الـO سلبي..الأحمر والمشعّ

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحوك كتاب"الـO سلبي.. الأحمر والمشعّ"، لمؤلفه إسلام أبو شكير، كنايات وتجليات موسومة بالحزن وممزوجة بالحب، تتآلف في قوالب أدبية جذابة، لتصوغ ومضات إبداعية ذكية ومباشرة. إذ يرصد المؤلف ألم وعذابات الناس في بلده سوريا، جراء ويلات الديكتاتورية والقهر والتسلط والتقتيل.

يرسم أبو شكير في كتابه، وهو مثخن بمشاعر تسرد فداحة كلوم الوطن، قصائد مدماة بنزف الكلمات، نستشف من خلالها صورة مقاربة بليغة لماهيات الحزن والويل التي تحل في وطنه (سوريا)، حالياً. ورغم انه يسافر، في بدايات الكتاب، إلى رحاب عوالم نثرية مشبعة بصيغ التأملات الحياتية اليومية، إلا أن الرحلة لا تمتد به كثيراً، حتى يعود ليسكب دفق عاطفته، متوهجة بنبض جراح الأهل، متلونة بروح الأحمر، مضمخة بعطر التضحيات، فيحكي في هذه الحال، قصة المأساة والتقتيل اليومي في سوريا، جراء "جرم"! واحد يرتكب: طلب الحرية ورفض الظلم!!!

يستهل أبو شكير كتابه مع تأملات شاعرية منغمسة بمجريات الحياة، متعمقة في عوالم الفكرة ودروب الكلمات. إلا أنه يختار في رحابها، وعلى الدوام، أن ينتصر لمفهوم الجمال وأنشودته، وبذا نلقاه، في هذا الإيقاع، يعري المفردات من أثوابها البالية ليكشف حقيقة المواقف المعاشة، ببساطة وصراحة، مبتعداً عن اصطناع أية بيوتات لفظية، جوفاء منمقة، تخفي الجوهر.

وهكذا، لا يكف عن تصوير يومياتنا وتصرفاتنا بشفافية تدهمنا بغتة لتخرجنا من متاهات الروتين، كي نقف لحظة أمام أنفسنا، فنتأمل حالنا وننظر في معاني ما يطالنا وما يدور من حولنا. وفي هذه السردية الوصفية، نجد أبو شكير لا يكف عن العزف، تحديداً في حديثه عن فرادة الروح الأنثوية وقيمة الإنسان، بموازاة دعوات تطهير الروح، على أوتار الجمال والحق والخير.

وهكذا يناجي حبيبة متخيلة: أن المتعة معها تكمن في مشاركتها رنين الكأس والتكامل بتأثير الصراع والاصطدام بينهما. كما يختصر أبهى معنى لموسقة وحركة يد محبوبته على الطاولة: "ثمة حصان جائع في صدرها يخرج أقدامه على شكل أصابغ.. ويجري".

ولا يتوقف الكاتب في نصوصه المتناغمة، عن محاورة حبيبته، معرفاً إياها بشؤونه وشجونه اليومية، وكذا ما تفرضه عليه زحمة المشاغل اليومية، معبرا لها، وفي شكوى لا تنتهي، عن ألم الفراق المؤقت، وحاكياً لها عن الغزل والاحتجاج، وعن حقيقة العلاقة والأخطاء وأوصافها.

يعتني المؤلف، في الجزء الثاني من كتابه، بضخ إحالات فلسفية عميقة، ربما يريد بها سكب قليل مما في جعبته من مخزون حزن وألم، حوّلاه إلى شخص سوداوي النظرة، وكأنه يؤشر في ذلك إلى اعتصارات الألم في روحه جراء ما يكابده السوريون. وهنا نراه يتحدث عن امتهانه الحرائق وحفر القبور بصيغ استعارية دالة، كما يكثر من احتضار حالات الموت ومعانيه، عبر الحديث عن الجثة والرحيل، إذ يحبذ في هذا الوهج، أن يوائم بين تفاصيل الجمال في الحياة، عبر المزج في نسغ واحد، بين المرأة والقصيدة: "نهضت المرأة من نومها، فرأت النار تلتهم الغابة. أسرعت نحوها، وخلال دقائق كانت قد تحولت إلى قصيدة".

عبق أدبي متقن، مغموس بالحزن وطعم الشكوى والمرارة، نواجهه في نهايات "الـo سلبي.. الأحمر والمشعّ". إذ يلون أبو شكير صفحاته، بشجون الذات وهموم الوطن.. ولكن، ليس ليقول لنا بكائياته ويطلعنا على ويلاته، بل ليصف، عبر لغة شائقة عذبة نافذة في معانيها، حكايات العذاب والغبن والدماء والموت والخراب، في بلده سوريا.. وهنا يقودنا في الاستهلال، إلى التمسك بالسكون والسكينة، غاية ان نلج محيط التمكن من قدرات القياس الهادئ، وكذا الراحة والقبول. فيعود ويفاجئنا حينها، بإعلانه الشبه البالغ، بينه وبين جثته:

 فعمرها من عمره.. وننقاد، معها، ونحن نقرأ كلماته، في هذه المحطة، إلى إسقاطات ذكية ينسجها حول الوضع القائم في سوريا، حاليا، وما تشهده الثورة السورية ويكابده الناس وما تعايشه البلاد من ويلات تقتيل يومي، فقط جراء المطالبة بالحرية وزوال ربقة الاستبداد. ولكنه هنا، لا يعلن ما يعلنه، ليصور الحزن.. بل ليؤكد الرسوخ والثبات، فالناس في بلاده، اختاروا الموت بسلام دفاعا عن الحرية ورفضا للظلم، وبذا هم.

وكما هو في مشهدية نظرته الى جثته، لا يبالون في الموت برصاصات حاقدة، فروحهم تبقى خفاقة ترفرف في فضاءات ربيع الوطن. ولا تطول العبارات أو تشتد الحالات الوصفية بالكاتب، كثيرا، حتى نجده يعلنها بالفم الملآن: إنها سوريته.. إنها نبيذه الخاص.. ومتعة حبه الدائم. ومن بديع ما يحوك في تجليات العبارة هنا، أنه لا يعثر على قرائن للفظتها، إلا في قاموس معان يختصر في كلمات وحيدة: أرض، حب.. وكذا: مقبرة.

ولا يكف أبو شكير، عقب هذه المحطة، عن ذكر مواقف عديدة، تلاحقه وتواجهه، أينما حل، في إقامته الحالية، لتذكره بأنشودة النقاء والعشق: سورياه.. فذاك السوبرماركت، الذي يدلف إليه، يواجهه أول ما يدخل، بمنتجات من بلده، تجعل الحنين يعصف به، وتؤجج الامل في دواخله.. مربى تين وكرز.. وباذنجان و.. إنها بضاعة سورية..

ولكن أبو شكير، لم يقترب منها حبا بالشراء.. أبداً، فهي سحرته وجذبته إليها لانه غدا منتشيا وكانه يستمع بفعلها، الى نشيد: "موطني موطني".. وحينها، لم يستطع إلا أن يؤدي لها التحية. ويصل الكاتب، بعدها، إلى محطة مفعمة برمزية المعنى.. إذ ينبئنا بأن دمه موزع، كناية عن وحدة تراب الوطن، بين مختلف مدن سوريا ومناطقها، فدمه المصنف في زمرة الـ(o) سلبي، دم كل سوري، وعنوان واحد لا يتجزأ.

يدرج كاتبنا، في لمحات إضاءاته الابداعية اللاحقة في الكتاب، جملة من السرديات الوصفية الواقعية، الممزوجة بتخيلات درامية معبرة، يحكي فيها عن التضحيات لأجل الحرية في موطنه: في البوكمال وفي دمشق وفي درعا وفي حمص وحلب وحماة و... ومن بديع ما يقول ابو شكير في كتابه: "دير الزور: للجرح ضفتان..

وبينهما جسر معلق"، وفي غمرة ذلك، لا ينسى استحضار قاسيون وعظمته وقيمة حضوره. وكذا صخرة الربوة التي يراها معصم دمشق موشوما بذكرى الموت، وكذا فإنه يستحضر، ياسمين تونس الخضراء، ومجد أبو عزيزي مفجر الثورة.

 

 

 

 

الكتاب: "الـO سلبي.. الأحمر والمشعّ"

تأليف: إسلام أبو شكير

الناشر: الغاوون - بيروت 2012

الصفحات: 190 صفحة

القطع: المتوسط

Email