«الثقة» هي اللحمة الأساسية في تماسك المجتمعات. وبدونها بين أفراد ينهار البناء الاجتماعي كلّه. إن «ميشيلا مارزانو»، أستاذة الفلسفة في جامعة السوربون، تشرح في كتابها الأخير «عقد فقدان الثقة» كيف أن فقدان هذه الثقة يمثل الشرّ الأكبر بالنسبة للقرن الحادي والعشرين. ذلك أن الخوف وأشكال الإفلاس والحروب ومظاهر الاغتراب المختلفة تهدد الجميع وفي كل مكان. باختصار ترى المؤلفة أننا «نعيش في عالم يسيطر عليه الحذر».

إن المؤلفة تحاول في هذا العمل توضيح العلاقة القائمة اليوم في المجتمعات الغربية خاصة والمجتمعات الإنسانية عامة مع الثقة، وذلك عبر منظورين تاريخي وفلسفي، واعتبارا من القرن الثامن عشر وحتى الأزمة المالية العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية في عام ‬2008، ومن ما تسميه المؤلفة بـ»الأنانية اللبرالية» حتى «الشكوك» التي أثارتها نظريات المؤامرة، ومن ذلك الإخلاص الذي عرفه الحب إلى هذا الزمن الممهور بالنزاعات القضائية المتعاظمة في الإطار العائلي. تدل إحصائية مقدّمة أن نسبة ‬70 بالمائة من القضايا التي تنظر فيها المحاكم العامة في فرنسا تخص شؤونا عائلية.

إن الشعارات الخاصة بالثقة تملأ الخطاب السياسي المعاصر. هذا تماشيا مع مفهوم «عقد الثقة» الشهير. لكن هذا الخطاب أصبح ذا طابع «إعلاني» بالدرجة الأولى، ذلك أن الثقة مفقودة بين جمهور الناخبين وممثليهم، بين الشعب ورجال السياسة. وما تؤكده المؤلفة هو أن الأزمة المالية العالمية الأخيرة لم تكن لها آثارها على صعيد الاقتصاد فحسب، ولكنها هزت أيضاً الثقة بالنخب عامة ليحل محلّها الحذر وصولا إلى القول: «إنهم،أي ممثلي النخب عامة،لا يقولون لنا شيئا ويخفون عنا كل شيء».

المشهد العام كما ترسمه المؤلفة يتسم بفقدان الثقة بوسائل الإعلام وبرجال الإعلام وحتى بالقضاة وبرجال الكنيسة. لقد حلّ الحذر مكان الثقة، الأمر الذي يجد التعبير عنه في الانتشار الكبير لمختلف نظريات المؤامرة وبأن هناك قوى خفيّة هي التي تحرّك العالم وتدير شؤونه. ومثل هذا التفكير ينتشر خاصة في الولايات المتحدة الأميركية وفي القارة الأوروبية القديمة. ولا تتردد مؤلفة الكتاب في القول ان شيوع نظريات المؤامرة هو الوجه الآخر لواقع فقدان الثقة بين أصحاب القرارات وبين الذين تتوجه لهم هذه القرارات.

بالتوازي مع شيوع نظريات المؤامرة سادت في الغرب إيديولوجية تحدد المؤلفة مرحلة انتصارها الأساسية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان ورئيسة وزراء بريطانيا آنذاك مرغريت تاتشر. ويتم تحديد جوهر هذه الإيديولوجية في «عدم التبعية لأحد»، ومما تمت ترجمته في «عدم الثقة بأحد» إلا «الثقة بالذات». وهكذا ازدادت النزعة الفردية في المجتمعات الغربية «الفردية أساسا».

إن المقابل المباشر لفقدان الثقة بالآخر هو الانكفاء على الذات كخطوة ستؤدي بالضرورة إلى حالة من الخوف والقلق. مثل هذه المشاعر غدت بمثابة الخبز اليومي لأبناء المجتمعات الغربية الراهنة. هذا على الرغم من أن هذه المجتمعات أكثر ثراء وزادت القوة الشرائية فيها وبالتالي القدرة على أن تكون أكثر «اطمئنانا وثباتا» مما كان الأمر قبل قرن من الزمن. لكن الواقع يقول غير ذلك، بل يقول عكس ذلك. إن الحذر يدفعنا إلى «الخوف من أدنى خربشة في الغابة»، كما تنقل المؤلفة عن فرانز كافكا. وتؤكد المؤلفة في تحليلاتها على أهمية فكرة «التعاقد» بين أبناء المجتمع الواحد. ذلك أن العقد يقضي بالضرورة التزام الجميع ببنوده، ومن لا يفعل ذلك يعرّض نفسه للعقاب. وتتم الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت العقود «تتكاثر» على مختلف أصعدة «الأعمال» والعلاقات، وخاصة مع المؤسسات المالية، فإن هذا لا يدل على قيام التعاقد على أساس «الثقة»، بل بالعكس على «نقصها». كذلك تتم الإشارة هنا إلى ظاهرة شهدتها السنوات الأخيرة في المجتمعات الانكلوسكسونية، الانجليزية والأميركية، ومفادها تقديم شكاوى لدى المحاكم ضد الأقرباء والأصدقاء وحتى الأبوين.

وترى المؤلفة وجود خطر حقيقي في جعل جميع العلاقات الإنسانية خاضعة لمفهوم «العقد». ذلك أن «الثقة» لا يمكن أن تقوم بين المريض والطبيب ولا بين الشخص ومن يحب ولا بين الشركاء وتحت سقف واحد عبر عقده. ثم كيف يمكن تصوّر الصداقة والحب بدون الثقة؟إن إعطاء «الثقة» للآخر أصبح يعني اليوم «مخاطرة» التعرض للخيانة. هناك إذن تحوّل «تاريخي» بالقياس إلى الماضي.

الكتاب عقد فقدان الثقة

تأليف: ميشيلا مارزانو

الناشر: غراسيه

باريس ‬2010

الصفحات: ‬320 صفحة

القطع: المتوسط

Le contrat de défiance

Michela Marzano

Grasset - Paris

320p .