مقدمة في تجليات الغريب في الإبداع والحياة

الفن والغرابة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يستهل مؤلف الكتاب، د. شاكر عبد الحميد، أبحاثه، في التأكيد على جاذبية حيثية وجانب الغرابة في الفن بمختلف أنواعه، مشيرا في هذا السياق إلى ما كتبه الشاعر الفرنسي بودلير، ليعبر عن إعجابه بأعمال أحد الفنانين التشكيليين، الذي تابعه وهو يعمل، حيث وجده على حالات من الانفعالية والعصبية الغامضة. فقال بودلير عنه: يبدو أن خوفا من عدم كان يسيطر عليه.. كان يخشى أن يدع شبح هذه اللوحات يهرب منه.

ويوضح عبد الحميد أن الغرابة في جوهرها، خوف يتطلع للأمن ورعب يتشوف للاطمئنان، والغرابة حياتية وجمالية، ولا فاصل حاسم بينهما.. وهو ما قد يفسر السلوك الغريب لبعض الفنانين. وكثيرا ما يتردد أن هذا الفنان أو الشاعر، له عادات أو طباع أو حتى سلوكيات غريبة، وتلك الغرابة التي نلحظها على مسلكه الحياتي هي المظهر لغرابة أخرى مبطنة تستقر في فنه أو شعره.

ويطلعنا المؤلف على واقع انه ناقش الفلاسفة تلك السمة، وقاموا بتحليلها، والبحث في أسبابها، ومظاهرها. فمنهم من أكد أن الصفة المميزة للغرابة تتعلق بالخوف المتخيل أكثر من الرعب الحقيقي. أي أن الغرابة منطقة بين المألوف والغريب، وبذا فهي مكتسبة من جراء تخوف (المبدع) على عمله، وذلك بداية من فكرة العمل وحتى آخر نقطة في تنفيذه. وبالتالي ربما أن الغرابة هي خبرة محتملة، تحدث في الزمان والمكان، وهى خبرة تشتمل على إحساس بالقلق وتداعي الذات، القلق على تلاشي العمل الإبداعي قبل تنفيذه. كما أن الغرابة شعور خاص بالتردد والالتباس والدهشة، شعور يتصاعد من حالة الشك البسيطة إلى الرهبة، إلى خوف، إلى الرعب. والغرابة التي هي نقيض الألفة والأمن موجودة في الحياة حولنا. بما يعنى أن جملة المشاعر والأفكار حول العمل مهددة دوما بالفقد، وهو من أسباب الغرابة.

ويشير عبد الحميد إلى أن الغرابة تتعلق بكل ما هو غريب وغير مألوف بالنسبة للعادي من الأمور والمشاعر، فهذا العادي قد يتم فيه الامتداد حتى يصبح غريبا. وهو ما يعني أن الغرابة تولد من العادي، إلا أن تراكم مشاعر المبدع التي تتسم بالقلق، تنتهي بما يمكن أن يوصف بالغريب، في السلوك الشخصي، أو المنجز الإبداعي. كما أن كل موضوعات الرعب، حتى لو كانت صغيرة الحجم كالحية والحيوانات السامة، تكون قادرة على إثارة الخوف والرعب، والجليل عموما وكذلك الغريب يتعلق بمثل هذا النوع من المشاعر، إضافة إلى مشاعر الدهشة والتعجب. ويفسر فرويد جذور الخوف الفطري من العمى، بأنه غالبا تتأتى من إبدال للخوف من الخصاء، تماما مثل «اوديب» الذي فقأ عينيه عقابا لما اقترفه في الأسطورة الشهيرة.

ويبين المؤلف أن الخبرات الغريبة غالبا ما تكون مثيرة للاضطراب، وذلك لأنها توحي باحتمالية وقوع أحداث مفاجئة، أو تغيرات عنيفة في مسار الحدث الجاري، حيث إنها تستثير مشاعر الشك وعدم اليقين والالتباس الملازم للخوف. إلا أن الغريب ليس هو المنفر، وهناك معايير للمنفر من الفن، وهي: أن تكون الطبيعة المادية قليلة القيمة والأهمية، ما يعنى أن جوهر العمل الإبداعي غير ذات قيمة موضوعية. ولأن في الفن كل الموضوعات التي يعالجها الفنان داخل العمل سواء، وأن أي إخلال بين توازن تلك الموضوعات داخل العمل يسبب النفور. كما أن عدم توافر ما يعرف ب(النبض) يؤدى للنفور، والنبض هو كل هز أو تحريك بطيء وغير مدرك يجعلنا نشعر بالنمو الفني أو التنامي داخل العمل. ثم أخيرا «الفوضى» داخل نظام أو قوانين العمل المفنى.

ويؤكد عبد الحميد أنه لا تقتصر الغرابة على الأعمال الفنية الشائعة، إذ قد تكون في المكان، في العمارة... إلخ. فالمدن الكبيرة، غير المتجانسة، تؤدي إلى الشعور بالغرابة، وان قال بنجامين كونستانت بعد الثورة الفرنسية: إن الغرابة في المدن هي نتيجة مترتبة على مركزية الدولة، وكذلك تمركز السلطة السياسية والثقافية في يد أقلية. وقال ديكارت في ما بعد: إن الإنسان قد يقضى حياته في المدن الحديثة دون أن يكلم شخصا آخر. واستدل الكاتب على علاقة الأشكال المعمارية بالمفاهيم والحالات المختلفة، انطلاقا من أن العمارة القوطية التي ظهرت مع القرن الثاني عشر، واستمرت عدة قرون، تسبب الشعور بالغرابة عند البعض. وهو ما برره بأن شكلا جديدا من العمارة قد ظهر وارتبط أكثر من غيره بالخوف والموت، ومرجع هذا كان ارتباطه بأماكن العبادة (الكنائس). وأيضا هناك الغرابة التكنولوجية، تلك التي بدأت بعد اكتشاف غاليليو للميكروسكوب أو المجهر. وهو ما زكى فكرة السحر الطبيعي، ذلك السحر القائم على توظيف التكنولوجيا والمتاح والطبيع، وقد عرفه البعض. وهو مختلف عن السحر الأسود الذي يفسر بما وراء الطبيعي. وكان كتاب ديلابورتا «السحر الطبيعي»، الصادر عام ‬1558م، أول ما رصده، حيث شرح الحيل التي يمكن أن تصنعها المرايا، واستخدام بعض المواد لإزالة بقع الملابس، التي عدت حينها، معجزة ساحرة.

الكتاب: الفن والغرابة.. مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة

تأليف: د. شاكر عبد الحميد

الناشر: سلسلة «الفنون» الهيئة المصرية للكتاب

القاهرة ‬2010

الصفحات: ‬540 صفحة

القطع: الكبير

Email