البرق والرعد.. حكايات وأساطير

ت + ت - الحجم الطبيعي

البرق والرعد من أبرز ظواهر الطبيعة جمالاً ورهبةً وخطورةً، ومن الهواجس التي هيمنت على فكر الإنسان منذ بدء الخليقة وحتى زمننا المعاصر، حيث انسحب تأثيرهما على عوالمه، من الأسطورة إلى العلوم والفنون أجمع.

شغلت هذه الظاهرة الكونية الناس بمختلف مشاربهم، من رجل الكهف الذي تعرف على النار من خلال احتراق شجرة أصابتها صاعقة البرق، أو المزارع الذي تحمل له هذه الظاهرة بشرى الخير في المطر ونذير الدمار، أو العالم الذي سخر علمه لكشف آلية عمل البرق والرعد، وحالة الإلهام والخشوع التي يعيشها المفكر والفنان والأديب والإنسان العادي أمام قوة وجماليات هذه الظاهرة، التي تغسل الكون والنفس والروح من أي تلوث وشوائب.

وتتجلى روعة وقوة وجماليات ظاهرة البرق والرعد، في مشهد بانورامي خاطف للضوء والصوت، يخترق وميضه، بخط متعرج أو خطوط متشعبة، الفضاء ليربط في أقل من الثانية ما بين السماء والأرض، فيعقبه هزيم الرعد الذي يزلزل صوته الكائنات ويصدع البنيان.

في الأسطورة

بالعودة إلى البداية، يمكن القول إن الإنسان القديم، مثلما هو حال الطفل راهنا، عرف بغريزته ماهية مخاطر البرق وعواقب غضبه، كاحتراق الغابات وقتل الكائنات. وقاده حذره وخوفه إلى الإعلاء من شأن تلك الظاهرة لتأخذ مكانة مقدسة في الحضارات القديمة والأساطير قبل ظهور الديانات السماوية. وكان (زيوس) كبير الآلهة عند الإغريق يرشق الأرض ببروقه حين ما يغضب، وكذلك الأمر مع (جوبيتر) عند الرومان. أما (طور) الإله الأكبر عن قدماء الإسكندنافيين، فكان الرعد الذي يفرقع صوته نتيجة ضربه لمطرقته لدى ركوبه عربة يجرها جديان أو أكثر وهو يتجول بين المجرات، وأطلق عليه الجرمانيون القدماء اسم الإله (دونار). كما دعي بالإله (هداد) و(أداد) و(تيشوب) في حضارات الشرق القديمة. وفي شرق آسيا عُرف باسم (لي غونغ) عند الصينيين، وباسم (كامي) و(سوسانو) عند اليابانيين. وفي أميركا حملت الآلهة عند السكان الأصليين اسم (عصفور الرعد). وسميت بـ(تشاك) عند شعب المايا في أميركا اللاتينية، و(كوسيجو) في الأسطورة المكسيكية.وفي افريقيا تعتقد قبائل (يوروبا) في الغرب، أن الإله المسؤول عن البرق والرعد هو (شانغو)، وفي المحيط الجنوبي هو (هايكيلي)، و(ناماركون) عند الشعوب الأصلية في استراليا.

في العلم

بدأ الإنسان في أواخر القرن الثامن عشر بمحاولة فهم هذه الظاهرة من خلال القوة الكهرومغناطيسية، ويحكى أن العالم والمخترع في عالم الطباعة والناشر الأميركي بنجامين فرانكلين (‬1706 ـ ‬1790 )، اكتشف العلاقة بين البرق والكهرباء من خلال التجربة والمصادفة في عام ‬1752، حيث أخرج طائرته الورقية لتحلق عالياً في السماء أثناء عاصفة رعدية، فسرت في جسمه الكهرباء عبر خيط الطائرة المبتل إلى المفتاح المعدني الذي يمسك به والمربوط بالخيط، وقد أسعفه الحظ أن نجا من الموت لضآلة قوة التيار الكهربائي لصاعقة البرق. وفي عام ‬1753، أعلن فرانكلين عن اختراع قضيب مانع الصواعق، حيث يثبت على أسطح معظم البنايات العالية وناطحات السحاب، ويتصل بالأرض بموصل سلكي، ما ساهم في تقليل نسبة المخاطر. ومع تطور العلم تبين للعلماء أن البرق ينتج من خلال الاحتكاك الناجم بين غيمتين تحمل إحداهما شحنات إيجابية، والأخرى شحنات سلبية، ونتيجة لذلك الاحتكاك، سواء بين الغيمتين أو بين غيمة والأرض، يتولد تيار كهربائي قد تصل قوته إلى ‬30 ألف أمبير مع ما يزيد على مليون فولت، وذلك في فترة زمنية تتراوح ما بين ‬1 إلى ‬100 ميلي من الثانية. ونتيجة التفريغ الكهربائي تتولد حرارة عالية جدا قد تصل إلى ‬15 ألف سانتيغريد، وينتج عن تلك الحرارة سلسلة من الجيوب الهوائية التي تحدث خللاً بسبب الضغط المفاجئ، ليتشكل ما يشبه الانفجار الصوتي الذي يدعى بالرعد. وتمكن العلماء من خلال ظاهرة البرق والرعد وسرعة الضوء التي تسبق بكثير سرعة الصوت، تمكنوا من احتساب الزمن المرتقب لوصول العاصفة، من خلال قياس الزمن الفاصل بين صوت الرعد على مستوى البحر، وبين هزيم الرعد ووميض البرق بالثواني (واحد من ألف- اثنان من ألف- ثلاثة من ألف ...)، وقسمة عددها على خمسة ليتم من خلال الناتج تقدير البعد التقريبي للعاصفة القادمة.

ومع تزايد أعداد الباحثين والمهتمين بدراسة هذه الظاهرة التي ترتبط في بعض الأحيان بالعواصف والأعاصير، بدأت تتشكل مجموعات من الفرق العلمية المختصة المتقصية حول تلك الظاهرة التي تتجلى بكثافة في عدد من بلدان العالم ومناطقه، مثل ولاية فلوريدا في أميركا.

في الأدب

استوحى الأدب العربي من البرق والرعد العديد من الصور والمعاني والاستعارات، والأمثلة على ذلك لا تعد وتحصى، منها :(ترعدد الرجل أي أخذته الرعدة، نتيجة الخوف والفزع). والرعدة مشتقة من كلمة الرعد. وقال أحد الشعراء: (يا جلَّ ما بعدت عليك ديارنا / وطِلابَنا فابرق بأرضكَ وارعِدِ)، ويعني الشاعر بقوله هذا الاستهزاء بالتهديد والوعيد لبعد المسافة وعدم قدرة الذي يهدد ويتوعد، على الوصول لمن يهدده.

وفي الأدب العالمي استعان الأدباء في تصوير الأجواء الدارمية لحبكتهم بالرعد والبرق، مثل الكاتب الانجليزي وليم شكسبير (‬1546 -‬1616)، في مسرحياته: (هاملت)، (ماكبث)، (الملك لير). وكذلك في رواية (مرتفعات وذرينغ) للكاتبة إميلي برونتي (‬1818-‬1848)، والتي قاربت بين قسوة الطبيعة وبعض شخصيات عملها كهيثكليف.

في السينما

أضفى صناع السينما من خلال تصويرهم للبرق والرعد، أجواء من الرعب التي تبث الخوف في قلب المشاهد، فها هو وميض البرق يكشف للمشاهد لحظة طعن القاتل لضحيته بمدية حادة، كما في أفلام المخرج البريطاني الشهير ألفريد هيتشكوك (‬1899 ؟ ‬1980). اذ نجد حضورا كبيرا قويا لهزيم الرعد الذي يوقظ سكان القرية بأكملها، ويستدعي الأموات من مقابرهم. وأحدث الأفلام في هذا الإطار فيلم (بيرسي جاكسون والأولمبيون: قصة سارق البرق)، الذي أنتج عام ‬2005. وقصة الفيلم مستوحاة من الأساطير الإغريقية، والزمن هنا هو خلال حضارة الإغريق حيث يسرق البرق سلاح الآلهة (زيوس). وهنا يدخل بيرسي في عالم الأساطير، مصورا أن الإغريق بتأثير ذلك، عرفوا المكان الذي خبأ فيه سارق سلاح زيوس دون علمه.

فوائد وخيرات

يتسبب المنخفض الجوي الناجم من حرارة البرق، في هطول الأمطار وري الأرض. وتحمل تلك الأمطار الكثير من الفوائد نتيجة تحولها إلى ماء مؤكسد بكمية إضافية من الأوكسجين، يغسل الجو من الجراثيم والتلوث، وأيضا يستخدم في تنظيف الجروح. كما تساهم هذه الأمطار المحملة بحامض الكاربونيك بتكوين سماد نباتي. ويقول بعض العلماء إن كمية السماد الحاصل من أمطار البرق خلال سنة واحدة، يعادل عشرات الملايين من الأطنان. ويساهم مطر البرق في موسم الربيع، وكذلك بداية الشتاء بإنبات فطر (الفقع) أو (الكمأة) في الصحارى، حيث يتكون هذا الفطر في باطن الأرض الصحراوية بسبب البرق الذي يشبع الهواء بأكسيد الآزوت. وهو من فصيلة اللازهريات ويشبه درنات البطاطا، ولا جذر أو ساق له، ويستدل الباحثون عليه من خلال بعض النباتات الصحراوية التي تنمو بجواره، مثل (الطرثوث) و(العرجون) و(الرقروق). وللفقع قيمة غذائية عالية فهو يحتوي على نسبة عالية من البروتين الغني بالأحماض الأمينية الأساسية والفيتامينات، وعلى رأسها فيتامين (سي)، مع نسبة قليلة من الدهون. وعادة يبتهج الناس بموسم هذا الفطر، فينظمون رحلات جماعية لجمعه.

Email