمدت على مواد وخامات عديدة، وفق الزمن الذي ظهرت فيه، وذلك قبل أن يخترع الإنسان الكهرباء. فقد اعتمد الإنسان الأول على الإنارة الطبيعيّة ومصدرها الرئيس الشمس، ثم القمر. وبعدها اهتدى إلى وسائل بدائيّة استخدم فيها الزيوت، وشحوم الحيوانات كوقود مع ذبائل (فتائل) من القطن أو لحاء الشجر. واشتهرت وسائل الإضاءة السابقة على الكهرباء بأسماء عديدة، منها: السراج الحجري الذي كانوا يصبون فيه السمن البلدي، أو شحم الحيوانات المذاب، وكان يضم فتيلة واحدة، أو عدة فتائل. وبعدها جاء السراج المعدني الذي استخدمت فيه مشتقات البترول (القاز) أو (الكاز) ثم الفانوس، فاللوكس، والاتريك ... وغيره، وصولاً إلى الإنارة الحديثة القائمة على الكهرباء، وعلى وسائل ووسائط عديدة، منها المصباح العادي (اللمبة) أو البرجاكتور، أو الثريات المختلفة الأشكال والطرز، و(الثبوتات) و(الكلوبات). بعضها تنزل أشعته من أعلى، وبعضها من أسفل، أو من جانب، وبعضها الآخر يأتي من الداخل، وبأشكال عدة.

وتطال الإضاءة اليوم، مرافق الحياة كافة، بما في ذلك وسائل النقل المختلفة. وهي بألوان عديدة، ما جعلها عصب الحياة، وأهم وسائل تسهيلها وتجميلها وحمايتها، فالإضاءة من ألد أعداء اللصوص والمجرمين، الذين ـ كما يقال ـ يعملون دوماً تحت جنح الظلام. والإضاءة هي التي تمنح الإنسان الإحساس بالثقة والأمان والطمأنينة، عندما يسير في الشوارع ليلاً، ويتجول في الحارات والأزقة، وينتقل بين المدن. كما أنها، وقبل هذا وذاك، هي التي تمنح التاريخ المُجسد بالأوابد الأثريّة، سحره وجماله، وتغري المرء بالتعاطي معه.

إضاءة الآثار

أصبحت الآثار والمدن والقلاع والقصور والبيوت القديمة، العائدة إلى أكثر من حقبة تاريخية بعيدة أو قريبة، مراكز جذب سياحية رئيسة ومهمة، يقصدها السياح ومواطنو البلد على حد سواء، لما تحمل هذه المعالم الأثرية من دلالات تاريخيّة، ومعارف وفنون وبراعة معماريّة، تُعتبر من المعجزات مقارنة بالإمكانات المحدودة التي توفرت في عصرها، حيث كانت الأدوات بسيطة، والآلات متواضعة، والمواد عادية ومحدودة، مع ذلك، استنهض إنسان تلك الفترة التاريخية الموغلة في القدم لهذه الأوابد المعماريّة والفنية، وفق قواعد تقنية وهندسية متطورة جداً، بل إن بعضها لا يزال يشكّل حالة فريدة من الإعجاز الفني والتقاني الهندسي، ترسم الدهشة والإعجاب على وجه كل من يراها. ومن أجل هذا، تتسابق الدول والحكومات اليوم، على الحفاظ والعناية بهذه المعالم والصروح الأثرية، فتقوم بترميمها والحفاظ عليها، وحراستها وتجميلها وتأهيلها لاستقبال الزائرين وجذبهم إليها، وذلك لأكثر من هدف اقتصادي وثقافي ودعائي ووطني. فهذه العمائر والآثار والقلاع والنصب التذكاريّة والتماثيل، تروي جانباً من حضارة البلد وتاريخه الثقافي والاجتماعي، وتدل على الجذور الأصيلة والعريقة للأمم والشعوب التي تملكها، وفي الوقت نفسه، تدر زيارتها أموالاً طائلة على خزينة الدولة، سواء من رسوم الدخول إليها، أو من ريع المشغولات الشعبيّة والمطبوعات السياحيّة التي تسوَّق في رحابها أو إلى جانبها. من أبرز مقومات وعناصر جذب الناس إلى هذه المعالم الحضارية الأثرية، تأمين الوصول إليها بيسر وسهولة، وتزويدها بشبكة واسعة من الخدمات تطول مواقف السيارات وكيفية الدخول والتجول فيها، والمعلومات الدقيقة حول تاريخها ومرافقها وموادها، وأمكنة تناول الطعام والشراب ... الخ.

عملية معقدة

ويضاف إلى ما تقدم، عنصر مستجد، ضروري ومهم، هو إبراز هذه المعالم ليلاً من خلال عملية إضاءة مدروسة ومناسبة، تبرزها كتحفة مجسمة يتعانق فيها الجمال والتاريخ، العمارة والفن، الأصالة والمعاصرة، حتى تصافح عيون القاصي والداني بيسر وسهولة. وعملية الإضاءة هذه ليست سهلة كما قد يظن البعض، وليس بإمكان أي موظف في دائرة للكهرباء أو في محافظة، أو بلدية القيام بها. فهي ليست مجرد وضع مصباح كهربائي هنا وآخر هناك، بلون أبيض أو أصفر أو أخضر ... الخ. إن هذه العملية أعقد وأصعب من ذلك بكثير، وتحتاج إلى اختصاصي دارس ومتابع للجوانب التقانية والفنيـــــة والآثارية في آنٍ معاً: التقانية المتعلقة بالكهرباء واحتياجاتها وألوانهـــا واستطاعاتها وأمكنتها وكثافتها.

والفنية التي تطــــول عملية التجسيم الصحيح والسليم للكتل والمساحات والتشكيل العام الذي تخلقه عملية الإضاءة في النهاية. وآثارية، تتعلق باللون وارتباطه بالعتاقة، وإبراز جانب وتعتيم وآخر. إن هذه المقدمـات الثلاث، يجب أن تتكامل وتتعاضد، بهدف تحقيق أقصى حد ممكن من الجمال والسحر في عملية تجسيم الأثر وإبراز معالمه، وتأكيد قيمتــــه المعماريــــة والفنية والتاريخية، وجعله حسن الوقع في العين والإحساس من المتلقي، لا بل جعل هذا المتلقي، يشعر من خلال هذه الإضاءة، برهبة التاريخ وجماليات الماضي وعظمة الأجداد الذين أبدعوه وأنجزوه في زمن غابت عنه التكنولوجيــا المتطورة، وحضرت القدرات الإنسانية البسيطــــة والعظيمــــة في وقت واحد.

تخصص مستقل

وعلى هذا الأساس، يجب التوقف مطولاً عند عملية إضاءة الأوابد والآثار الفنية والتاريخية، وإسنادها إلى متخصصين ضليعين دارسين ومتمكنين من مهنتهم، التي يجب أن تجمع بين خبرة التقاني العميقة وحساسية الفنان المجل والمقدر والعاشق للأثر الذي يقوم بإضاءته. وهنا لابد من الإشارة والتأكيد، على ضرورة إخفاء عناصر الإضاءة، بحيث لا يظهر منها سوى الأشعة الساقطة على الأثر، بغية المحافظة على مظهره التاريخي القديم كما جاءنا من الماضي، وتالياً عدم إقحام مظاهر تكنولوجية حديثة عليها، من إنارة وتدفئة أو تهوية أو ما شابه، بل تمويه كافة هذه العناصر وإماتتها، بهذا الشكل أو ذاك، لكي لا تسيء إلى خصائص الأثر ونسيجه القديم. وما يجب أن نلحظه أيضاً، عند ترميمنا للأثر، اعتماد المواد والخامات المستعملة أساساً في تنفيذه، بغية تحقيق حالة من التوافق والانسجام بين القديم والجديد.

إن رحلة تأمل ساحرة للآثار المضاءة، ليلاً، بإتقان وبراعة، تأخذنا إلى إنجازات الإنسان القديم والمعاصر. رحلة يحملنا فيها الضوء المبعثر فوق جهد إنساني خلاق، جاءنا من التاريخ البعيد والقريب، إلى حالة من العناق الحميمي المؤثر، الهادئ والمريح، بين الضوء والتاريخ، تتم في ليل ساحر، يتنفس الفن والحضارة والأناقة والجمال. وهذه القيم مجتمعة، ما كانت لتتجانس بهذا الرونق والبهاء، لولا هذه الإضاءة التي منحتها الحياة والتجدد والسحر المفعم بليل التاريخ الصامت، الهادئ العميق، المليء بالأسرار والحكايا.

Email