يتطرق الكتاب، في مستهل فصوله، الى مفهوم التصوير وصلته بالحواس، ثم عرض المؤلف د. جهاد رضا، مادته البحثية ضمنه، في ثلاثة فصول. وتناول في اولها: التصوير الحسي وظاهرة التشخيص، متحدثة عن طريقة الشعراء العميان في تقديم معانيهم، واعتمادهم أسلوب الوصف المباشر والمتجلي في فن التشبيه بشتى أنواعه، ووقوفهم على العبارة المجازية المتمثلة في الكناية والاستعارة. وبحث رضا في الفصل ذاته: الصور الحسيّة عند الشعراء العميان، ابتداء من الصور السمعيّة، ثم اللمسيّة فالشمية والذوقية، وكان لابد هنا- حسب المؤلفة، من الحديث عن صورة ألح عليها الشعراء العميان: (الصورة اللونية)، اذ يتمثل من خلالها مفهوم الشاعر الأعمى في استخدام اللون، ومثل ذلك، قول بشار بن برد:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا: بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم

الاذن كالعين تؤتي القلب ماكان

ويبين المؤلف انه تقوم الصورة اللمسية بدور مهم عند الأعمى، في مسألة الإدراك الجمالي، فهي تمكنه من الشعور بإحساسات فنية واستيعاب المادة التي حوله، كقول بن برد:

أمامة قد وصفت لنا بحسن

وإنا لا نراك فألمسينا

ويركز الفصل الثاني من الكتاب، على دراسة التصوير الذهني، والذي يقسم إلى التصوير التعجيبي، اذ ربما يعمد فيه المبدع المصور الاعمى، إلى الربط بين عناصر صورة ما، ليثير الدهشة والإعجاب، دون أن ينتظر فكرا أو شعورا وراءها، سوى المقدرة على الربط، ولاسيما بين البصريات، كقول عبد العزير حسني الأعمى:

قال العواذل قد طولت حزنك إذ

لو شئت إخراجه عن سلوة خرجا

ولن أطيق خروج الحزن عن جلدي

لأنني أنا لم آمره أن يلجا

كما يبحث المؤلف، في الفصل عينه، موضوعة التصوير الذاتي، متمثلا في الصور النفسية التي تتصل بالانفعالات الشعورية، بحيث يعبر الشاعر عنها تعبيرا قد لا يحتاج فيه حدقة وصّافة تدقق في جزئيات العناصر المتناولة، وتمثل التصوير الذاتي أيضا بالصور الإيحائية التي يتكئ فيها الشاعر الأعمى على لفظة تحمل تجربة وتوحي بقصة انفعال، وذلك كقول المعري:

أتوهمني بالمكر أنك نافعي

وما أنت إلا في حبالك جاذب

وتأكل لحم الخل مستعذبا له

وتزعم للأقوام أنك عاذب

والعاذب: الذي لا يأكل ولا يشرب

وكقوله أيضا:

والنفس في آمالها كطريدة

بين الجوارح مالها أنصار

وهي بمجملها، صورة إيحائية تحملنا إلى عالم نتصور فيه نفس الإنسان تلاحقها الآمال، كحيوان تطارده الجوارح لتفترسه، بينما انفرد وحيدا لا يملك دفع الضرر عنه.

وخصص رضا الفصل الثالث في كتابها، لدراسة شعر العميان وفنياته بين التقليد والتجديد، فتناولت فيه الصور التقليدية، التي كان فيها الشعراء العميان عالة على أشعار المبصرين ممن سبقهم، لكأن الشعراء العميان يحاكون المثال ليس إلا، فالمعري رغم تأخره، يحلق في أفق معانيهم وصورهم، وذلك يظهر في قوله:

معانيك شتى والعبارة واحد

فزندك مغتال وطرفك مغتال

فسقيا لكأس من فم مثل خاتم

من الدر لم يهمم بتقبيله خال

ويوضح المؤلف ان الشعراء العميان كانت لهم مساهمات إبداعية متجلية في تصويرهم النفسي والتعبيري، محاولين فتح آفاق جديدة، كقول المعري:

وعيشتي الشباب وليس منها

صباي ولا ذوائبي الهجان

وكالنار الحياة فمن رماد

أواخرها وأولها دخان

ويقف رضا، في بحث هذه النقطة، على صورة جديدة، حيث تجد انه (المعري) يريد إثبات فكرته حول زمن العيش الرغيد بالنسبة إلى المرء، فيراه ينحصر في أيام الشبيبة دون الصبا والكبر، ويرى في صورة النار التي تبدأ دخانا وتنتهي رمادا، خيرا لا ينال إلا بما بينهما من استعمال يحقق الهدف. وتؤكد هنا ان هذا الربط بين عناصر الصورتين، جعل البطليوسي يقول:

(وهذا معنى لا احفظه لغيره، فاستنباط المعاني لا ينتظر حدقة سليمة ليستطيع المرء ايصال احساسه بالأمور والتعبير عن شعوره).

ويلفت المؤلف الى اننا نجد تصويرا لا يقوم على المشاهد البصرية، بل هو تخيلي، في امثلة هذه الابجاعات، حيث عثر فيه الشاعر بشار بن برد على رؤية جديدة لما يريد الايحاء به، من هيمنة الأشجان على نفسه، كقوله:

الا لا ارى شيئا ألذ من الوعد

ومن أمل فيه وإن كان لا يجدي

كأن فؤادي طائر حان ورده

يهز جناحيه انطلاقا الى ورد

ومن حبها أبكي اليها صبابة

وألقى بها الاحزان وفدا على وفد

اتجاهان

يكشف الكتاب، أثر فقدان البصر، في ثلة من الشعراء القدامى، إذ تجلى ذلك في تفكيرهم وتصويرهم ومعانيهم، وأرغمهم على إعمال الفكر وقدح الذهن، رغبة في مجاراة المبصرين ونصرة على شعور النقص، الى ان تجسد في اتجاهين متناقضين: الأول، ردة فعل اظهرت صاحبها بالتفلت والإباحية والعنف، وتمثلت في شعر بشار بن برد. والثاني، اتبع نهجا خاصا، فبدا فيه انطوائيا متشائما سوداويا، عد معه العمى، عورة يخشى أن يراها الناس، كما عند المعري .

المؤلف في سطور

يعمل د.جهاد رضا، استاذا للادب العربي في جامعة حلب بسوريا. وهو متخصص بمجال النقد الشعري. قدم العديد من الدراسات. واصدر مجموعة من الكتب البحثية النقدية التي تعنى بالموضوعات الشعرية والصور الفنية.

الكتاب: التصوير الفني

في شعر العميان

تاليف: د.جهاد رضا

الناشر: اتحاد الكتاب

العرب

دمشق 2011

الصفحات: 263 صفحة

القطع: المتوسط